“اسمي غلبليل”.. نقمة السكان الأصليين بأستراليا على الرجل الأبيض

ندى الأزهري

“ذهبتُ بعيدا، بعيدا جدا، لماذا تركتُ أرضي؟”..

على أرض أرنهيم في الإقليم الشمالي لأستراليا حيث كان يعيش السكان الأصليون، نشأ “غلبليل” في الأدغال. لقد كان منغمسا تماما في الثقافة المحلية، وكان صيادا ومتعقبا وراقصا احتفاليا لا مثيل له.  وعندما توفي والداه أخذه مبشرون محليون لتعليمه الحياة “المتحضرة”، فقد خمّنوا تاريخ ميلاده في عام 1953، وانغمسوا فيما اعتبروه مهمهتم في العمل على “تحضّر” هذه الكائنات العجيبة بنظرهم، وأطلقوا عليه اسم “ديفد”، وأضافوا إليه اسمه الأصلي “غلبليل”.

لقد كان غلبليل في الـ14 من عمره حين وصلت سمعته كراقص قبلي مُبهر إلى المخرج البريطاني “نيكولاس روج”، وكان هذا قد قَدِم عام 1969 لاستكشاف منطقة مانينجريدا الواقعة في قلب منطقة السكان الأصليين شمالي أستراليا من أجل فيلمه “التنزّه” (Walkabout) الذي صدر عام 1971، فقد أتوا له بـ”غلبليل”، وسرعان ما عهد إليه بالدور: شاب من السكان الأصليين يعبر طريق مراهقة وشقيقها الصغير وهما يتجولان في الأدغال بعد انتحار والدهما.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تصوير شخصية من السكان الأصليين على الشاشة. لم يكن غلبليل يتحدث الإنجليزية حينها، لكنه بعد هذه التجربة تعلّمها، وبدأ بممارسة مهنة التمثيل لما يقرب من 50 عاما.

 

مواجهة ثقافية.. الساكن الأصلي مقابل أصحاب البشرة البيضاء

لقد قررت المخرجة الأسترالية “مولي رينولدز” عمل فيلم وثائقي عن مسار هذا الرجل الذي اتبع رغباته، واستمد من ثقافته الأصلية وثقافته المتبناة ما يلائمه لبناء حياة خاصة على مقاسه.

“اسمي غلبليل” (My Name is Gulpilil) هو الفيلم الذي أنتج عام 2021، ويعرض الآن بعد رحيل بطله، إنه فيلم عن التأمل في الموت، ودرس في الحياة لرجل بقي حتى النهاية ملتصقا بحضارته الأصلية وروحانياتها على الرغم من اكتشافاته لنمط الحياة الغربية التي جعلته يحيد عما عرف وعما نشأ عليه في شبابه، إنه فيلم يكشف الحياة المعقدة لرجل احتفظ بحكمة السكان الأصليين، وانجذب لشيطنة الحياة الجديدة.

تلتقي المخرجة الممثل والرسام والراقص التعبيري في أيامه الأخيرة، حيث تتابعه وتسجل يومياته. تتداخل الصور والأزمنة في الفيلم، يتكرر سيره على درب طويل ضيق في المكان حيث يحاول العيش، مريض يتحرك بصعوبة، لكنه يصر على أن يعيش حياة طبيعية، يتحدث عن ثقافته والابتسامة لا تفارقه، ترجع به الذاكرة إلى فيلم له تحوم حوله أحصنة ومسلحون بيض البشرة ليلتقطوا هذا “الكائن” الذي لا يشبههم، والذين داسوا أرضه.

مشهد من فيلم صبي العاصفة الذي ظهر فيه غلبليل

 

لقد مثّل “غلبليل” على الدوام شخصيته على الشاشة الساكن الأصلي في مواجهة أصحاب البشرة البيضاء، قد تكون مواجهة ثقافية أو معنوية أو قتالية.

“غلبليل”.. حين تسكن الأرض مخيلته

يحكي “ديفد غلبليل” للمخرجة عن ذكرياته التي تتعلق بالصيد والعائلة وهو يرسم رسوما رائعة بألوان زاهية، خطوط رسوماته المتداخلة ترسم حيوانات ملتوية؛ تماسيح نهرية كانت هدفا لسهامهم، وأشجار مورقة على خلفية طبيعة ذهبية، يتذكر صيد الثعابين في النهر، وكل هذه السعادة التي كانت تسكنه.

