“إيو”.. رحلة من الخيال والكفاح السينمائي بعيون حمار
الحمار حيوان مظلوم، فهو متهم بالغباء، كما يسيء الإنسان معاملته، على العكس من الحصان مثلا الذي يحظى بالاحترام، لكنه في الحقيقة من أكثر الحيوانات طيبة وحساسية وذكاء أيضا.
الأفلام الروائية عن عالم الحيوان قليلة، والأفلام عن الحمار تحديدا نادرة، بل يمكن أن يتذكر المرء فيلما واحدا من الأفلام البارزة في تاريخ السينما حظي فيه الحمار بمكانة عالية، أي احتل موقع البطولة، وهو الفيلم الفرنسي “بالصدفة يا بالتازار” (Au Hazard Baltazar) للمخرج الراحل “روبير بريسون” عام 1966، وهو فيلم لم يفارق الذهن منذ أن شاهدته لأول مرة ضمن عروض نادي سينما القاهرة في عصره الذهبي.
“إيو” البولندي.. فيلم يحتفي بحمار “بالتازار” الفرنسي
ليس من الممكن تناول أو فهم الفيلم الجديد “إيو” (Eo) للمخرج البولندي المخضرم “يرجي سكوليموفسكي” إلا بالعودة إلى فيلم “بالصدفة يا بالتازار” الفرنسي، فالفيلم البولندي الإيطالي الجديد الذي عرض بمسابقة مهرجان كان الأخير، وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة؛ هو تنويعة على فيلم “بالصدفة يا بالتازار” أو احتفاء به وتحية واضحة له، إلا أنه أيضا محاولة تجريبية ناجحة لتقديم رؤية جديدة تتسق مع الأجواء السائدة في العالم حاليا، إنه عمل بديع يشع بالخيال والسحر، ويدور في أجواء تمتزج بروح الفيلم الوثائقي والروائي معا، بحيث تصعب التفرقة بينهما أحيانا.
كان “بريسون” في “بالصدفة يا بالتازار” يقدم رؤية أخلاقية شبه دينية عن العجز الإنساني، أي الجشع والتزمت وعدم المبالاة، وكان يستخدم الحمار ويصور ما يحدث له على أيدي البشر الذين ملأ الشر قلوبهم، وهو شر لا تفسير له عند “بريسون”.
أما في الفيلم الجديد فـ”إيو” -وهو اسم الحمار في الفيلم- هو البطل الحقيقي للفيلم ومحوره، أي أن “سكوليموفسكي” لا يركز هنا على الشخصيات التي تنتقل إليها ملكية الحمار خلال الفيلم كما كان الأمر في “بالصدفة يا بالتازار”، بل تصبح هذه الشخصيات رغم حضورها غائمة، ويصبح “إيو” أساس اهتمام الفيلم، فهو حقا حاضر كشاهد على كل ما يمر به من أحداث ومواقف، لكنه طرف في المآزق التي يتعرض لها دون أن يكون مسؤولا عنها بالضرورة، لذلك يركز الفيلم على انفعالاته، خوفه وتردده وغضبه وشعوره بالوحدة والحنين، بل نراه أيضا في أحلامه وهواجسه الخاصة، وهو ما يضفي على الفيلم جاذبيته وطرافته وسحره الخاص.
تعميد الحمار.. محاكاة لرحلة الإنسان وأحاسيسه
إن الحمار في الفيلم ليس كائنا كرتونيا من تلك الكائنات المتخيلة التي تهدف إلى تسلية الأطفال، بل هو مثل الإنسان تماما من لحم ودم، ولديه أيضا مشاعر وأحاسيس، كما يتمتع بذكاء خاص، على عكس ما هو شائع.
كان “بريسون” في الفيلم الفرنسي يجعل الأطفال يقومون بتعميد “بالتازار” بعد مولده، وذلك في إشارة إلى أنه يمكن أن يقبله الرب أيضا في الجنة مثل الإنسان الجيد، وكنا نراه يمر بالمراحل المختلفة التي يمر بها الإنسان، وهي الطفولة التي يعرف خلالها التدليل، ثم النضج والعمل الشاق، ثم المرحلة التي تسبق الموت.
وكان طوال الوقت شاهدا صامتا عاجزا عن الفعل، يتقاطع مصيره مع مصائر بعض الأشخاص الذين يقابلهم أو يوقعه حظه السيئ في قبضتهم، لكنه على نحو ما كان يرثي لحالهم ويتأسى لما فعلوه بأنفسهم.
