“سينكو”.. مراهقة مشاكسة تسقط طاغية الصيادين في جزيرة إيرانية

كانت شافا رغم عيشها في مجتمع متزمت في جزيرة سينكو في جنوب غرب إيران تحلم باقتناء منزل كبير وزورق بحري، وتتمنى أن تكون بحوزتها دراجة نارية وحاسوب شخصي وهاتف نقّال، مثل بعض أقرانها من العوائل المُوسرة التي لا تحرم أبناءها من منجزات العصر الحديث، لكن ليس كل ما تتمناه هذه الفتاة المراهقة قابلا للتحقيق، فوالدها صيّاد سمك مثل بقية الصيادين في هذه الجزيرة النائية التي يحكمها رجل ثري محلي يرى أن المال يمكن أن يشتري كل شيء، ويوفر له سطوة دائمة على مجتمع الصيادين برمته، ويتحكم بأحلامهم وتطلعاتهم المستقبلية.
لا يقتصر فيلم “سينكو” للمخرج الإيراني علي رضا محمدي على موضوع واحد أو اثنين، مثل الحفاظ على البيئة أو الإثراء السريع، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، فقصة الفيلم -التي كتبها محسن فرج الله بالاشتراك مع ليلى نيكزاد- تتمحور على موضوعات متعددة تبدأ بالأبوة والأمومة ومجتمع الصيادين والسكان الأصليين، قبل أن يشتد التركيز على المراهِقة شافا وقصة حُب شقيقتها رضوانة للصياد حبيب الذي يخشى مواجهة برات خان، وهو الشخص القوي الذي يتحكم بمصائر الصيادين ويتلاعب بمقدراتهم ليل نهار.
شافا.. مراهقة مغامرة خارجة عن المألوف
ينصبّ تركيز المخرج منذ البدء على شخصية شافا، فهي فتاة مراهقة وذكية وخارجة عن المألوف، تتسابق مع الفتيان المراهقين، وتقود الدراجة الهوائية والنارية والسيارة، وتدافع عن الأصدقاء الضعفاء، وتنقذ الكلاب والحيوانات الأخرى من الأخطار المُحدقة بها، ولا تجد حرجا في التصويب بمقلاع يدوي على جارهم آيت وإصابته في رأسه، لأنه يتلصص بالناظور على فناء منزلهم، وينتهك أسرارهم الشخصية وخصوصياتهم العائلية.
باختصار إنها فتاة مغامرة وتقوم بما يخشاه الصبيان أنفسهم، وهي بالنتيجة تستحق هذا التركيز، وأن تكون في صُلب اهتمام المخرج وعنايته الخاصة. وعلى الرغم من أنّ والدها غفور يوبخها دائما بألفاظ قاسية، لكنها تنفّذ في خاتمة المطاف ما يدور في خَلَدها.
تبدأ انعطافة الفيلم الأولى حينما يصطاد غفور والد شافا أربع سلطعونات من نوع نادر يُطلَق عليه اسم “حدوة الحصان”، وتحتوي على دماء غالية الثمن، وإذا ما بيعت بسعر مناسب فإنها سوف تُثري صيادي القرية برمتهم، ناهيك عن غفور الذي اصطادها بشباكه، وأخذ يطالب برات خان بحصة أكبر من بقية الصيادين.

حدوة الحصان.. سلطعونات نادرة تقلب حياة الصيادين
يحتفظ غفور بالسلطعونات الأربع في منزله، ويضعها إلى جوار فراشه في غرفة النوم، لكن فضول شافا يدفعها إلى معرفة هذا الصيد الثمين الذي أثار سكّان القرية، وكان السبب في إقامة حفل باذخ رقص فيه الجميع فرحا، لأن برات خان وعدهم بتوزيع النقود التي سيجنيها من بيع السلطعونات النادرة.
تكتشف شافا أن السلطعونة الأكبر حجما هي الأم، وأن الثلاث الصغيرات هنّ بناتها، ويشكلن جميعا المعادل الموضوعي لأسرتها التي تتكون من الأب غفور وأختها الكبرى رضوانة، وأختها الأصغر “آلا”، أما الأم فقد ماتت غرقا، بينما كانت تحاول إنقاذ أحد الصبيان من الغرق، لكن شافا تتواصل معها في الأحلام، وتسمع صوتها حتى في أوقات اليقظة والمنام.
