“ثم تغيم السماء”.. مشاهد من عبث الحرب العالمية بعيون الأطفال

يتخذ السينمائيون المواقف المناهضة للحرب، لكن حالما تعوزهم المواضيع الجيدة القادرة على دفع يد المتفرّج نحو جيبه لاقتناء تذكرة مشاهدة أفلامهم، يولون وجوههم شطرها، فيعرضون وقائعها بكاميرا عاشقة تحولها إلى منتوج يدر الأموال، فموضوع الحرب بالنسبة إليهم معين لا ينضب، ووصفة تشتمل على كل الوجبات الدسمة التي يلتهمها المتفرج، فتمزج بين التاريخ والواقع والحركة والإثارة والمشاهد المرعبة والمشاعر المتأججة، حتى باتت طرازا ثابتا قائما بذاته.

لعل الحرب العالمية الثانية نموذج جيد لتعامل السينمائيين النفعي هذا، فلشدة ما خلفته من الخراب والمآسي فقد أضحت أكثر الحروب إلهاما للسينمائيين، وغدت جنسا فرعيا ضمن هذا الطراز الكبير ذي الثوابت القارة، فيمثل الألمان صورة الغازي الوحشي الذي تغلب عليه نزعات الشر، ويمثل المدنيون من الأهالي واليهود ضحاياها، وعندما تتفاقم أوضاعهم وتنهار معنوياتهم يصل المحررون الحلفاء الأبطال لإنقاذهم، فيمثلون قوى الخير. وينتهي الفيلم غالبا على نصر مبين للإنسانية والحرية، فتستعيد الحياة بريقها وتوهجها، وتستعيد القيم صفاءها.

 

ولا شك أن هذا البناء النمطي سيطعّم بقصة حب عذبة لبطل مقاتل، وينتهي على قبلات حارة تجمعه بحبيبته الوفية التي ظلت تنتظره، وتؤمن بعودته سالما مظفرا حين كان اليأس يدب في نفسه وهو في الجبهة، لهذا كله غلب التصنع على هذه الأفلام، لكن شأن فيلم “ثم تغيم السماء” مغاير تماما.

قصف الدرع البشري.. جريمة الإنجليز في أواخر أيام الحرب

“ثم تغيم السماء” وفق الترجمة الفرنسية لعنوان الفيلم (Et le ciel s’assombrit)، أو “ظل في عيني” وفق العنوان الإنجليزي (The Shadow In My Eye)؛ هو فيلم روائي للدانماركي “أول بورندال”، وقد عرض أول مرة عام 2021.

تدور أحداث الفيلم حول هجوم جوي بريطاني على القوات الألمانية يخطئ هدفه، ليلقي قنابله على مدرسة بحي سكني في غاستابو بمدينة كوبنهاغن الدانماركية، فيخلف نحو 120 ضحية من المدنيين، أكثر من ثلثيهم من الأطفال.

الفتاة بطلة الفيلم في لحظة سلم تعيش طفولتها قبل انقلاب حياتها بسبب القصف

الفيلم مقتبس من حادثة حقيقية وقعت في 21 مارس/آذار عام 1945، وذلك حين اتخذت القوات الألمانية الرهائن الدنماركيين درعا بشريا لتؤمن مقر قيادتها من هجمات دول التحالف، وكان على القوات البريطانية التي تتولى مهمة طرد النازيين من الدنمارك، وتعمل على تحرير مدينة كوبنهاغن؛ أن تفعّل براغماتيتها العسكرية وتتخذ الموقف الحاسم، فتهاجم المقر وتضحي بهؤلاء الأسرى، لأن “قتل بعض الأهالي الأبرياء ينقذ عددا أكبر من المدنيين، ويكسر التمدد الألماني” حسب تبرير الحلفاء.

