“جان جينيه أبو الزهور”.. طواف حول قبر كاتب فرنسي أسرته مدينة مغربية
قيس قاسم
يستدعي وجود قبر الكاتب الفرنسي “جان جينيه” في مدينة العرائش المغربية بحثا سينمائيا، ليس فقط لكونه يعود إلى كاتب كبير متعدد المواهب ذاع صيته عالميا وترجمت أعماله إلى لغات كثيرة من بينها العربية، بل لغرابة العلاقة الطيبة التي تربط بينه وبين سكان المنطقة، رغم أن أكثريتهم لم يقرؤوا له، ومع ذلك يكنّون لتاريخه احتراما، ويعاملون قبره كما لو كان قبر أحد أقاربهم.
تلك العلاقة الخاصة التي يشكل الغياب والحضور طرفاها، ربما هي ما دفع المخرجة المغربية الأصل الفرنسية الإقامة دليلة النادر لكتابة وإنجاز وثائقي عنها منحته العنوان الشاعري “جان جينيه أبو الزهور” (Jean Genet, Notre- Père des Fleurs)، ومن مصادفات الزمن أنها قبل إكمال فيلمها غادرت عالمنا لمرض ألمّ بها، لتجسد بموتها جانبا من العلاقة المتشابكة بين الغياب وديمومة حضور المبدع في ضمائر الناس وذاكرتهم.
مدينة العرائش الساحلية.. مدفن الكاتب في المكان الذي أحبه
من حسن الحظ أن المخرجة دليلة النادر كانت قد كتبت الفيلم وتفاصيله قبل موتها في باريس عام 2020، مما سهّل على ابنتها والمونتيرة “كاترين مانسيو” وزملاء آخرين إكماله والحفاظ على روحه التي أرادتها أن تكون متماهية مع روح كاتب اختار أن يكون مختلفا، وصوتا للفقراء والمشردين في الأرض.
كان هذا الصوت يُسمع طيلة زمن الفيلم، ويتردد صداه في أرجاء المكان، حيث ينطق به زوّار قبره والمكلفون برعاية المقبرة المواجهة لمياه المحيط، التي أوصى أن يدفن جثمانه فيها، لا في موطنه الأم فرنسا. لقد أراد أن يدفن جثمانه كما جاء في وصيته بين المغاربة الذين أحبهم، ومكث بينهم في السنوات العشر الأخيرة من عمره وصار جزءا منهم.
الإحساس بقوة الارتباط العاطفي بين الكاتب وسكان مدينة العرائش الساحلية يتجلى في التفاصيل المحيطة بالمقبرة نفسها، والتي من خلالها يمكن النظر إلى حال المكان وصعوبات العيش فيه. بهذا المعنى لم ترغب المخرجة بكتابة نص سينمائي صرف عن حياة الكاتب، بقدر ما أرادت توثيق المكان الذي عاش فيه سنوات مرتديا الزي التقليدي لسكانه، مخالطا صياديه والعوام، مدركا لصعوبات عيشهم ومتعاطفا معهم في كل ما يشكون منه ويتذمرون عليه.
“جينيه”.. طفولة قاسية وحرمان من حنان الأمومة
يشكل بيت حارس المقبرة يونس ركنا أساسيا من التأثيث المكاني والمتن الحكائي للوثائقي المعروض في مهرجان “فيفادوك” الدولي للفيلم الوثائقي، بمناسبة تكريمه للمخرجة الراحلة دليلة النادر.
صاحبة البيت البسيط المقام بين القبور تقوم صباح كل يوم بتنظيف القبر وما حوله، كلماتها عنه تشي بتعاطف واحترام، كما لو كان الكاتب حيّا يعيش في أرجاء المكان، تعاطفها مرده كثرة ما سمعته من آخرين عن حياته القاسية التي قضاها مشردا في الشوارع، محروما من حنان الأمومة ودفء المنزل.
لفهم أفضل لطبيعة العلاقة تُرفق صانعة الوثائقي مشاهد متفرقة منه، بمقاطع صوتية مأخوذة من سيرة “جينيه” الذاتية، وبشكل خاص تلك التي يحكي فيها عن حياته ونشأته. في واحدة منها يشير إلى مولده في باريس عام 1910، وأن أمه تركته طفلا في ملجأ للأيتام. وحين بلغ 21 حصل لأول مرة على شهادة ميلاد ثُبت فيها اسم أمه “جينيه”، أما اسم الوالد فظل مجهولا، وفي أخرى يتحدث عن تجربة السجن التي أثرت فيه كثيرا، وبين جدران محبسه كتب الكثير.