ما زالت أرض “غلبليل” تعشش في مخيلته، يفتقدها -كما يردد مرات عدة خلال الفيلم- كما يفتقد أولاده. هذه الأرض لا يعرضها الفيلم، كما أنه لا يُظهر أولاده ولا يصوّر كلام “غلبليل” عنهم.

تتركه المخرجة على سجيته يسرد ما يريد، ويسرح بأفكاره على هواه كما فعل دائما في عيشه، هكذا بدا الأمر، وكأنها فضّلت ألا تطرح عليه كثيرا من الأسئلة لتوجيه جنوحه، فهو يتحدث كما يريد.

غلبليل يصارع الموت في اخر أيام حياته

 

كان المرض شاغله وشاغل يومه، والفيلم يورد كل هذا في شيء من تطويل، كان يمكن اختصاره للحديث عن أشياء أخرى، عن ناسه القدامى مثلا، لكن الحاضر والمدنيّة كان لهما الحضور الأكبر في الفيلم، أما المشاهد فيبقى متعطشا منتظرا للمزيد من الحديث والكشف عن الماضي.

الموت.. طقوس دفن ورقص وموسيقى

اتكأت المخرجة على أفلام شهيرة لغلبليل لتبدي أكثر ماضيه وتقاليده وثقافته التي لطالما جسدها في هذه الأفلام. لم يُعرّف الفيلم حقا بعائلته، فقد مرّ شخصان منها سريعا عندما حضرا لتوديعه. يقول غلبليل إن أحدا من عائلته -إخوته وأخواته- لن يعرف بخبر موته.

يحكي غلبليل مرارا عن طقوس الدفن في قبيلته، تلك التي تعلمها من والده، حيث يَرِدُ ذكر والده الراحل مرارا في حديثه، فهو أكثر مَنْ يُذكر، بل الوحيد، مع كل ما علّمه واحتفظ به في ذاكرته.

الرقص والاستماع للإيقاع الموسيقي في المراسم والطقوس، هكذا أصبح غلبليل أكبر راقص تعبيري للطقوس الاحتفالية، خاصة لتمثيل الموت. حيث يأمل أن تُقام له هذه الطقوس بعد موته، ويؤكد على ضرورة أن يدفن في أرضه البعيدة، وكم تبدو بعيدة؟! وكأنها في قارة أخرى، لكن الرجوع إلى نقطة القدوم، إلى هناك في أرض الأصل لا بد منه، فلن تعود الروح إلا إليها.

“تعلمت الكثير من الرجل الأبيض.. الكحول والمخدرات”

أصبح غلبليل شهيرا بفضل تمسكه العميق بثقافته واحتفاظه بها، ولكن فضوله أيضا كبير لاكتشاف ما يُعرض أمامه من ثقافة جديدة؛ ثقافة البيض البعيدة كل البُعد عما نشأ عليه.

لقد تعرّف على كبار المشاهير، وترافق اعترافاته صور من الأرشيف للقاءاته مع ملكة بريطانيا و”كلينت أستوود” و”محمد علي كلاي” ومغني الريغي “بوب مارلي” الذي جعله يدخن الحشيش.  يقول غلبليل ضاحكا: “في ثقافتي لا نعيش هكذا، لم أكن أشرب أو أدخن أو آكل السكر”.

غلبليل يحكي عن حياته كواحد من السكان الأصليين

 

هنا في عالم البيض عرف غلبليل كل شيء، أدمن الكحول والماريجوانا والحشيش، وصار يضرب زوجته. لقد بات مختلفا على أرض البيض وهو بعيد كل البعد عن أرضه، لكن كان عليه فيما بعد أن يتوقف عن كل شيء، عن المشروبات الكحولية والكافيار والتدخين بعد إصابته بسرطان الرئة. إنه يريد أن يكون أقل فوضوية، وها هو يعيش سنوات أكثر مما توقع له الأطباء.

يحلو لغلبليل أحيانا عقد المقارنات بين ثقافتين، فهو الذي عاش بين عالمين متنافرين تماما؛ عالم القبيلة وعالم المدينة. “لقد تعلمت الكثير من البيض؛ الكحول والمخدرات… لكن ليس هذه وحدها”. لقد أحبّ السفر وتجول في أنحاء العالم، لكن المدن بقيت بالنسبة له أمكنة للزيارة وليس للعيش.