تتعاطف شافا مع السلطعونات الأربع، فتتسلل إلى غرفة نوم والدها، وتسرق الحاوية وتأخذها بعد منتصف الليل إلى حافة البحر، وتُطلقها في مياه الخليج، ثم تعود إلى منزلها ظانة أن الليل قد كان غطاء لهذه الحادثة التي ستقلب حياة الصيادين في القرية رأسا على عقب.
سرقة الكنز.. عاصفة في القرية ومغامرة في القارب
حينما يستفيق الأب صباحا لا يجد حاوية السلطعونات فيفقد صوابه، ويذهب مباشرة إلى برات خان ليخبره بالسرقة التي هزّت كيانه، لكنه لا يصدّق ادعاء غفور، ويتهمه بإخفائها في مكان مجهول كي يبيعها ويحصل على ثمنها لوحده، فيقسم له بالأنبياء والمُرسلين بأنه استيقظ من النوم ولم يجد أثرا للحاوية، فيشتمه بأقذع الألفاظ ويحمّله مسؤولية السرقة بالكامل، ويطلب منه الكشف عن المكان الذي أخفى فيه هذه السلطعونات الثمينة. وحينما يحاول الحلف بأغلظ الإيمان يرسل رجاله ليفتشوا كراكيب المنزل، ويمعنون في شتمه والإساءة إليه.
لم تتحمل شافا إهانة والدها بهذه الطريقة المشينة فذهبت إلى حبيب لتساومه بعد أن رأته بأم عينها وهو يضع الرداء الأحمر على رأس أختها رضوانة، وتلك إشارة واضحة إلى علاقة الحُب القائمة بينهما، فتطلب منه زورقه الصغير وهاتفه النقال، بعد أن اعتذر عن إعارتها الزورق البحري الكبير، لأنه متعطل كما يدعي، فتتجه صوب الجزيرة معتقدة -بحسب رواية الأم المتوفاة- بأن سلطعونات حدوة الحصان تعيش في ذلك المكان الموحش والنائي بعض الشيء، فيأخذ الفيلم طابع المغامرة، خاصة أن البطلة مراهقة لم تبلغ سن الرشد بعد.

جزيرة الصخور السوداء.. رحلة خطيرة إلى وكر السلطعون
لا تفوت آيت ابن جارهم الطبيب أي صغيرة أو كبيرة، بفضل الناظور الذي يراقب فيه كل شيء تقريبا، فقد رآها بعد منتصف الليل وهي تأخذ السلطعونات إلى حافة البحر، وها هو الآن يتابعها وهي تمخر عُباب البحر باتجاه الجزيرة، وهددته بأن تسلخ جلده حيا إذا سرّب خبر توجهها إلى الجزيرة أو إعادة السلطعونات إلى البحر.
وقد جاء برات خان بنفسه إلى بيتهم، وأمطر والد شافا بوابل من الإهانات والشتائم، وتوعده بالطرد من القرية، لأنه لا يريد مستأجرا لصا في مضاربه، الأمر الذي أثار حفيظة السكّان وألّبهم عليه وعلى أسرته بكاملها.
تتحدث شافا مع صورة والدتها الراحلة كلما حاصرها موقف صعب، أو وقعت في محنة كبيرة، فالسلطعونات ستموت إذا أعطتها إلى برات خان، وإذا رفضت تسليمها فإنه سيطردهم خارج الجزيرة، خصوصا أن السكّان باتوا يكرهونهم ويعاملونهم معاملة فظة لا يُحسَدون عليها، حتى أن حبيب بات يتهرّب من رضوانة ولا يلبي لها طلبا، خشية أن يكون هو الهدف الثاني إذا ما طُردت عائلة غفور من الجزيرة.
تتعقد الأمور أكثر حينما يعرف غفور بأن حبيب قد أعارَ ابنته شافا الزورق الصغير من دون أن يخبره، فالفتاة صغيرة ويمكن أن تغرق في عرض البحر، أو يحصل لها مكروه في الجزيرة المخيفة “الصخور السوداء”.
وفي خضم هذا النقاش المُحتدم تخرج أخت حبيب، وتطلب من غفور المغادرة، لأنها لا تريد لأخيها أن يكون شريكا في جريمة السرقة، وحينما تُمعن في توبيخه يغادر المكان ويلعن حظه العاثر مع الجيران الذين تقاسم معهم رغيف الخبز.
