“مو”.. مسلسل أمريكي يسرد تراجيديات اللاجئ الفلسطيني بروح كوميدية

“مو” أو محمد أو أبو حميد أو حمادة كما يعدد هو نفسه أسماءه في المسلسل الذي يلعب بطولته محمد عامر؛ يطلب من حبيبته المكسيكية الكاثوليكية وهما يحتضنان بعضهما أن تشرح له لماذا يصلون لثلاثة آلهة، فتمد كفها مضمومة على رأسها وكتفيها تصلي وهي تقول “الأب، الابن، الروح القدس”، وتبدأ في مباركته حين يهرب منها، ويقول لها “لا تفعلي ذلك، أستغفر الله العظيم”، فترد عليه “هل تريدني أن أرتدي الحجاب؟” فيقول لها “ما رأيك أن تبدئي بالتوقف عن أكل الخنزير أولا؟”.

قد يبدو الحوار جديا وعميقا، وهو كذلك لكن في إطار فكاهي وحقيقي لا تستطيع معه سوى الضحك والتفكير معا، وهذا ينسحب على بقية مسلسل “مو” (Mo) الذي يتحدث عن تناقضات يعيشها شاب مسلم أمريكي فلسطيني قضى طفولته في الكويت، قبل أن يُغادر مع عائلته برا إلى العراق خلال حرب الخليج بدون أي وثائق للسفر، فتحط بهم الرحال للاستقرار في هيوستن بولاية تكساس، حيث ينتظرون أكثر من عشرين عاما قرارا في ملف قضية اللجوء.

“أخيرا مسلسل عالمي يحكي قصتنا”.. حكاية المغتربين

سيشعر كثير من الفلسطينيين وهم يشاهدون المسلسل وقد قضوا طفولتهم في دول الخليج بقرب خاص من هذه الفترة، خاصة وقت حرب الخليج الثانية في التسعينيات وتصاعد التوتر، والتجهيزات لحماية العائلة، والخوف من المصير المجهول، لذلك فمن الحلقات الأولى تتنفس كفلسطيني الصعداء: أخيرا مسلسل عالمي يحكي قصتنا.

ليس فقط إلى هذا الحد سيحكي “قصتنا”، بل سيستمر المسلسل ليشعر كل فلسطيني عاش ويعيش في أوروبا وأمريكا أو أي بلد أجنبي أنه هنا، في هذا الموقف، بل حدث معه أمر مشابه تماما، يضحك ويبكي، ويشعر بالأشياء بشكل خاص، وقد يحب لأول مرة “نتفليكس” بشكل شخصي، ويشعر أنها تحكي قصته.

يعرض المسلسل بشكل كوميدي لكن جدّي علاقات متشابكة بين العائلة الفلسطينية المسلمة والحريات في الغرب، وبين سعي الأفراد لحريتهم الخاصة وسط تناقضها مع عائلاتهم المتدينة، مثل قصة “مو” نفسه مع صديقته المكسيكية (الممثلة تيريزا روز)، أو قصة ابنتهم التي تزوجت كنديا مسيحيا، وهناك علاقة العائلة باليهود التي تشعر أنها كوميدية لكنها حقيقية، فلا عداوات إلا مع الصهاينة.

مو رفقة حبيبته المكسيكية الكاثوليكية يعيشان وسط تناقضات بسبب ديانتهما المختلفة

وهكذا بين القضايا العامة والخاصة يعرض علينا محمد عامر وباسم يوسف (يشارك في مشهدين) وبقية الطاقم والكاتب الرئيسي في جميع المشاهد المصري رامي يوسف؛ جميعا هموم وقضايا الجيل العربي المسلم الشاب الأمريكي الذي يعيش في أمريكا في الوقت الراهن.

كوميديا بين نارين.. أزمة الجيل المسلم في المجتمعات الغربية

في تسلسل وخفة وعدم ملل طوال ثماني حلقات نرى محمد عامر يُكافح من أجل عائلته مرة، إذ يعمل في محل تصليح إلكترونيات، ومرة في ملهى ليلي، وبينهما يعمل رجل مبيعات يحتال على الزبائن بكون بضاعته ذات علامات تجارية، وأخيرا في مزارع الزيتون.

يتعامل “مو” مع كل ذلك بعباراته الكوميدية الفاضحة أحيانا، واجتهاده تقليد والده الذي قضى بالتعذيب، وبالتأكيد عبر ثلاث لغات وعدة ثقافات وتفاؤل.

عبر كل ذلك استطاع “مو” الاحتفاظ بصديقته المكسيكية التي يزورها في منزلها، لكنه يعيش مع والدته (الممثلة فرح بسيسو)، والتواصل مع شقيقه سمير المُصاب بالتوحد، ويلعب دوره ببراعة الممثل عمر ألبا، وهو ذاته الممثل الذي أدى دور السائق في فيلم “توم هانكس” المثير للجدل عن السعودية “هولوغرام للملك” (A Hologram For The King).

 

هكذا يعيش “مو” بين واجباته العائلية وشعوره بالذنب الديني -وهو ما سيفهمه معظم الجيل المسلم الشاب في مجتمعات غربية- وبين بداية إدمانه على نوع من الدواء، ثم العصابة التي تورط معها، وأوراق اللجوء التي لا يأخذها، ومساندته لصديقته المستقلة، وهنا سرعان ما يبدأ المسلسل ليأخذ منحنى إلى الانخفاض، ليصبح أشبه بمسلسلات “آكشن المراهقين” الأمريكية، لكن يبقى يخرج بين حين وآخر إلى السطح ليأخذ نفسا ويرفع معه المتلقي، إلى أن يعود إلى قوته الأولى.

