“مولدوفا.. صورة من عدم اليقين”.. هواجس غزو مُحتمل يُعيد أمجاد الإمبراطورية السوفياتية
ينقل الوثائقي الإسباني “مولدوفا.. صورة من عدم اليقين” (Moldova: retrato de una incertidumbre) الإحساس المتزايد بالخوف لدى الشعب المولدوفي، من احتمال أن يكون بلدهم هو الهدف القادم لـ”بوتين” بعد غزوه أوكرانيا.
وللإحاطة بالأسباب المبررة لتلك لمخاوف والهواجس يقدم الوثائقي الإسباني مشهدا واسعا يعكس ما تعيشه البلاد بعد استقبالها أعدادا كبيرة من اللاجئين الأوكرانيين، وبشكل خاص القادمين من مناطق قريبة من حدودها، مما يشكل عبئا اقتصاديا ثقيلا على بلد يعد من بين أفقر الدول الأوروبية.
كما تزداد المخاوف بسبب وجود مناطق ما زال للروس نفوذا كبيرا فيها، مثل إقليم جاجاوزيا المتمتع بالحكم الذاتي، وإقليم ترانسنيستريا الذي يخشى المولدافيون أن يستغله “فلاديمير بوتين” ذريعة لشن حرب عليهم، بحجة حماية الأقلية الروسية فيه، كما تذرع بالهجوم على إقليم دونباس الأوكراني.
مولدوفا.. غزو روسي مُحتمل يقلق السكان
يولي الوثائقي موضوع اللاجئين الأوكرانيين أهمية كبيرة، مثلما يولي الجانب السياسي والتاريخي لمنطقة ترانسنيستريا التي يريد الروس فصلها عن مورافيا وإعلانها دولة مستقلة، رغم رفض العالم كله الاعتراف بها رسميا.
ينقل صانع الوثائقي معلومات عن طبيعة المنطقة المتنازع عليها، والتي للجيش الروسي فيها وجود متمثل بـ1500 جندي وأسلحة وذخائر تزيد كميتها عن 20 ألف طن، وبوجود مدرسة عسكرية يمكن للروس إن أرادوا تحويلها إلى قاعدة عسكرية.
هذا الوضع يثير قلق سكان المناطق المولدافية القريبة من تلك الموالية للروس والقريبة من الحدود الأوكرانية، وبشكل خاص المدن الجنوبية مثل أوديسا وغيرها، وقد ازداد القلق مع انتقال كثير من الأوكرانيين إليها طلبا للحماية، ومع ذلك أبدوا كما يظهر من جولة الوثائقي في شوارعها وبيوتها تضامنا إنسانيا معهم.
ضيافة اللاجئين.. عطف دافئ في البيوت المولدافية
يوثق الفيلم الإسباني من خلال دخوله لبعض البيوت أشكالا رائعة من العطف والعناية بالقادمين إليها هربا من الموت، كما تعمل الحكومة المولدافية على توفير المستلزمات الضرورية لاستقبالهم، رغم قلة إمكانياتها المادية، وحسب المعطيات المقدمة في الوثائقي فإن مولدوفا تعد من بين أكثر الدول الأوروبية استقبالا للأوكرانيين، نسبة إلى عدد سكانها الذي يبلغ أكثر بقليل من مليونين ونصف المليون مواطن.
يقابل صانع الوثائقي متطوعين يقومون بمساعدة القادمين الجدد من أوكرانيا للحصول على سكن مناسب لهم، كما يقابل أشخاصا فتحوا بيوتهم للقادمين من البلد الجار المنكوب، وكانت العناية الأساسية موجهة للأطفال، فأكثرهم يعانون من حالات نفسية قاسية، بسبب ما شاهدوه من فظائع ارتكبها جيش “بوتين”.
شهادات اللاجئين -وبشكل خاص من أوديسا وخاركيف- مرعبة في تفاصيلها، فهم يتحدثون عن القصف الوحشي الذي يمتد أحيانا لأيام دون توقف، وأن الأطفال يشعرون بالرعب كلما سمعوا صوت الطائرات المغيرة عليهم، أو أصوات الصواريخ القادمة من العمق الروسي، أو من منطقة دونباس.
جدار الاتحاد الأوروبي.. ملاذ بلد محايد يرفض ألاعيب الروس
يقابل الوثائقي رجلا متقاعدا من سكان مدينة بوبياسكا الحدودية، يصرف كل راتبه التقاعدي البسيط على اللاجئين ويشعر رغم ذلك بسعادة، حديثه يكشف عن دراية مسبقة بطبيعة الصراع الجاري هناك، وكيف يفكر “بوتين” لاستعادة الامبراطورية السوفياتية الزائلة.
يعترف الرجل الكريم بأن بلده صغير، لكنه لن يسمح للروس بالسيطرة عليه في حالة تكرارهم نفس التجربة الأوكرانية، ولا يمل من تكرار وصف مولدوفا بالبلد المحايد الراغب في تجنب الصراعات والنزاعات العسكرية التي يريد “بوتين” توريطهم بها من خلال إثارته -بعد غزوه أراضي أوكرانيا- موضوع ترانسنيستريا، ورغبته في إعلانها دولة مستقلة تجاور الدول الأوروبية المنضوية لحلف الناتو.
يؤكد المؤرخون المشاركون في الوثائقي على حيادية مولدوفا أيضا، لكنهم يؤكدون رغبتها في التقارب مع أوروبا، ضمانا لسلامتها من أي هجوم روسي محتمل.
