“طنين”.. سبّاحة أولمبية تهزم الخوف وتتحدى سطوة المرض
يقول الكاتب البرازيلي “باولو كويلو”: ليس هناك إلا شيء واحد يمكن أن يجعل الحلم مستحيلا، إنه الخوف من الإخفاق.
بحسب علماء النفس، فالخوف هو إحساس يُصيب الإنسان حينما يتعرض للخطر أو لموقف لا يدري كنهه، هنا تستنفر الحواس للمجابهة، فما الذي يجعل النفس الإنسانية خاضعة لهذا الإحساس؟ وهل يرتبط الخوف بالحلم؟ وهل يُمكن التعايش السلمي بين الإنسان وهواجسه؟ أم يظل الوضع بينهما قائما على الاحتكاك الدائم والمناوشات التي لا تنتهي سوى لصالح الخوف الغريزي؟
تكمن الإجابة على هذا التساؤلات في الفيلم البرازيلي “طنين” (Tinnitus) الذي أخرجه “جورجيو جرازيوس” (2022)، وقد اشترك في كتابته مع “ماركو دوترا” و”أندريس فير”، وعُرض في الدورة الـ56 من مهرجان كارلوفي فاري السينمائي في التشيك، فالفيلم يتناول عددا من الأفكار التي تتبلور في إطار المثابرة من أجل الوصول للحلم وتحقيق الهدف، وما يُقابل هذا الحلم من مخاوف إنسانية تطرأ على السطح، وكيفية مواجهة هذه المخاوف.
تدور أحداث الفيلم حول “مارينا” (الممثلة جوانا دي فيرونا) السباحة والغوّاصة الأولمبية التي تتعرض لمرض طنين الأذن، وهو ما يُعيق مشاركتها في المسابقات الدولية، وحينها تفقد مسار حياتها المُخطط له، وتترك الرياضة في مقابل هدنة مع المرض، إلا أن الشغف والرغبة في تحطيم الأرقام القياسية لديهما رأي آخر.
برزخ غامض بين الواقع والخيال.. تشابك العوالم
يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه أعماق البحر وسمكة الكركدن البحرية الكبيرة تطفو تدريجيا على وجه الماء، ثم ننتقل للمشهد التالي و”مارينا” تستيقظ في فزع، لنكتشف أن ما ظهر ليس إلا محض حلم، وعند هذا المشهد نتحول تلقائيا للعالم الواقعي، حيث التحضيرات لمباراة “مارينا” وزميلتها “لويزا” أثناء دورة الألعاب الأولمبية في البرازيل عام 2016.
لقد نسج السيناريو أحداثه المكتوبة ببراعة مُعتمدا على خطي سرد كل منهما يتلاقى مع الآخر ويتقاطع معه، فالخط الأول واقعي يسرد حياة “مارينا” في عالمها الحقيقي، حيث نرى معايشتها لكافة تفاصيلها الحياتية التي تُشكل جزءا أصيلا من متن الحكاية ذاتها، نُتابع تطور حياتها نحو أسلوب اعتيادي لا تمت إليه بصلة، ويبتعد عن مسار حلمها الذي تتوق للوصول إليه، وذلك بعد الحادثة التي تعرضت لها أثناء القفز في حمام السباحة.
يندمج هذا الجزء ويتفاعل في مصفوفة سردية مُحكمة مع العالم الآخر الخيالي الذي يدور في عقل “مارينا”، ولا يظهر إلا في صيغة مضادة للواقع أثناء النوم، أو تتخلل العالم الواقعي كأحلام يقظة في توصيف دقيق للتعريف الفرويدي (نسبة إلى سيغموند فرويد عالم النفس) للحلم، بأنه تعبير عن الرغبات والمشاعر المكبوتة في الداخل الإنساني، ولا يدري عنها شيئا، فليست الأحلام التي تراها “مارينا” إلا تعبيرا عن هذه الرغبات، أو تناصا لحياتها مع حيوات أخرى موازية لها، وكأن أحلامها تتناسخ في صور وعوالم أخرى.