“صنعته من حياتي كلاجئ مشتت”.. سيرة ذاتية على المسرح والشاشة

من السهل أن نجد أن هناك تشابها كبيرا بين “مو” في المسلسل وسيرة محمد عامر الذاتية، وقد نشأ أفراد كثر من طاقم المسلسل في حي “إليف” المختلط من أعراق مكسيكية وأفريقية وعربية في هيوستن بتكساس، وهي ليست صدفة، فقد كتب المسلسل لتكريم واسترجاع تلك الذكريات والأيام والمشاعر.

وقد صعد نجم “مو” عامر وقتها منذ التسعينيات على خشبات المسارح الكوميدية في أمريكا، وذلك حين لم يكن أحد يسمع بكوميدي يطلق نكات إسلامية عن نفسه، إلى أن وقعت حادثة 11 سبتمبر/أيلول 2001، وأصبح “مو” عامر مسموعا في كل مكان، لاذعا لكنه صادق ومضحك حد البكاء.

ويقول “مو” عامر في واحدة من مقابلاته الحديثة: هذا العمل كتبت أجزاء منه على مدى تسع سنوات، وهي المرة الأولى التي يعرض فيها مسلسل متقن واحترافي عن حياة فلسطيني بشكل مضحك، إلا أنه عميق أيضا، وقد صنعته من حياتي كلاجئ مشتت، ومن نشأتي في حي إليف بهيوستن، وأنا فخور بما آل إليه، كما أنا فخور بمكوناتي جميعها.

مو يعيش رفقة أصدقائه من جنسيات مختلف ومعهم يختبر التعايش مع ثقافات مغايرة

وحين تشاهد الكوميديان محمد عامر في عرض كوميدي حي تعرف أن هذا الرجل موهبته حقيقية وبلا حدود، ولا شيء يوقفه، لا اعتقاد الجمهور أنه عنصري، أو نكاته الجريئة، أو أن لديه حكايات عائلية حساسة، فالأمر لا يهمه، إنه بدائي تخرج النكات معه غير مشذبة فادحة الصدق، لدرجة أنك تضحك بكامل صوتك وطاقتك، لكنك في الوقت نفسه تريد أن تغمض عينيك عما يجعلك تراه من عباراته وجمله الصريحة.

فكاهي المسرح.. تدجين الجراءة خلف أقفاص السيناريو الدرامي

كيف استطاع هذا الأسد الهارب من الأقفاص أن يصنع مسلسلا؟ فيلتزم بالنص، ويمثل، ويراعي أن معه فريقا، كيف تشذبت موهبته طبيعية إلى هذا الحد، وتدجنت لتوضع في مسلسل؟

هنا كانت الصعوبة الرئيسية، إلا أن ذلك نجح، بالتأكيد النكات ليست مضحكة بمقدار ما تكون في عروضه الحية، لكن لا ننسى أنه لم يكتبها كلها بنفسه في المسلسل، لذلك ربما جاء تكرارا لبعض الكليشيهات الفلسطينية المعروفة، مثل أصل الحمص، أو تعلّق الفلسطيني بزيت الزيتون، أو الخلط بين “بالستيان” (Palestine) وباكستان.

 

من هنا كان يجب القفز عن هذه المتلازمات في حياة الفلسطيني التي أصبحت عابرة الآن في حياة المغتربين، والتركيز على العلاقات والتناقضات بين محمد ومن حوله من جيرانه اليهود والمكسيكيين، وصديق طفولته الذي يلعب دوره المغني الأمريكي ذو الأصول النيجيرية “توبي نويجوي”.

مع ذلك يبقى المسلسل صريحا وجميلا ويعرض حياة الفلسطيني في أمريكا إلى حد كبير، لدرجة تشعرك بالعار من صراحته وجرأته، وهو ما لم يستطع مسلسل رامي يوسف الذي عُرض قبل “مو” بسنوات باسم “رامي” أن يناقشه بصراحة وصدق مماثلين، فقد كانت تغلب الكليشيهات على الشخصية ذاتها.

دراجة في ظل جدار المكسيك.. إشارات الرحلة إلى الضفة الغربية

هنا يجب التذكير أن “نتفليكس” تأخرت كثيرا في عرض مسلسل كهذا، فهذه ليست هبة منها، بل أمرا محتوما حين نتحدث عن أثر القضية الفلسطينية في العالم، إضافة إلى رجل كامل الموهبة مثل محمد عامر.

ومع ذلك يجوز وصفه بأنه أول مسلسل احترافي كوميدي على الإطلاق في تاريخ وسائل الإعلام الأمريكية يحكي قصة لاجئ فلسطيني يقف على حافة ثقافات عدة دون أوراق ثبوتية، ويكافح لدعم عائلته، وهذه المفارقات يُعاني منها ملايين اللاجئين حول العالم، فهي أزمة هوية عرضها “مو” بكثير من الفكاهة والحقيقة والجرأة، دون أن تكبح جماحه كتابة رامي يوسف.

ينتهي المسلسل فجأة بعد مشهد “مو” وهو يقود دراجته النارية على طول الجدار بين المكسيك وأمريكا، وهو ما يذكر بالجدار الفاصل العنصري الذي بناه الاحتلال في الضفة الغربية، وهو ما يجعلك قريب التوقع مما سيحدث بالجزء الثاني الذي غالبا يعني أن “مو” سيذهب إلى الضفة الغربية، لتشعر أن ثماني حلقات قليلة جدا، وتوجد رغبة ملحة لمشاهدة الجزء الثاني، لكن في انتظار أن تعلن عنه “نتفليكس”، وأمنيات أن يكون ذلك أسرع من دراجة أبو حميد النارية.