فتيات حفل الزفاف.. شظايا محترقة تفسد بهجة فتى البيض

يبدأ الفيلم مشاهده الأولى بسرد متواز لقصتين فرعيتين تجريان بمدينة “جوتلاند”، وتنتهيان إلى المصير نفسه، وتتمثل القصة الأولى في فتيات يضعن زينتهن ويقصدن حفل زفاف، فيلبسن أفضل الملابس ويتوشحن بالبياض ويتزين في فرح غامر، ثم يركبن سيارة أجرة فيشاغبن الشيخ السائق الذي يأخذهن إلى الحفل.

أما القصة الثانية فتعرض الطفل “هنري” وهو يركب الدراجة ويعبث بمرح صبياني حاملا سلة من البيض.

هن فتيات عزباوات إذن ينشدن المرح، وهو يأخذ البيض إلى السوق ليبيعه من أجل رغيف خبز. تسيطر أجواء الأمل والفرح على المكان، لكن طائرة عسكرية دانماركية تظن أن السيارة تحمل قادة ألمانيين، فتباغتها بقنابلها وتدمرها. يدركها الطفل “هنري” ليرى جثث ركابها المتشظية تحترق، فيصاب بالذهول لتقع دراجته ويُكسر البيض، ويظل الفتى على مدار الفيلم يحاول أن يتجاوز أثر الصدمة، وأن يستعيد قدرته على النطق.

لا تخلو الصورة في هذه المشاهد الأولى من طاقة ترميزية عالية، حيث تكون صورة السماء صافية، وتُعرض منعكسة على بركة المياه، ثم تعبر دراجة “هنري”. يُغيم المشهد ويغلب الوحل على الشاشة بلونه البني، لتسقط الدراجة من هول الصدمة فينكسر البيض.

مشهد من الفيلم يعرض مشاهد القصف واضطراب السكان وهربهم من مدافع الطائرات

بعد البداية المبتهجة يتغير الإيقاع فجأة، ويأخذنا من عالم السلم والهدوء والجمال إلى عالم الحرب والفوضى والقبح، إلى عالم تُلطخ سماؤه الصافية بالوحل، وتروّع فئاته الهشة التي تجمع بين الأطفال والنساء والشيوخ، لتصبح أول ضحايا الحرب بدل أن تُحمى منها.

“اضطراب ما بعد الصدمة”.. غنائم الأطفال من الحرب

يعرض الفيلم وجوها من اعتداء الحرب على الأطفال، فتشاهد الوطني وهو يصيب جسد “سفين نيلسن” برصاصة لأنه واش ويعلم أكثر مما ينبغي، وتُنتزع الطفلة الألمانية من براءتها، وتُربى على الحقد وعلى الأفكار النازية، بينما تُقصف المدرسة إثر خطأ تقديري ترتكبه الطائرات المغيرة.

على هذا النّحو يوجه المخرج عدسته نحو الأطفال، ويلح في تذكيرنا بأنهم يمثلون الشريحة الأضعف في الحروب، وهذا بديهي، فحسب وكالات الإغاثة العالمية فإن المدنيين يمثلون نحو 90% من ضحاياها بين قتلى أو جرحى، ويكون نصفهم من الأطفال.

ومن الأذى الذي يؤثر عميقا على صحتهم الجسدية والعقلية والنفسية، استثمر المخرج الوضعية النفسية التي يُصطلح عليها علميا بـ”اضطراب ما بعد الصدمة”، لينظر إلى الحرب من زاوية تغاير المعهود، وتكسر أنماط السينما التي تستلهمها.

الأطفال داخل الكنيسة وملامحهم تعكس الرعب الذي يعيشونه بسبب القصف

واضطراب ما بعد الصدمة هو حالة نفسية ذهنية تحدث عندما يتعرض المرء إلى حادث هائل يفوق قدرته على التحمل، فيصير مكبلا غير قادر على ممارسة حياته اليومية، أسيرا للشعور بالخطر وإن لم يواجه تهديدا حقيقيا.

فقدان النطق.. إرهاب طبي وعلاج في المدرسة الدينية

وحالة “هنري” كانت عنوانا لهذه الصدمة، إذ فقدَ القدرة على النطق لفظاعة مشهد احتراق السيارة المكتظة بالأجساد المخترقة بالرصاص، وبات يعيش رهاب الخارج والأماكن المفتوحة والسماء التي تزرع من صفائها القنابل المدمرة.