نفاد الزاد وتحطم الزورق.. أمواج الإثارة العاتية في الجزيرة
تتضاعف جرعة التشويق حين ينفد زاد شافا من الماء والطعام، فقد وضعت في الحسبان أن تذهب صباحا وتعود قبل حلول الظلام، جالبة معها السلطعونات الأربع التي ستعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وتسترجع كرامة الوالد ونزاهته، لكنها علقت هناك لمدة يومين ولم تجد شيئا.
وحينما قررت العودة كان زورق حبيب قد تحطّم، فصنعت من ألواحه طوافة عائمة، لكنها لم تستطع الإبحار بها. وبالمصادفة المحضة وجدت زورقا قديما دفعتهُ الأمواج العاتية إلى الجزيرة النائية، فركبت فيه على وجه السرعة، وأخذت تجدف حتى وصلت إلى حافة الساحل بصعوبة، وهناك كان حبيب ووالدها غفور في استقبالها، فقام بنقلها إلى البيت، وشرع الطبيب بمعالجتها من فوره لتتماثل إلى الشفاء رويدا رويدا، وتعود لمزاولة حياتها اليومية المُشاكسة، رغم تنبيه والدها وبرات خان الزوج المرتقب لأختها رضوانة.
ففي غيابها يومين كاملين حصل ما لم يقع في الحسبان، إذ التقت رضوانة بعد نصائح أبيها ببرات خان، ووافقت أن تكون زوجته الثالثة، شرط أن يلبي طلباتها بأن تكون سيدة منزلها والآمرة الناهية فيه، وسوف يحترمها، ويُغرقها بالمال والمصوغات الذهبية، كما أنه سيدفع تعويضات مُجزية إلى الصيادين ليسدّ أفواههم ويُنسيهم أمر السلطعونات المسروقة.
الزوجة الثالثة.. زواج مفاجئ يفسد علاقة الحب
لم تكف شافا عن مشاكساتها، فهي تتدخل في كل شيء تقريبا، وتثير حفيظة العائلة برمتها، وحينما نجت من موت محقق عرفت بموافقة أختها على الزواج من برات خان، رغم أن لديها علاقة عاطفية بالصياد حبيب الذي رأته وهو يضع الرداء الأحمر على رأسها، فما الذي يدفعها على الاقتران ببرات خان، وأن تكون زوجته الثالثة؟
فالحب الحقيقي أثمن من المال، وأغلى من المنزل الكبير أو الزورق البحري الحديث، كما أنها لن تكون أكثر من وعاء يفرّغ بها برات الأرعن شهواته الجسدية العابرة من دون حُب أو عاطفة إنسانية متأججة.
ورغم أن برات بدأ يفرض شروطه عليها، كأن تكون فتاة جيدة وتجلس في البيت، ولا تخرج منه إلا بإذن، وأن تقوم ببعض الأعمال المنزلية بدلا من التسكّع في أزقة القرية وشوارعها، تعترف رضوانة بأنّ شافا فتاة شجاعة، بل إن أمها قالت ذات مرة لرضوانة “إنّ شافا أقوى وأذكى منكِ”، والدليل أنها عبرت إلى الجزيرة المُوحشة بقارب صغير وهي لا تُجيد السباحة، وقد عادت بزورق متهالك، ووصلت إلى برّ الأمان بعد مشقة لا تتناسب مع عمرها الغض وتجاربها القليلة.

سرقة السلطعون من حاوية الزورق.. اعترافات الأخت المشاكسة
تعترف شافا لأختها رضوانة بأنها كذبت على الجميع، فهي التي سرقت السلطعونات من غرفة أبيها، وهي التي أعادتها إلى البحر، لأنها لا تريد لهذه الكائنات البحرية أن تموت، ولم تكن تعرف بأن الناس سيؤذون والدها إلى هذه الدرجة، وأن أختها ستُجبر على الزواج بشخص لا تحبه.
تدعّي رضوانة العكس تماما، وتقول إنها تزوجت وفق إرادتها الحرّة، ولم تُجبَر على الزواج، لكن الحقيقة الدامغة ظلت مدفونة في أعماقها، وليس من الصعب معرفة تعلّقها بحبيب وانجذابها إلى دائرته العاطفية التي تطوّقها من كل الجهات.