أعجب بالطبّ الذي يمارسه البيض، فهم يريدون أن يتغلبوا على الأمراض، وفقط السحر الأبيض يمكنه أن يشفي. هكذا يقارن في ذهنه بين الرجل الأبيض “الطبيب” وبين “الساحر” رجل الأدغال مع طبّه التقليدي، ومع ذلك هو مقتنع بأنه ليس هناك شيء يستطيع علاجه.

الأرض.. عندما ينهبها الأبيض ويمنح أهلها الموت

ينجح الفيلم في رسم شخصية الرجل ليس من خلال حديثه فحسب، وإنما أيضا عبر تعليقاته على بعض أشهر أفلامه، فيعبر مثلا عن شعور بالحزن أحسّ به في فيلمه الأول “التنزّه”، وذلك لأن شخصيته أحبّت المرأة البيضاء ولم يكن هذا مقبولا، ويسرح في الحديث عن إجادته الرقص التعبيري ودوره في إيصال المشاعر.

كما يحكي عن انجذابه في فيلم “صبي العاصفة” (2019) للفرنسي “هنري سافران” لفكرة أن يعيش شخصان معا في عالم واحد، إنما بطريقة مختلفة، كما أعجبته فكرة تعليم صبي أبيض صغير أشياء عن الطبيعة.

 

يستعيد غلبليل الأغنية الحزينة في فيلم” المطارد” (2002) (The Tracker) للأسترالي “رولف دو هير” عن هؤلاء الذين يذهبون بعيدا جدا عن أرضهم، حيث تجعله هذه الأغنية حزينا وهي تتغنى بجمال هذه الأرض التي ستبقى للأبد، والتي جاء الرجل الأبيض وصوّب سلاحه نحوها ونبش ثرواتها، و”كانت له كلها، أما نحن الأصليون فلنا الموت”.

لا ينفك الفيلم يستعين بمقاطع من أفلام كان بطلها غلبليل، حيث يتوقف عند فوزه بجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان 2014 عن فيلم “بلد شارلي” (Charlie’s Country) المعروض في قسم “نظرة ما”.

وشارلي في الفيلم محارب سابق من السكان الأصليين، حيث تحاول الحكومة أن تحكم قبضتها على طريقة الحياة التقليدية لمجتمعه. لقد كان ممزقا بين ثقافتين، إلى أن قرر العودة للعيش في الأدغال واختيار طريقه الخاص لخلاصه.

يسرد غلبليل طرائف عن جولاته مع أفلامه، وعن ردود فعل الناس، فقد كانوا يتساءلون: هل هو حقا من السكان الأصليين؟ هل له ذنب مثلا؟ وكان يرد ضاحكا: لا، أنتم تخلطون بيني وبين الكنغر.

غلبليل.. بين حكمة السكان الأصليين وشيطنة الرجل الأبيض

لقد كان غلبليل سعيدا بإنجاز هذا الفيلم الوثائقي عنه، فهو يحب صنع فيلم عن قصته وتاريخه، فيلم لا يُمحى تتذكره الأجيال، فهو ممثل وراقص ورسام يحب السينما والتصوير، يعجبه التمثيل ولا يعتبر أنه يمثّل، بل يتصرف على طبيعته بلا تصنع، فهو ليس محتاجا للعب الدور، حيث يقول “أتصرف كما أريد والكاميرا تتبعني، كأنني ذاهب في رحلة صيد، أمثل كما لو كنت أرقص”.

مشهد من فيلم بلد تشارلي الذي ظهر فيه الممثل غلبليل

 

يطول الفيلم في بعض مراحله، ويكثر الحديث عن المرض والمعالجة، لكن عبر مونتاج رائع يمزج الصور والأزمنة والأماكن، حيث تنجح “مولي رينولدز” في تلمس روح هذا الرجل وكشفها، وفي تقديم نظرة ثاقبة على شخصية معقدة ورؤية شاملة لرجل كان قادرا على فعل الأسوأ والأفضل من ثقافتين، حاملا حكمة السكان الأصليين وشيطنة الغربيين.

في المشهد الأخير ينهي غلبليل الفيلم بقوله “اسمي غلبليل، لغتي ماندهالفاينغو (Mandhalpuyngu) وأرضي أرنهيم. نعم، كان هذا أنا شكرا”.

رحل غلبليل في 29 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2021 قبل عرض الفيلم في الصالات.