لقد لجأ السيناريو إلى هذه الحيلة السردية عبر دمج العوالم ومزجها بأسلوب غير محسوس، وبشكل يجعل هذه المشاهد وكأنها تقع في البرزخ بين العالمين، أو كأن الواقع خيال والخيال واقع، فكل منهما ينتمي للآخر رغم اختلاف هويتهما، وبما يضفي على أجواء الفيلم قشرة طفيفة من الغموض الساحر الذي يتفكك أسراره كلما توغل السرد وتشابكت خيوط الحكاية.
نوبة الطنين.. فقدان الوعي يطفئ الشغف ويقتل الحلم
نحن أمام قصة لاعبة سباحة وغوص تُصاب بمرض الطنين الذي يُغير دفة حياتها، ويجعل مصيرها مغايرا عما خطط له، ترى ما الذي يدور في هذه الحياة؟
لقد بنى السيناريو من هذه الفكرة قصة مكتملة الأركان، معتمدا على الأسلوب التقليدي المبني على الفصول الثلاثة، أو ما يسمى بالبناء الأرسطي القائم على البداية والوسط والنهاية، لكن السرد هنا يستلهم الطرق التقليدية ويبلورها بأسلوب أكثر حداثة، ويضع حياة “مارينا” بطلة الفيلم بين قوسين، تبدأ بينهما حكايتها، وتنتهي عندما ينغلق الطرف الآخر من القوس.
يبدأ القوس بالمشاهد الأولى للفيلم، وذلك أثناء استعداد “مارينا” و”لويزا” للقفز من علو أثناء انعقاد دورة الألعاب الأولمبية في البرازيل عام 2016، فالزمن هنا يبدأ من هذه النقطة، وهنا ينطلق الفصل الأول أو التمهيد، فنرى “مارينا” وهي تسقط في الماء فاقدة للوعي بعد أداء قفزتها، فقد هاجمتها نوبة طنين جعلتها تفقد السيطرة على ذاتها، ومن هذا المشهد -الذي يبدو وكأنه تأسيس لأبعاد الحكاية- ينطلق السيناريو في سرد حياة بطلتنا بأسلوب وصفي تأملي، معتمدا على اللقطات المتوسطة الحجم التي تُضفي نظرة تأملية.
ثم ننتقل للفصل الثاني من الفيلم، وندخل حياة “مارينا” الجديدة بعد تركها رياضة السباحة والغوص، لتتعالج من نوبات الطنين، لكن حياتها لا تزال مرتبطة بالماء بطريقة أو بأخرى، فهي تعمل عارضة عروس البحر في المتحف البحري “الأكواريوم”، فحياتها تبدو في هذا المنعطف ثابتة دون تغيير، وكأن حلمها ابتعد عن مرافقتها.
تذبذب السيناريو.. حالة من الصعود والهبوط في حياة البطلة
يفاجئ السيناريو المتفرج حين يضع نقطة حبكة قد تُغير مصير البطلة، وذلك عندما تلتقي “مارينا” بـ”تريزا” الزميلة الجديدة لـ”لويزا” في الفريق الرياضي، ومن ثم يتجدد الشغف تلقائيا للعودة إلى المكان المناسب.
يستمر السرد على هذا المنوال مُعبرا عن حالة الصعود والهبوط التي تُصيب البطلة، فتارة تسعى لحلمها بالعودة للسباحة، ومرات تكاد تستسلم لنوبات الطنين المؤلمة، وكأن هذه النوبات ليست إلا رمزا للخوف الإنساني التي يصيب كل رياضي خشية الخسارة وانحسار الفوز، فكلما أقدمت “مارينا” على القفز في الماء أصابتها تلك النوبة الفجائية، ويكمن العلاج الفعال في الابتعاد الفوري عن الماء، وإذا عاندت قدرها نالت ما تستحق، مثلما أصيبت في البداية.
تسعى “مارينا” للعودة إلى رياضتها بكل طاقة مُمكنة، تعاود القفز مُجددا، تبدو هذه المرة وكأنها أوشكت على الانتهاء من تلك الدوامة، وعند تلك النقطة نصل للقوس الآخر من الحكاية في أولمبياد طوكيو 2020، وبذلك تكتمل القصة بوصول “مارينا” لحلبة اللعب، فلكل مجتهد نصيب، وهذا ما يسعى الفيلم التعبير عنه؛ المثابرة والعناد لتحقيق المستحيل وإن كان الثمن هو الحياة.