حقوق الحيوانات.. نيات حسنة تفسد حياة الحمار
لا نرى مولد الحمار في فيلم “إيو”، لكننا نراه في البداية وهو يؤدي فقرة في السيرك، وبعد انتهاء العرض تقترب منه فتاة السيرك “ماجدا”، وتقوم بمداعبته وتدليله، فهي تشعر بتعاطف قوي مع هذا الحيوان الصامت ذي العينين الواسعتين المعبرتين، وكثيرا ما يقترب المخرج بالكاميرا من عيني “إيو” يريد أن يسبر أغواره، أن يتغلغل بداخله، ويطلع على ما يفكر فيه وما يراه حقا.
لكن سيحدث ما يغير هذا الثبات أو هذه الحالة المستقرة في حياة الحمار، وذلك عندما تتظاهر جماعة من نشطاء الدفاع عن حقوق الحيوان، مناهضة استخدام الحيوانات في السيرك، وتقوم بإطلاق سراح حيوانات السيرك جميعا، ومن بينها “إيو” على غير رغبة منه.
هنا تتضح إحدى الأفكار القوية الراسخة في سينما “سكوليموفسكي”، وهي أن ما يقوم به الإنسان بدافع جيد أو طبقا لنيات طيبة لا يؤدي دائما إلى المنشود منها، بل ربما إلى العكس، أي بدلا من السعادة يحل الشقاء، وهو تحديدا ما سيحدث لهذا الحمار الطيب الوديع.
تأملات الكاميرا.. رحلة حمار في عوالم الريف الأوروبي
يتخذ الفيلم بعد ذلك شكل أفلام الرحلة أو أفلام الطريق، فالتصوير كله خارجي تقريبا، والحمار ينتقل من مكان إلى آخر سواء بإرادته أو بإرادة البشر، وسوف ينتقل عبر بولندا ثم منها إلى إيطاليا. ومن خلال تلك الرحلة يريد الفيلم أن يصور لنا كيف أصبحت الحياة الداخلية في الريف الأوروبي في الوقت الحالي، حيث الفوضى والعبث والجريمة والاستهتار بالطبيعة والشهوة للقتل والنزوع المجنون نحو الاستهلاك.
إنها صورة أكثر قوة مما كان يصوره “بريسون” في فيلمه “بالصدفة يا بالتازار” قبل 56 سنة، ويمكن القول أيضا إنها صورة أكثر كثافة من الناحية السينمائية، أي من ناحية استخدام مفردات السينما، الكاميرا والمونتاج وشريط الصوت والموسيقى، فالمعروف أن المخرج “سكوليموفسكي” البالغ 84 كان منذ بدايته يميل إلى التجريب في الشكل.
لذلك فنحن نرى كثير من اللقطات التي تدور فيها الكاميرا 360 درجة، تلتوي وتهبط إلى أسفل، ثم تتطلع من زاوية شبه قائمة إلى أعلى، تتابع إحدى الطائرات المسيرة وهي تقطع الغابة أو تهبط إلى الأرض، حيث تقترب كثيرا لتتأمل حشرة ما، أو سربا من أسراب النمل أو ضفدعة، في لقطات متخيلة من عيني الحمار نفسه، بل ويصل الفيلم أيضا في بعض المقاطع إلى تصور ما يصلنا باعتباره من أحلام الحمار.
حفل الافتتاح.. قلادة من الجزر تقود إلى سجن المزرعة
لا توجد في الفيلم حبكة أو دراما أو صراع، بل كلها يمكن الإحساس بها من خلال رحلة الحمار وما يتعرض له.
إن معظم الشخصيات التي تظهر في الفيلم لا نعرف عنها الكثير، كما أن الحوار شبه غائب، فالفيلم يتكون من مقاطع تدور في أماكن متعددة يحضر فيها الحمار دائما. فبعد أن يفر بعيدا عن السيرك، يجد “إيو” نفسه وسط احتفال بافتتاح منشأة يحضرها السادة المسؤولون، ويبدو أنه يستمتع كثيرا بما يدور حوله، خصوصا بعد أن يطوّقوا عنقه بقلادة كبيرة من الجزر (في فيلم “بالصدفة يا بالتازار” وضع الأطفال على رأس الحمار إكليلا من الزهور).
لكن يجد “إيو” نفسه بعد ذلك في مزرعة ألحقوه بها مع غيره من الحيوانات، حيث يشاهد ويتعرف على سلوكيات جديدة تمارسها الخيول، إلا أنه غير سعيد، بل ويحن كثيرا إلى صديقته القديمة “ماجدا”، فهي أكثر من تعاطف معه وأحسن معاملته، فيفر ويحاول العودة إليها.
إنه تصوير بديع للعلاقة الغامضة بين الإنسان والحيوان باعتبارهما ينتميان إلى الطبيعة نفسها على كوكبنا الأرضي.
مباراة تحت ضوء القمر.. لعبة بشرية تنتهي بنهاية عنيفة
خلال محاولته العودة يضل “إيو” طريقه داخل الغابة، فيمر بحالة من الرعب الشديد بسبب وجود حيوانات أخرى كالذئاب والثعالب، ويسمع أصوات إطلاق الرصاص من جانب الصيادين الذين يقومون باصطيادها ببنادقهم الموجهة بأشعة الليزر. وهذا تعليق واضح من جانب الفيلم على اعتداء الإنسان على الحياة الطبيعية.