ومما ضاعف الأذى بدائية الطب الذي كان عاجزا عن تشخيص حالته، فبدل أن يأخذ الطبيب بيده ويدفعه إلى تجاوز محنته فقد كان يحاول إرهابه، فالوضعية بالنسبة إليه ناتجة عن ميوعة أفقدته صلابة الرجال الذين خلقوا لمثل هذه المواقف، لذلك لم يكن قادرا على عدم السخرية من الطفل الذي تريد أن تأخذه أمه إلى كوبنهاغن، حيث لا تظهر السماء الصافية، فيرى في ذلك مكافأة للطفل غير مستحقّة.

ومقابل صدّ الطبيب وتنمره، يجد “هنري” التّفهّم عند أترابه، بعد أن يلتحق بالمدرسة الدينية في كوبنهاغن، فيبدون تضامنهم معه، ويحاولون إخراجه من محنته بما يستطيعون.

لقد كان الفيلم مدحا للطفولة، مؤكدا أنها الموطن الحقيقي للسلام الروحي والانتصار الفعلي للإنسانية بقدر ما كان هجاء للحرب.

رصاصات المقاومة المرتبكة.. فوضى أشد على الشعب من الاحتلال

على خلاف عالم الأطفال الذي يرشح تضامنا، انقسم الكهول بين مقاومين رافضين للاحتلال النازي ومتعاونين معه، ولا سبيل لفصل الخلاف بينهم لغير الرصاص، فيُتهم الشّاب “سفين نيلسن” بالتعاون مع المحتل، وبكونه واشيا اندس بين رجال المقاومة وبات يشكل خطرا عليهم بما يعرف من أسرارهم، لتصبح حياته مطلبهم الأكيد.

وحين يطلب “سفين نيلسن” من صديقه “فريدريك” الشرطي المتعاون مع الألمان بدوره، يرفض مساعدته أو يعجز عن ذلك، ولأن الشاب يوقن أنه ميّت لا محالة يناول صديقه 10 كرونات يدين بها له. هل الفتى نزيه طيّب المعدن؟

 

لقد جعل الفيلم المقاومة مرتبكة تؤذي الشعب الدانماركي أكثر من المحتل نفسه، فقد بدأ من الهجوم على سيارة الفتيات إلى القرار بمهاجمة مقر القيادة الألمانية رغم اتخاذها من الأبرياء دروعا بشرية، إلى الهجوم القاتل على المدرسة، ومع ذلك لم يكن المخرج “أُول بورنودال” معنيا بالحطّ من شأنها، ولا بالرفع من قيمة المتخاذلين، بقدر ما كان يلحّ على أن الحرب وحدها المذنبُ الأكبر الذي يربك كل الحسابات ويُسقط كل القيم.

الإيمان المتزعزع.. رصاص يُدخل الشك في قلوب المؤمنين

بقدر تضامن الأطفال وتمسكهم ببعدهم الإنساني في مواجهة الحرب، يتدهور الكهول وتنهار قيمهم الأخلاقية والوطنية والدينية، ففتاة الدير الراهبة “تيريزا” تجلد نفسها مثل يسوعيي القرن الخامس عشر، معتقدة أن الإنسانية ارتكبت خطأ فادحا، ويتعين عليها هي التكفير عنه.

ثم يهتزّ إيمانها بعمق طالما أن الإله لا يبالي بآلام البشر مع كل ما يحدث، وحتى تتأكد من وجوده تطلب من “فريدريك” الشرطي المتواطئ مع الألمان أن يقبّلها، فلا شك أنه سيغضب وسيعاقبها، ولا شك أنها ستجد في عقابه الجسدي علامة تدل على وجوده، فتريح عقلها الشقي، وتصيب عدوى الحيرة الوجودية “فريديرك”، ويتحرك فيه تأنيب الضمير، فقد بات يرى في نفسه شيطانا لا خلاص له إلا في ترك مهنته تلك.

