“الكتابة بالنار”.. صحفيات يتحدين القهر الطبقي في صحيفة هندية

“الكتابة بالنار” هو أحد الأفلام الوثائقية الخمسة التي رشحت لنيل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل هذا العام. هو فيلم ليس كسائر الأفلام، فهو يصور كيف تمكنت ثلاث نساء من أدنى الطبقات أو الشرائح الاجتماعية المهمشة أو المستعبدة في الهند من تحدي الهيمنة الذكورية والقهر الطبقي وتواطؤ السلطات، وذلك من أجل تأكيد حضور المرأة في الحياة العامة، في أول تجربة صحفية في الهند تديرها وتعمل فيها مجموعة من النساء فقط.

 

“يعتبرونها أدنى من مستوى البشر”.. طائفة في أسفل الهرم الطبقي

في بداية الفيلم تظهر على الشاشة المعلومات التالية، وهي شديدة الأهمية لمغزاها الكبير في سياق هذا الفيلم الممتع الفريد:

يعود النظام الطبقي الوراثي في الهند إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة، وهو يقسم الهنود إلى أربع طوائف رئيسية هم البراهمن والكشتاريا والفيشيا والسودرا، لكن هناك طائفة خامسة لا تُحسب ضمن النظام الطبقي الأساسي هي طبقة “الداليت” أو “الداليتا” (Dalit)، فهي لا يمكن لمسها أصلا، لأنه يعتقد في عدم نقائها ويعتبرونها أدنى من مستوى البشر.

ويشهد إقليم “أوتار براديش” اعتداءات كثيرة على النساء عموما، وعلى نساء الداليت بوجه خاص، فهن يتعرضن للتفرقة بسبب الأصل والنوع، وفي عام 2002 أسست مجموعة من نساء الداليت صحيفة، وكان يُتوقع لهن أن يفشلن، لكن ما حدث أنهن أشعلن ثورة. هذه الصحيفة هي “موجات الخبر”، وقد ظلت الصحيفة الوحيدة في الهند التي تديرها بالكامل نساء فقط.

في غياب الوسائل المناسبة يصبح استخدام كاميرا الهاتف أساسيا في عمل مراسلات الصحيفة

هذا المدخل يلخص طبيعة الموضوع، فنحن أمام تحديات صحوة نسائية وثورة على التقاليد العتيقة الموروثة التي تعود لثلاثة آلاف عام، ثورة تهز المجتمع في ذلك الإقليم الغارق فيما وراء التاريخ، ثم تهز الهند بأسرها.

“يمكنهم حتى قتلنا”.. سلسلة من جرائم الاغتصاب ضد ضحية واحدة

فيلم “الكتابة بالنار” (Writing with Fire) هو من إخراج “رينتو توماس” و”شوشميت غوش”. ويتناول قصة هذه الصحيفة خلال نحو عشرين عاما، ويتوقف أمام ما تعرضت له ثلاث صحفيات فيها من محاولات لقهرهن وثنيهن عن أداء عملهن، سواء من داخل أسرهن، وبالأخص الرجال في الأسرة مثل الزوج أو الشقيق، أو من جانب السلطات.

وتعتبر قصة كفاح الصحفيات الثلاث من أجل تأسيس كيان ينقل الحقيقة ويسلط الأضواء على ما يقع من تجاوزات تجربة بعث جديد وتحرر للمرأة من طائفة الداليت، كما تعتبر ثورة على كثير من المفاهيم المستقرة في الإقليم والهند.

المراسلة تدخل بيوت الفقراء من طائفة الداليت

ومن الجانب الاجتماعي ينتقل الفيلم ببراعة إلى الجانب السياسي، ويتعرض للتعصب الهندوسي نتيجة صعود حزب “جناتا” اليميني الذي يتبنى الفكر القومي الهندوسي، وبقائه في السلطة منذ عام 2014 حتى اليوم.

في بداية الفيلم نعرف أن هناك امرأة في إحدى قرى إقليم أوتار براديش تعرضت للاغتصاب مرات عدة. نحن الآن في 2016 كما تخبرنا المعلومات التي تظهر على الشاشة، ويبدأ الفيلم مع “ميرا” المراسلة الرئيسية للصحيفة، وهي تتجه إلى بيت تلك المرأة التي تعرضت للاغتصاب، وتستخدم الهاتف المحمول في تسجيل مقابلة مع المرأة الضحية بالصوت والصورة، يجلس زوجها متقوقعا على نفسه حزينا كسير النفس.