“مارينا”.. سمكة بشرية تخرج من الماء مؤقتا
يقول الكاتب “جوزيف كامبل” عن شخصية البطل في الأساطير “البطل يخرج من سرة العالم لكي يُحقق ما كتب عليه من مصائر”. وبالنظر لشخصية “مارينا” نجد أن السيناريو قد رسمها مدفوعة بقوى غير مرئية تكاد تتحكم في مصير حياتها، توجهها نحو طريق واحد لا تحيد عنه، ففي البداية نراها وهي تمارس رياضة السباحة، وفيما بعد تبدو كامرأة عادية، لكن الحياة لا تترك لها رفاهية الاختيار، ثم تعود إلى ما خُلقت من أجله وهو ممارسة الرياضة.
إن شخصية “مارينا” مثابرة وعنيدة، وتحوي بداخلها طاقة مكبوتة تسعى للانفجار، هذه الطاقة ما هي إلا إصرار غلّف حياتها بأسلوب وشكل غير مألوف، فكلما ابتعدت عن الرياضة خشية إصابتها بالمرض مُجددا تجد نفسها تُمارس ما تحب، وهكذا في دائرة لا نهاية لها، فالماء يُشكل قوة مغناطيسية بالنسبة لها، فهي كما يقول زوجها في أحد المشاهد “لا تقدر على البعد عن الماء”، لذلك تبدو دوافعها منطقية بالعمل في مهنة عارضة عروس البحر للأطفال، أو في العودة للرياضة، ضاربة بتحذيرات الأطباء عرض الحائط، فالمعنى هو مواجهة ذلك الخوف الذاتي الذي يهاجمها بشراسة في صورة طنين، وكلما ازدادت مقاومتها ازداد الطنين في تناسب طردي، وذلك في إشارة لنمو الهواجس الداخلية.
لقد جعل السيناريو “مارينا” شخصية محورية مركزية تدور من حولها الأحداث، ثم جعل أزمة مرضها الذي تسعى لمواجهته أساس العقدة الدرامية، ومن ثم خلق السرد البُعد الرمزي بالتناص بين “مارينا” وسمكة الكركدن في بداية الفيلم، وبينها وبين المخلوقات البحرية بصفة عامة على مدار الفيلم، وكأنها سمكة إنسانية تعيش خارج الماء لبعض الوقت، ففي أحد المشاهد نراها تُخبر صديقتها بأنها تستمتع بالصمت في عملها في المتحف البحري، فقد فتحت الماء لتنتفي جميع الأصوات، وبالتالي بدا اختيار الشخصية لهذه المهنة هروبا من قدر ما، بقدر ما هو اقتراب حميم من عالمها الذي لا تألف غيره.
وفي سبيل تحقيق حلمها، تبتعد “مارينا” عن كل ما يربطها بعالمها القديم، وتُلقي بالأدوية وتعرض عن تناولها، كما تبتعد عن زوجها كذلك، فالخطو نحو الحلم بحاجة للإمساك ببارقة أمل ولو شاردة، في حين أن حياتها السابقة لا تمدها بما هي في حاجة إليه من طاقة.
عالم الرياضيين.. صراعات داخلية وخارجية وغيرة تنهش الفريق
رسم السيناريو للصراع الدرامي داخلي، أي أنه يدور في نفس البطلة، ويتفاعل داخليا ويعبر عنه خارجيا، فإذا كانت نوبات الطنين ليست إلا رمزا للمخاوف الداخلية، فإن “مارينا” استسلمت من الجولة الأولى وتعايشت في سلام وهمي مع المرض، لكن عندما تلتقي مصادفة بزميلتها “تريز” يُصبح اللقاء بينهما دافعا للأحداث للأمام، ومن ثم تجدد الصراع بعد سكون مؤقت.
لقد اتخذ الصراع مظهرا خارجيا يتمثل في عدة نقاط أبرزها المواجهة مع المرض أو محاولة تجاهله، لكنه يتطور في اتجاه آخر، وهو العلاقة بين “مارينا” و”لويزا” الزميلة السابقة، فتأزم العلاقة بينهما يرجع إلى رؤية “لويزا” لـ”مارينا” التي تراها تخلت عن حلمهما بإحراز ميدالية أولمبية، وحينها وصلت العلاقة بينهما إلى نقطة النهاية بعد أن استولت الغيرة على “لويزا”، وهنا يطرق السيناريو نقطة هامة في الرياضة، وهي الأحاسيس والمشاعر المتبادلة بين اللاعبين، فالعلاقة بينهم ليست كما تظهر على الشاشة، بل هناك بقعة سوداء تبدو متوارية بعيدا عن الأنظار.