وعلى الرغم من تهديدات رضوانة بأنها ستحرق نفسها إن تدخلت شافا وخلقت مشكلة جديدة، فإن هذه الأخت المشاكسة قد ذهبت إلى زورق برات خان وسرقت منه حاوية السلطعونات، بينما كان يحاول بيعها إلى تاجر أجنبي.
“سنخرج من الجزيرة إذا كان هذا يُسعدكم”.. درس وعظي
حين تتطور الأحداث يقوم برات خان بملاحقة شافا ويقبض عليها، ويسلّمها لأخيه فؤاد ويطلب منه تقييدها حتى تنتهي حفلة الزفاف، لكن آيت يتدخل ثانية ويضرب فؤاد على رأسه، ويفك قيود شافا، لتأتي إلى الحفل وتقوض كل شيء، وتكشف للجميع بأن من سرق السلطعونات هو برات خان، وأن أخاه فؤاد كان يراقبها بعد منتصف الليل خارج المنزل، وقد تتبعها وهي تطلق السلطعونات في مياه البحر، لكنه أعادها إلى الحاوية واحتفظ بها في الزورق البحري الراسي في الميناء.
ولولا هذه السلطعونات لما اكتشفنا طبيعة الناس السيئين، وعلى رأسهم برات خان الذي اتهمنا بسرقة السلطعونات وشجعكم على إزعاجنا لطردنا من الجزيرة والاستئثار بالثمن الغالي لهذه الحيوانات البريئة.

يأخذ الفيلم منحى خطابيا ووعظيا في المشهد الأخير الذي تخاطب فيه مجموعة من أبناء القرية، وتقول فيه: لقد سرق برات خان السلطعونات بنفسه، وأراد أن يتزوج أختي رضوانة، وسوف يواصل خدعه المتتالية ليتزوج في كل سنة واحدة من فتياتكم، من دون أن تعرفوا أنه كذّاب وشرّير.
نحن أفقر عائلة في هذه الجزيرة، وأنا أعرف طبيعة الصعوبات التي يعاني منها أبي، وقد علّق آمالا كبيرة على ما سيجنيه من بيع السلطعونات بسعر باهظ، لكنني لم أندم أبدا لأنني أطلقتها في مياه البحر، لأنني موقنة تماما بأنه لا أحد يستطيع أن يُصبح ثريا بين ليلة وضحاها. وإذا ما تحقق له ذلك فإنه سيفقد ثروته لا محالة، لأنها جاءت على حساب كائنات بريئة لم تقترف ذنبا.
سنخرج من الجزيرة إذا كان هذا الإجراء يُسعدكم، لكن ينبغي أن نترك السلطعونات تتمتع بحياتها، فقد عاشت لوحدها مئات السنين، ولا بد أن تعيش لسنوات أطول حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ثمار التضحيات تسقط الطغاة.. تمجيد القيم الاجتماعية
يمجِّد هذا الفيلم الفتاة المراهِقة التي تحافظ على البيئة، ويثني على الفتاة الشابة التي تحمي الأسرة من التفكك والانهيار، ويعظِّم دور المرأة الأم التي تضحي بنفسها من أجل إنقاذ الطفولة، لكن يظل المعنى الرمزي هو الأقوى، فالشخصية المهيمنة على القرية والمتحكِّمة بمجتمع الصيادين يمكن مقارنتها بأي حاكم متجبِّر يقمع شعبه ويتلاعب بمقدراتهم كيفما يشاء.
تقول رسالة الفيلم بوضوح لا غُبار عليه إنه مهما طال هذا التجبّر والاضطهاد، فإنه سوف ينتهي لا محالة، تماما كما انتهى برات خان، وسقط من أعين الصيادين جميعا في جزيرة سينكو.
بقي أن نقول إن المخرج علي رضا محمدي روزبهاني قد أنجز فيلمين قصيرين، وهما “عفن” و”إلزامية التحرّك”، وأما “سينكو” فهو فيلمه الروائي الأول، وقد اشترك في الدورة الـ62 للمسابقة الرسمية لمهرجان “زلاين” (Zlin) السينمائي الدولي لليافعين والشباب.