“عملية قرطاج”.. ضربة بريطانية تفسد مسرحية الملكة “إليزابيث”

لا يخلو الفيلم من السخرية المرّة، فلما كان التلاميذ يجسدون مسرحية الملكة “إليزابيث” التي كانت تحنو على الأطفال الفقراء والجياع، كانت القوات البريطانية تنفّذ “عملية قرطاج” لتصيب الألمان في مقتل، فتختار وقت الازدحام به لتقتل أكبر عدد من جنودهم وتدمّر أرشيفهم.

لكن يحدث الخطأ الفظيع من جديد، فتصيب الغارة المدرسة الدينية، وتطمر الأطفال تحت الأنقاض، وعندها يتغير نسق الفيلم ليعمل على خلق التعاطف مع الفتية العالقين الذين يتهددهم الموت غرقا عند ارتفاع منسوب المياه، وينصرف إلى توليد التشويق والإثارة.

تمثل هذه الكارثة فرصة لتصالح الجميع مع ذاته، ويمكنهم انتصارهم للحياة من أن يجدوا توازنهم المفقود، فـ”هنري” يتحمل المسؤولية التي كلفه بها أحد رجال الإنقاذ ليمد الأولياء بالبيانات التي يحتاجونها، وحين يوضع أمام حتمية النطق يتغلب على عاهته، فيستعيد صوته وتزول آثار الصدمة.

الطفل هنري الذي تعرض للإصابة بصدمة نفسية أفقدته القدرة على الكلام

أما “فريديريك” الذي يقرر أن يترك الشرطة وأن يهجر المدينة لأنه هالك لا محالة، فهو يسهم في إنقاذ الأطفال، ويتحول إلى بطل قومي بعد أن كان خائنا، وأما “تيريزا” التي كانت تنتظر من الرب أن يكون أكثر تفاعلا مع آلام البشر، فتدفع إلى التفاعل مع آلام الأطفال، وإلى تجاوز حيرتها الوجودية.

إدانة القبعة العسكرية.. انتصار للمدني الذي تخاض الحرب من أجله

هناك ما يميز فيلم “ثم تغيم السماء” عن عامة أفلام الحرب العالمية الثانية، فهو يصوّرها من منظور الأطفال عامة، ومن منظور “هنري” الذي تغيم السماء في عينيه فجأة بعد حادث السيارة المميت.

ومن هذا المنظور لا يحاول أن يتفهّمها أو أن يشرح أسبابها، فيذهب رأسا إلى إدانتها لكونها تنتزعنا من إنسانيتنا، وتجعلنا نتساوى في نزعات الشر، حيث لا وجود للخير، ويعمل على إبراز قبحها بصرف النظر عن الأطراف المشاركة فيها، فيبدو المخرج رافضا للقبعة العسكرية أيا كان الرأس الذي يحملها، وذلك لقناعته بأن المدنيين الذين تخاض عامة الحروب باسمهم يكونون أول ضحاياها.

لذلك لم يكن يمتدح طرفا ليدين آخر، ولا ينتصر إلى جيش ضد آخر، وإنما ينتصر إلى السلام ضد الحرب، وإلى براءة الأطفال ضد إثم الكهول.

“سفين نيلسن” وصديقه “فريدريك” الشرطي المتعاون مع الألمان

وباختصار يجعل المنظور الطفولي من الحرب موضوع تأمل سينمائي، ويهيئ متفرّجه لرفضها بأن يجعل دافع الهجوم غير أخلاقي، وهو التضحية بالدرع البشري بحجة الواقعية العسكرية التي ستنقذ عددا أكبر.

فلم يكن الخطأ في تحديد الهدف إلا عقابا للبريطانيين بشكل ما، فقد أزاح الستار عن وجههم الآخر الذي يخفون خلف شخصية المحرر، وكشف أنهم قتلة للأطفال الأبرياء لكونهم شركاء في هذه الحرب الذي يتحمل الدانماركيون وزرها.


إعلان