في أحد المشاهد نرى “لويزا” وهي تُمسك بمعدات الصوت في غرفة التدريب وتبدأ بالعبث بها حتى تؤثر على أداء “مارينا”، وفي مشهد آخر تأتي “تريزا” وتضع زجاجا مكسورا بداخل منشفة “لويزا”، فكل هذه الأفعال منبعها الغيرة بين أعضاء الفريق الواحد، وإن كان الشكل العام للفريق يوحي بعكس ذلك، فالنفس الإنسانية تحوي بئرا عميقا من المبررات والمنعطفات، وتُساهم الضغوط النفسية التي يتعرض لها الرياضيون في تعميق هذه الهوة، فالرغبة في النجاح من ناحية، والنظرة الجماهيرية نحوهم من ناحية أخرى؛ تجعل اللاعب ضحية بين طرفي مقص، ما بين إرضاء ذاته واكتساب الجمهور.
تلاقح الدراما والرياضة.. فيلم معطر برائحة الأساطير والسينما العالمية
برزت في السنوات الأخيرة السينما البرازيلية الحديثة، في اعتماد واضح على الأجيال الجديدة من المخرجين الشباب بأفكارهم وطرحهم المغاير عن السائد، وبالتالي أصبحت هذه السينما ضيفا مُرحبا به في المهرجانات السينمائية الدولية، وفي فيلمنا يُقدم المخرج “جورجيو جرازيوس” في ثاني تجاربه الروائية الطويلة ما يُمكن أن نطلق عليه فيلما عالميا، أي أنه يتلاقى فكريا وعاطفيا مع المتفرج أينما كان، دون النظر لخلفيته الثقافية، فالفيلم حسب قول المخرج “فيلم رياضي، وهذا صحيح بالتأكيد، لكنه أيضا عن الخوف الغريزي من الفشل”.
لقد امتزجت الدراما بالأسلوب الفني للإخراج في التعبير عن هذه الهواجس، وتحديدا من خلال شريط الصوت الذي يُعد بحق هو البطل الرئيسي للفيلم، فأصوات الطنين تمتزج في انسيابية مع الصورة، وتتكامل مع الأداء التمثيلي للبطلة، وبالتالي يُمكن القول إن هذا فيلم مُخرج بامتياز، أي يعتمد بصفة أساسية على اللمسات والنواحي الإخراجية، ولمسة وبصمة المخرج واضحة.
في هذا الإطار تناثرت التحيات لمخرجي وفناني السينما على مدار الفيلم، البداية مع التتر أو مقدمة الفيلم التي تتشابه كثيرا مع فيلم “دوار” (Vertigo) للمخرج البريطاني “ألفريد هيتشكوك”، وفي مشهد آخر تظهر صورة المخرج الياباني “أكيرا كوروساوا” أثناء سير بطلة الفيلم في الحي الياباني.
لا تتوقف الاقتباسات عند حدود السينما العالمية، لكنها تنطلق لعالم الأساطير، فأثناء أولمبياد طوكيو و”مارينا” تنتظر دورها في المباراة تأتيها نوبة طنين مفاجئة، لتهرب بعيدا في غرفة اللاعبين، وتُمسك بالقلم ذي السن المُدبب وتغرسه في أذنيها وتُنهي ألمها، حينها تواتيها الشجاعة للقفز دون أي خوف، وكأنها بصمّ أذنيها تُعادل “أوديب” في الأساطير اليونانية القديمة حينما فقأ عينيه، فكل منهما يُسدد دينه للقدر، وبهذا تقضي “مارينا” على مخاوفها.
“طنين” ليس فيلما فنيا طموحا عن مأساة لاعبة رياضية تواجه أزمة صحية فحسب، لكنه يتطرق لهواجسنا ويقتحم أرضيتها بشجاعة تدفع للتساؤل: هل نملك حقا القدرة على مواجهة خوفنا؟