يغادر “إيو” الغابة، لكنه يجد نفسه شاهدا على مباراة عجيبة في كرة القدم بين مجموعة من الرجال المترهلين في ساحة شعبية خارج إحدى القرى ليلا تحت ضوء القمر. لا يوحي أي شيء في تكوين اللاعبين الجسماني بأي رشاقة أو تناسق، فجميعهم مترهلون أقرب إلى عصابات غاضبة صاخبة تتخذ من اللعبة وسيلة للشجار والتنافس والمكايدة، وهو ما سيؤدي إلى اندلاع العنف.
منذ البداية يقف “إيو” يتفرج على المباراة، ليس لديه مكان آخر يذهب إليه حاليا، فهو يريد أن يكون بجوار الإنسان. في البداية يعتقد الفريق المنتصر أن فوزه تحقق بفضل وجود “إيو” نفسه شاهدا على المباراة، فيقودونه معهم إلى حيث يحتفلون بتبادل الأنخاب في الحانة القريبة، لكن الفريق المهزوم لا يقبل الهزيمة، بل يهاجم الحانة بكل قسوة وعنف وباستخدام كل أدوات القتل، وتدور معركة ضارية بين الفريقين، وتتحطم كل محتويات الحانة، ومرة أخرى يجد الحمار نفسه مرغما على البحث عن سبيل للفرار من كل هذا العبث.
لقاء القس.. تشابهات بين عوالم الإنسان والحيوان
لن يطول العهد بـ”إيو” الذي سيصبح شاهدا على عنف من نوع آخر، ويدور بين سائق شاحنة من شاحنات نقل الحيوانات إلى مصانع السجق واللحم المفروم في إيطاليا، وبين لص يحاول الاحتيال وسرقة الشاحنة، ويندلع العنف الذي يؤدي إلى القتل، إلا أن “إيو” أصبح أسيرا داخل الشاحنة التي تسير في طريقها إلى إيطاليا.
لا أود أن أقف كثيرا أمام المشهد الذي يجد “إيو” نفسه في مواجهة مع قس شاب يتعاطف كثيرا معه، وهذا القس يعاني من جبروت وتسلط أمه، وهي كونتيسة تعيش في قصر منيف في الريف الإيطالي (الممثلة الفرنسية إيزابيل أوبير)، فهذا هو المشهد الوحيد في الفيلم الذي يبدو شديد الاختلاف عن سائر أجزائه، كما يختلف في إيقاعه وفي تركيزه على البشر وعلى الحوار، أكثر من اهتمامه بالحمار، وهو في الحقيقة مشهد لا يضيف للفيلم شيئا.
يمكن تخيل المصير السيئ الذي سينتهي إليه الحمار، لكن ليس مهما كيف يصل إلى مصيره، فالمشهد الأخير في الفيلم هو دون أدنى شك الأكثر تأثيرا، بل هو شهادة على جهل الإنسان وحماقته التي تجعله يستبيح البراءة من أجل إشباع غرائزه، وتغذية عجلة الإنتاج الرأسمالي المجنونة، والاستهلاك الذي لا يعرف أي حدود.
ستة حمير بتعابير مختلفة.. عالم من الخيال السينمائي المتناسق
استخدم “سكوليموفسكي” في تصوير الفيلم ستة من الحمير، لكي يستطيع التقاط التعبيرات المختلفة التي يريدها، كما أن الأماكن كانت تتغير باستمرار من بولندا إلى إيطاليا، وقد استغرق تصوير الفيلم عامين نتيجة توقف التصوير مرارا بسبب تفشي جائحة كورونا، وقد بدأ التصوير في عام 2020، وانتهى في مارس/آذار 2022، أي قبل عرضه في مهرجان كان مباشرة.
وقد صور الفيلم بواسطة ثلاثة مصورين تناوبوا عليه، إلا أنه احتفظ بتناغم كبير في طابع الصورة، سواء من حيث الإضاءة أو الألوان، مع غلبة التصوير الليلي، وذلك لما يتيحه من أجواء توحي بالخيال.
واهتم “سكوليموفسكي” كثيرا بشريط الصوت، من المؤثرات الصوتية مثل النهيق وصوت تنفس الحمار وشهيقه وزفراته، إلى الموسيقى التي نجحت في إضفاء تأثيرات خاصة على الصورة كالترقب والقلق والصخب والرعب.
أخيرا يمكن اعتبار فيلم “إيو” في النهاية عملا تجريبيا شجاعا في وقت تصنع غالبية الأفلام طبقا لحسابات الجدوى وشباك التذاكر.