تقول المرأة إن بعض الرجال يقتحمون منزلها عندما تكون بمفردها ويقومون باغتصابها، وأنها تعرضت للاغتصاب 6 مرات في شهر واحد، وقد رفضت الشرطة عمل محضر بهذه الاعتداءات، وتقول: لقد هددوني واعتدوا علي أنا وزوجي، هؤلاء الرجال يمكنهم أن يفعلوا أي شيء، يمكنهم حتى قتلنا.

“أعتبر هذا تحديا شخصيا”.. مراسلة توثق فساد السلطات

لا تتراجع “ميرا” بل تتوجه مباشرة إلى مركز الشرطة لتستجوب الضابط المسؤول وتسأله: لماذا رفضتم خمس مرات تحرير محضر بالواقعة المتكررة؟ لقد نفذ الزوج أيضا إضرابا عن الطعام أمام مقر الشرطة.

بكل برود ينفي الضابط معرفته بالموضوع أصلا، ويتذرع بأنه لم يكن قد انتقل للعمل في هذا المركز، وتنسحب “ميرا” لكنها لم تتوقف عن التحري، إنها تؤمن- كما تقول- بأن الصحافة هي أساس الديمقراطية، وأنه يتعين على الصحفيين نقل مشاكل الناس إلى الحكومة، ومن الواجب أن يتحلى الصحفيون بالمسؤولية.

 

مقر الصحيفة بيت متواضع جدا، لكنه أصبح يستقطب الآن نساء كثيرات راغبات في اقتحام مجال العمل الصحفي الميداني الاستقصائي، وينقصهن التدريب، وهو ما يجعل “ميرا” وزميلاتها يقمن بتدريبهن على استخدام الهواتف المحمولة في تسجيل الصوت والصورة. لقد أصبحت هناك الآن ضرورة للانتقال إلى الصحافة الإلكترونية، إلى تأسيس موقع للجريدة لبث التقارير المصورة والأخبار، وهو ما يتطلب مزيدا من التدريب على التعامل مع هذا الإعلام الجديد.

لا يستخدم مخرجا الفيلم التعليق الصوتي المباشر للربط بين فصول الفيلم والقصص التي نراها في تدرج من الاجتماعي إلى السياسي، لكنهما يستخدمان صوت الشخصية التي نراها أمامنا في الصورة، بينما يأتينا صوتها من خارج الصورة، فنرى “ميرا” جالسة في القطار ونسمع صوتها يأتينا من خارج المنظر: أرى أن نجاح نساء طائفة الداليت في العمل بصحيفة “موجات الخبر” عبر 14 عاما جعلنا نستطيع إعادة تعريف معنى أن يكون المرء قويا، وأن يتمتع بالقوة. إنني أعتبر هذا تحديا شخصيا لي.

نساء ضد المجتمع.. ثورة أنثوية على التجاوزات

من أكثر ما يكشف عنه هذا الفيلم الوثائقي البديع خذلان الأهالي لبناتهن والضغوط الشديدة التي يتعرضن لها من جانب السلطات، إضافة إلى غياب الإمكانيات العملية التكنولوجية مع الاعتماد على وسائل بسيطة للغاية، لكن كل ذلك لم يثن هؤلاء النسوة عن المضي قدما في إثبات وجودهن، وفي التصدي لأكثر المشاكل تعقيدا في محيطهن الاجتماعي، والعمل في ظروف طبيعية وبيئية بالغة الصعوبة والقسوة.

الصحفيات يقمن بمراجعة ما تم تصويره من معاناة النساء بالقرية

يتابع المخرجان الشخصيات الثلاث الرئيسية باحترافية بالغة، وبكاميرا ترصد وتراقب من على مسافة قريبة. وخلال ذلك، نتابع نمو الصحيفة وتطور العمل فيها، والتدريبات التي تتلقاها النساء، وكيف أصبح الموقع الإلكتروني للصحيفة يتوسع ويجذب أعدادا كبيرة من المترددين، وبالتالي كيف ينمو تأثير الصحيفة في محيطها، ثم كيف أجبرت التقارير الجريئة عن عدد من التجاوزات التي نشرتها الصحيفة وبثت تقارير مصورة عنها؛ السلطات على التدخل وإعادة فتح الملفات، أو تعديل الأوضاع.

رجم حتى الموت.. أساليب المافيا لقمع صوت الاحتجاج

ينتقل الفيلم إلى شخصية “سونيتا”، وهي المراسلة الثانية الرئيسية للصحيفة التي سيكبر دورها لتصبح قطبا رئيسيا في العمل، إنها تذهب لكي تكشف لنا عما يجري من تجاوزات، وما ترتكبه مافيا المناجم من جرائم في إحدى القرية الجبلية.