أطفال الحارس.. عفوية تعكس الواقع وتستشرف المستقبل
يمنح الوثائقي جزءا كبيرا من مساحته لأطفال حارس المقبرة، لأنهم بعفويتهم المعهودة يعكسون الواقع الذي يعيشونه، وأيضا يقدمون من دون قصد رؤيتهم للمستقبل الذي يريدونه لأنفسهم.
من بين أكثر الشخصيات حيوية في الفيلم الصبية ضحى ابنة الحارس التي تعتني أيضا بالمقبرة في أوقات فراغها، فهي تهتم بدراستها وتحرص على التفاعل بشكل خاص مع “جينيه” في قبره، فتكتب له القصائد لتقوي لغتها الفرنسية. هي مثل عائلتها تعامل الأموات على حد تعبيرها “مثل الأطفال وكما لو كانوا أحياء بيننا”.
ومثل أخيها فهي لا تخاف من وحشة المقبرة، لأنهم نشأوا وسطها وبات الأموات جزءا من عائلتهم، ينادونهم بأسمائهم ويعتنون بنظافة قبورهم، ويسمعون حكاياتهم على لسان أمهم التي ولدت في نفس الشهر (ديسمبر/كانون الأول) الذي جاء فيه “جينيه” إلى الدنيا: إنه مسكين لم يعرف والده ولا والدته التي تركته وهو ابن ثلاث سنين.
في سياق العلاقة بين الأطفال والمقبرة، تلتقط المخرجة مشهدا معبرا عن حال أطفال العرائش وبؤس عيشهم، وتظهر فيه مجموعة من الأطفال يلعبون الكرة بالقرب من سياج المقبرة، وعندما تحاول راعيتها إقناعهم باللعب بعيدا عنها يجري حوار هادئ بين الطرفين، ويبرر الأطفال لعبهم قرب المقبرة بأن المدينة ليس فيها ملعب خاص بهم.
يمضي الحوار أبعد من الكرة، ويصل لوصف حالهم وحال عوائلهم الفقيرة، وتنصحهم راعية المقبرة بالاهتمام بدراستهم، فهذا يؤمن لهم مستقبلا أفضل، لكنهم يُواجهونها بواقعهم الذي يفيد بأن إنهاء الدراسة لا يضمن لهم عملا جيدا، وأنهم في النهاية سيجبرون على العمل مثل آبائهم على قوارب الصيد الصغيرة، ويظلون فقراء معدمين طيلة حياتهم.
حارس المقبرة.. ذكريات الإنسان الشعبي ذي الجلباب المغربي
ذكريات حارس المقبرة يونس أكثر تماسا مع حياة “جينيه”، لأنه وُلد في نفس المكان الذي كان الكاتب يتردد عليه باستمرار، ويتذكر أنه في طفولته كان يراه بشكل يومي تقريبا جالسا تحت شجرة، فاتحا كتابا يقرأ فيه، وحين يتوقف عن القراءة يأخذ بالنظر إلى مياه البحر ويتأمل زرقته طويلا.
يصفه بالإنسان العادي الشعبي الذي كان يرتدي على الدوام جلبابا مغربيا، وإذا لم يتحدث بلغته الفرنسية الأم يظنه الناس واحدا منهم، ويؤكد أن أكثرهم لم يعرفوه كاتبا، كما يتذكر أيضا كيف كان يشتري منهم الطيور التي كانوا يصطادونها، ثم يقوم بتحريرها في الفضاء.
مثل يونس يأتي كثيرون من الذين عرفوه وعايشوه لزيارة قبره، يضعون عليه باقات الزهور التي طالما تغزّل بها وكتب الكثير عنها، ويتذكرون الأيام التي قضوها معه. ومن خارج دائرة معارفه يأتي سياح لزيارة مرقده.
يسجل الوثائقي زيارة عراقي وكتابة نص جميل عن “جينيه” وأفكاره التي أراد بها تحرير عقول الناس من قيود العادات الموروثة، وتخليصهم من هيمنة السلطات.