هذا السيناريو المخيف يفرض نفسه بناء على تجارب تاريخية ليست ببعيدة، من بينها الحرب التي جرت بإقليم ترانسنيستريا بين الموالين لروسيا والمولدافيين عام 1990، حين أعلنتها روسيا منطقة مستقلة، لكن الجيش المولدافي استطاع تحريرها من القوات الروسية، وبعدها في عام 1996 توقيع معاهدة لوقف إطلاق النار بين الجانبين.
“بوتين”.. طموحات باستعادة الإمبراطورية السوفياتية
يؤكد المؤرخون أن كثيرا من مدن الإقليم المتنازع عليه ما زالت تتجاهل مع المركز، وتعتبر مدينة مثل تيراسبول نفسها مستقلة عنه، فلها ميزانية خاصة مدعومة من موسكو ومدارس تعلم طلابها باللغة الروسية، وكل مؤسساتها الصحية والاجتماعية تدار من قبل إدارة موالية للكرملين، والأخطر أن للجيش الروسي وجودا قويا فيها. يصف المؤرخون الإقليم ومدنه مثل مدينة أبخازيا الجورجية التي صارت عمليا جزءا من روسيا الاتحادية.
ينبه المحللون إلى طموح “بوتين” للسيطرة على كامل ساحل البحر الأسود من خلال السيطرة على مدينة أوديسا الساحلية، وبذلك يصبح الروس قريبين أيضا من المدن الموالية لهم في مولدوفا، ويضحي إعلانها دولا مستقلة محتملا، كما حدث مع مدينتي دونيتسك ولوغانسك الأوكرانيتين.
الهدف الأساس من تلك السياسة هو رغبة “بوتين” في إقامة إمبراطورية روسية جديدة تعيد كل الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي إليها، وعلى المستوى الإستراتيجي جعلها نقاط مواجهة مع دول الناتو في حال نشوب صراع مسلح معها.
المخاوف من تلك السيناريوهات المعززة بتجربة أوكرانيا الأخيرة تدفع الحكومة المولدافية للإسراع بتقديم طلب انضمام لدول الوحدة الأوروبية بعد أسابيع قليلة على الغزو الروسي لجيرانه.
إقليم غاغاوزيا.. شعب ينطق بلسان وسياسات موسكو
يعطي الوثائقي بعض الوقت لعرض النشاط الحكومي لتوجه مولدوفا، وأيضا لفهم رغبة الشعب المولدافي في أن يكون جزءا من أوروبا، وتشي مقابلة الوثائقي لسياسيين مولدافيين برغبتهم في تأمين خط دفاعي متين عبر الانضمام للاتحاد، وهو يفتح أيضا ممرا لعرض المخاوف الداخلية الجديدة التي يثيرها وضع إقليم غاغاوزيا المتمتع بالحكم الذاتي، وضمان التعامل معه بضمانات أوروبية في حال خروجه عن الإطار القانوني الذي ضمنه الدستور المولدافي.
ورغم اختلافه الكبير عن إقليم ترانسنيستريا، لكونه معترفا بحكمه الذاتي من قبل مولدوفا منذ عام 1994، فإن انحياز سكانه لروسيا في حربها ضد أوكرانيا يثير مخاوف جدية.
يذهب صانع الوثائقي إلى عاصمة الحكم الذاتي كومرات ليعرف أحوالها وكيف يفكر سكانها، أغلبيتهم يتحدثون الروسية مع اعترافهم بأصولهم التركية. هذه الازدواجية تتضح من خلال اتباع السكان للديانة المسيحية، وإلى جوارها هناك إيمان راسخ بالأفكار الاشتراكية يتمثل بوجود نصب تذكاري لقائد ثورة أكتوبر 1918 “فلاديمير لينين”، مما يشير إلى الاختلاط والتشابك الديني والسياسي والعرقي للمنطقة التي لا يجد سكانها حرجا من تكرار نفس العبارات الدعائية التي يرددها الإعلام الروسي أثناء الحرب على أوكرانيا.
تبعية مواطني إقليم غاغاوزيا لروسيا يثير تحفظات في مناطق أخرى من البلاد، وتعيد للأذهان صراعات عام 1994، لكن مع ذلك فالجو العام هادئ في المدينة التي استقبلت لاجئين أوكرانيين كثيرين وعاملتهم باحترام وتقدير، بعض المشاركين منهم في الوثائقي يؤكدون عليه، كما يؤكد سكانه على التراجع الحاصل في مستوى معيشتهم بسبب الحرب القريبة من حدودهم.
لقد فقدت زراعة العنب التي اشتهرت بها مناطقهم كثيرا من صادراتها، ورغم اعتدال مناخ الإقليم وتوفره على أراض صالحة للزراعة، فإن محاصيلها لم تعد تغطي حاجات الناس الذين لجأوا إلى وسائل أخرى للعيش غير الزراعة، منها الهجرة للعمل في الدول الأوروبية القريبة.
غجر أوكرانيا.. لاجئون من الدرجة الثانية تحت وطأة الحاجة
لا يكتفي الوثائقي بالتوقف عند الصعوبات الناتجة من موجات الهجرة الكبيرة، بل إلى بعض السلوكيات المتعارضة مع قيم الديمقراطية وحقوق الانسان، مثل التعامل الرسمي المختلف مع الغجر الأوكرانيين الذين وضعوا في معسكرات استقبال لا يرتقي مستوى الخدمات فيها لنفس مستوى الخدمات المقدمة للأوكرانيين الآخرين.
تدفع الحاجة أولئك الغجر لخفض مستوى نبرة مطالبتهم بالمساواة مع غيرهم من اللاجئين، لكنهم في الوقت نفسه لا ينكرون فضل مضيفيهم عليهم وهم بأمسّ الحاجة إلى مكان يحميهم من الموت القادم من روسيا إلى مدنهم، ولا يعرفون متى سينتهي.