هذه القرية هي القرية التي تنتمي إليها “سونيتا” نفسها، والحادث له بعد شخصي مباشر في حياتها، فما حدث هو أن الحكومة أغلقت المنجم الذي كان يعمل في تلك المنطقة بسبب الانهيارات الصخرية التي تحدث، مما يؤدي إلى حوادث مأساوية للعمال، لكن مافيا المناجم أعادت فتح المنجم سرا وتشغيله لحسابها بشكل غير قانوني، مستغلة تردي ظروف معيشة العمال الذين لا يحصلون إلا على الفتات، ومن دون أي ضمانات أو تعويضات في حالة وقوع حوادث.

المراسلة سونيتا الشابة تواجه الفقراء وتنقل قصصهن

لكن قبل فترة قريبة وقع انهيار صخري أدى إلى مقتل 5 عمال دفنوا تحت الصخور، وأراد شقيق “سونيتا” أن يتصدى للمافيا، وأن يسائل كبارها عن مسؤوليتهم عن مصرع الرجال الخمسة، فما كان منهم إلا أن رجموه بالحجارة حتى الموت، بينما استمر العمل في المنجم.

عش الزوجية.. قفص يسعى لحبس الصحفيات في بيوتهن

سنعرف أن “ميرا” حصلت على ثلاث درجات جامعية في الدراسات العليا من بينها العلوم السياسية، وقد تزوجت حين بلغت 14 عاما وأنجبت أربعة أبناء، ورغم كل ما فعلته من رعاية أسرتها، إلى جانب العمل الجريء الذي تقوم به ويوفر أيضا دخلا للأسرة، فإن زوجها لا يبدو سعيدا بعملها في الخارج، فهو يشكو ويتذمر ويبدي تشككه في إمكانية نجاح التجربة، ويقول إن مكان الزوجة هو بيتها.

وسنعرف أن “سونيتا” قطعت الطريق إلى التحرر والنجاح من طفلة بدأت العمل وهي في عامها العاشر في نقل الأحجار الصغيرة من المنجم إلى حيث يجري طحنها، ثم تمردت على واقعها وتعلمت وتخرجت في الجامعة، وأصبحت صحفية متمرسة بعد فترة من التدريب والممارسة. وهي تريد أن تستخدم عملها الصحفي من أجل تحقيق العدالة، لكنها لا تستطيع الزواج، لأن أسرتها لا تملك المال المطلوب دفعه مهرا للعريس.

أحد الرجال -كما يقول والد “سونيتا”- طلب 7 آلاف دولار وهو لا يملك شيئا، وفي الوقت نفسه لا يقبل المتقدمون للزواج منها أن تواصل هي العمل، إذ تحتج هي: إذا كانوا يصرون على الزواج من فتاة متعلمة فلماذا لا يقبلون أن تعمل؟

قرية “شومكالي”.. مساكن بلا مراحيض منذ سبعين عاما

نشاهد بشكل تلقائي تماما ومباشر كيف تعود “سونيتا” إلى بيتها حيث تقيم مع أسرتها، وكيف يحتج والدها ويبدي تحفظه على غيابها في الخارج حتى وقت متأخر، وهو يريد أن يعرف بالتفصيل ماذا كانت تفعل طوال اليوم، لكنها تحتج بالطبع. والرجل يضحك ويقول للمخرجة من وراء الكاميرا بينما “سونيتا” في الداخل: ستقاطعني ولن تتحدث معي عدة أيام.

تذهب المراسلة الثالثة “شومكالي” إلى قرية معظم سكانها من الداليت، حيث يعيشون في بيوت مهدمة ليست فيها مراحيض، وقد ظلت كذلك -كما تقول لها إحدى النساء العجائز- منذ سبعين عاما. إنها مأساة أن يُضطر الأطفال -كما تروي المرأة- للخروج في منتصف الليل لقضاء حاجتهم خارج المنزل، بينما الحكومة تكذب وتنفي عدم وجود لمثل هذه المشكلة.

يوضح الفيلم من خلال مشهد مركب من لقطات متعاقبة أنه بعد بث التقارير المصورة الجريئة على موقع “موجات الخبر” اضطرت السلطات إلى التدخل، بحيث أصبح هناك مستشفى في قرية لم تعرف المستشفيات أو الأطباء قط، كما قامت بإصلاح طريق لم يكن ممهدا، ثم وفرت المياه لقناة كانت جافة تماما، بحيث تضررت زراعة الفلاحين.