أسوار السجن.. ذكريات تجربة مريرة في مكان موحش
التشابك الحاصل بين حاضر المدينة وتاريخه الشخصي المقرون بوجوده فيها يدفع الوثائقي للذهاب نحو موقع قريب من المقبرة له صلة شديدة بحياة “جينيه”. المكان هو سجن المدينة المحاط بأسوار عالية تُذكر بالأسوار التي أحاطت بالكاتب يوم مكث في السجون الفرنسية لجرائم سرقة ارتكبها في شبابه، يوم كان يخالط المشردين والمدمنين في أحيائها الفقيرة، وفيها تعرف على جوانب عميقة من حياتهم، تماما كما تعرف على أشباههم في المغرب.
لا تأخذ صانعة الفيلم تجربة سجنه موضوعا رئيسا أو تخصص له فصلا كاملا من فيلمها، بل تذهب للبحث عن المشتركات بين السجناء والسجن في كل مكان. مقابلاتها تفضي إلى تأكيد حقائق ثبتها “جينيه”، من بينها أن السجون في الواقع والممارسة ليست مكانا لإصلاح الاعوجاج الحاصل في سلوك المساجين، بل هي مساحة خصصت لكي يقضوا عقوبتهم بين جدرانها.
المكان موحش، ومع ذلك يظهر من بين زنزاناته سجين مغربي مثل “جينيه” يحب الكتابة ويعتبرها وسيلة للتعبير، ليس لنقل أفكاره وتجربته داخل السجن فحسب، بل هي متنفس له ونافذة يشعر من خلالها بحريته الداخلية التي لا يريدها أن تسجن معه.
قسوة العرائش.. بلاد تلفظ أبناءها وتجذب الغريب
الملازمة الطويلة لعائلة حارس المقبرة تفضي هي الأخرى إلى مساحات تظهر فيها معاناة الناس ومشاكلهم. ليس ببعيد عن الساحل المجاور للمقبرة تظهر في مشاهد واسعة أُخذت لها من علو نساء مغربيات فقيرات يجمعن بعض ما يلفظه البحر من قواقع يسددن بها رمق أطفالهن، أو يقمن بجمعها من بين الصخور.
وفي الميناء الذي طالما كان يزوره ويقضي وقتا طويلا من يومه مع صياديه، يعيد “جان جينيه أبو الزهور” نفس المشاهد التي كان يراها الكاتب ويصفها في كتاباته وأشعاره؛ صيادون يذهبون بقواربهم وسط البحر بحثا عن صيد يؤمنون به عيشهم، كل رحلة هي مغامرة، وكل خيبة من صيد وفير تنعكس على أمزجة الصيادين.
في الزمن الحالي تلتقط كاميرا الوثائقي مشهدا عاما يظهر فيه صبيان ورجال يجمعون من فوق أرضية الميناء ما سقط من شباك الصيد من أسماك صغيرة. مشهد محزن كذاك الذي يظهر فيه شباب يطلون قبور المقبرة باللون الأبيض، شباب يشعرون أن لا مستقبل لهم هنا، يفكرون وبعضهم يخطط لعبور البحر نحو الجهة الأخرى أملا في عيش أحسن.
الحزن يأتي من مفارقة المشهد الجامع لهؤلاء الشباب بقبر كاتب ترك بلده الأوروبي، وطاب له العيش في المكان الجديد، بينما يفكر أهل المكان بتركه، لأنه لم يعد يوفر لهم ما يحتاجونه من مستلزمات العيش السوي.
أليس من أجل هذا الحق كتب “جينيه” الكثير، ورفض بسلوكه المتذمر العيش باشتراطات مجتمعية مفروضة عليه؟ أليس من أجل نيل حريته الشخصية قرر السفر إلى الجهة الأخرى من البحر؟
تلك الأسئلة تحضر بقوة إلى الذهن بعد انتهاء زمن وثائقي ممتع وعميق، والأهم أنه جميل في كل اشتغالاته السينمائية. اللافت فيه سلاسة سرده وانسيابية تدفقه، لدرجة أن المتلقي لا يشعر بأي انقطاع حاصل في مسار إنجازه، بسبب وفاة صانعته التي يبدو أنها جهزت نصها بدقة وإحكام فرضا على من يأتي بعدها أن يتقيّد بهما، ليأتي منجزها كما تريده، فيلما وثائقيا يجمع بين حياة كاتب فرنسي ومدينة مغربية أحبها وعاش فيها زمنا، وعاملها كما لو كانت مدينته الأولى، بينما لا يزال أهلها يعاملونه بعد سنين طويلة من وفاته كرجل وكاتب يشبههم، فضّل الإقامة بينهم على بقية مناطق الأرض.