وقد نما جمهور متابعي قناة الصحيفة على يوتيوب من عدة مئات إلى 100 ألف ثم مليون ثم مليونين ثم إلى عشرين مليون، وبالتالي زاد تأثيره، ومع تصميم “سونيتا” على التركيز على موضوع مافيا المناجم وضحاياها وتستر الشرطة عليها، بل وتعاونها مع المافيا؛ التقطت صحف وقنوات التلفزيون على المستوى القومي الموضوع وأبرزته، مما جعله يصبح قضية رأي عام في الهند.

الفيلم في معظمه مصور في القرى في مناطق ريفية بدائية تعاني من صعوبة الوصول إليها، فالطرق غير معبدة، والخدمات شبه غائبة، والسلطة المحلية نفوذها محدود، وهي إما عاجزة أو متواطئة مع المجرمين وقطاع الطرق، وتمر جرائم الاعتداء على النساء والقتل دون متابعة قانونية، لكن مع نمو دور النساء في صحيفة “موجات الخبر” بدا أن هناك بعض التغير.

ميلاد “الإله راما”.. تسخير الدين لخدمة السياسة في الانتخابات

مع الانتخابات المحلية لعبت مراسلات الصحيفة دورا مباشرا في الكشف عما يجري وراء الكواليس، وعن تصاعد التعصب الديني الهندوسي من خلال مقابلة جريئة تجريها مع رئيس شعبة الشباب الهندوسي الذي يبدي عداءه للمسلمين، ويحتفظ دائما بسيف معه لكي يتصدى لأعدائه عند الضرورة كما يقول، وهو يقوم بتشييد حظيرة كبيرة في قريته للأبقار المقدسة، ويعتبر أن أهم قضية لديه ليست قضية سياسية، بل إحاطة الأبقار بالتقدير والتقديس والاحترام، وفرض هذا الاحترام على الجميع ولو بالقوة.

ملصق فيلم الكتابة بالنار الذي يحمل صور بطلات القصة

الحقيقة أن النساء الثلاث يتخذن موقفا واضحا من رفض التعصب وإدانته في الفيلم، ورفض استخدام الموضوع الديني في الدعاية السياسية وتحريض السكان. إننا نرى مثلا احتفالا كبيرا بعيد ميلاد “الإله راما” يختلط فيه السياسي بالديني، وعندما تصور صحفيات “موجات الخبر” هذا الاحتفال يوجهن أسئلة محرجة لبعض الرجال الذين يرفعون أعلام حزب “جاناتا” على رؤوسهم في هذا الاحتفال ذي الطابع الديني.

لكن هذا الخلط المتعمد وارتفاع وتيرة الهوس الديني ستؤدي إلى بقاء حزب “جاناتا” القومي الهندوسي في السلطة بعد انتخابات 2019 التي تغطيها الصحيفة من جوانب غير مألوفة كما نرى.

“الكتابة بالنار”.. تحية سينمائية للصحافة المستقلة والمرأة المضطهدة

يعتبر فيلم “الكتابة بالنار” تحية للصحافة المستقلة ولدور المرأة -وخصوصا المرأة المضطهدة من أسفل السلم الاجتماعي- في القيام بدور فعّال من أجل تغيير المجتمع، وإجبار مجتمع الرجال على احترامها.

وينجح الفيلم في متابعة دور صحيفة “موجات الخبر” على مدار 4 سنوات من خلال كثير من المشاهد الوثائقية الملتقطة مباشرة من قلب الحدث وقت وقوعه، وبيان الصعوبات المتعددة التي تواجهها الصحفيات الباحثات عن الحقيقة، سواء من داخل أسرهن، أو من جانب مجتمع الرجال خارج الأسرة.

كما ينجح في تأكيد دور مخرجة ومخرج من الهند هما “رينتو توماس” و”شوشميت غوش” وقدرتهما على صنع فيلمهما الوثائقي الطويل الأول، رغم وجود بعض الاستطرادات والانسياق وراء بعض المشاهد الاحتفالية نتيجة جاذبية الصور، ولعل وصوله إلى الترشح للأوسكار يصبح ملهما لغيرهما لاقتحام مناطق جديدة في عالم الفيلم الوثائقي.

في نهاية الفيلم نعرف أن 40 صحفية قتلن في الهند منذ عام 2014، وهو ما يجعل الهند واحدة من أسوا الدول في التعامل مع الصحافة، لكن في الوقت نفسه تمتد مسيرة “موجات الخبر”، وستفتتح لها فروع خارج إقليم أوتار براديش، والآن تجاوز عدد المشاهدين لقناتها على يوتيوب 150 مليون شخص.


إعلان