“حريق”.. أنين غابات أستراليا المنكوبة التي لا يبالي بها السياسيون

د. أحمد القاسمي

لم يعد الصيف اليوم موسم العطل والبحر فقط، فقد بات موسم الحرائق أيضا، ولم نعد نتسمّر أمام شاشاتنا لنتابع النشرات الإخبارية أو الجوية فحسب، فقد أصبحنا نتابع على مدار أشهره نشرات الحرائق التي اعتدنا أن نتابعها في الجنوب الأوروبي كإسبانيا وتركيا واليونان، وروّضنا أنفسنا بعدها على حرائق الشمال الأفريقي التي تضاعفت هذه السنوات الأخيرة، ثم غدونا نعيشها عيانا لا خبرا، فنرى آثارها المدمرة ونحن نمر بهذه المنطقة أو تلك.

يحدث كل هذا في الشطر الشمالي من كوكبنا المنكوب، أما الفيلم الوثائقي “حريق” (Burning) للمخرجين “جونتان شارف” و”أفا أورنر” (2021)، فيأخذنا إلى الشطر الجنوبي منه ليطلعنا على مآسي أشد وأنكى.

صيف أستراليا الأسود.. جحيم التحول المناخي في حرائق غاباتها

يعود الفيلم إلى صيفي 2019 و2020 ليسلط عدسته على الكوارث البيئية التي شهدتها أستراليا بعد سلسلة الحرائق التي بات يشار إليها بالصيف الأسود، فتحاول الكاميرا أن تقترب من ألسنة اللهب المنبعثة والشرار المتطاير والهول الذي يرتسم بفعلها على الوجوه، وتحاول أن تأخذنا حركتها المضطربة إلى أرض الحريق، خالقة لغة سينمائية مميزة تحاول أن تنتزع المتفرج من سلبيته، وأن تجعله يعيش محنة الاحتباس الحراري عاطفيا وروحيا أكثر مما تحاول توعيته أو مخاطبة عقله.

ومن الصور المؤسسة لباقي دلالات الفيلم استجمام المصطافين على الشواطئ الهادئة، حيث الانبساط والحياة المنعّمة اللذيذة. فعبر مونتاج قطع مفاجئ يأخذنا المخرجان مباشرة إلى مشاهد الهول في الداخل الأسترالي، حيث تواجه الغابات والأحراش أسوأ حرائقها. وعبر هذا الأسلوب الصادم ينبهنا الفيلم إلى أن مشاهد الحياة المنعمة حاضر خادع، أما الاستجمام الذي نراه في اللقطات الأولى فهو وهْم يشغلنا عن أبواب الجحيم التي تفتح شيئا فشيئا على العالم بسبب التحولات المناخية.

الملصق الرسمي لفيلم حريق من إنتاج منصة أمازون

 

كما أن الإنسان اليوم لم يرتق بعد إلى مستوى التحدّي، فهو يظل أنانيا لا مباليا بالحريق خلفه، وفي الاستجمام تحت أشعة الشمس على الشواطئ صورة رمزية تختزل تجاهله بقصد ونية لمعاناة الطبيعة، وإمعانه في استغلالها وفي إرباكها لتشتد حرارتها وتفقد توازنها، فتؤثر في مختلف مظاهر الحياة العامة، ثم يحوّل صوت السارد من خارج الإطار هذه الإدانة من اللمح والإيحاء إلى اتهام مباشر للطبقة السياسية والاقتصادية.

إن أستراليا تشهد أعتى الحرائق في العالم لإهمالها متطلبات التوازن البيئي، فهي اليوم من أكثر الدول إنتاجا للفحم الحجري، وإسرافا في استخراج الوقود الأحفوري الملوث، وتعتمد عليهما معا مصدرا رئيسيا لإنتاج الطاقة.

أستراليا.. أرض هشّة عاجزة عن الصمود

لأستراليا وضعية خاصة تجعلها أرضا هشة عاجزة عن الصمود أمام الحرائق، فهي جافة ومسطحة جدا. يقول صوت السارد من خارج الإطار بأسف: لا جبال فيها تستجلب الأمطار، وأحراشها جافة بفعل الحر، تنتظر أضعف الشرارات لإذكاء النار وتحويلها إلى لهب مستعر، ويصادف موسم حرائقها موسم هبوب الرياح التي تؤجج من نيرانها، فتفاقم أخطارها رغم تطور وسائل مقومتها.

ولشرح هذه الفكرة يحاور الفيلم من كرّسوا حياتهم للدفاع عن الحق في بيئة سليمة، ومن دعوا إلى العمل على خفض حرارة الأرض والكفّ عن العبث بها، ومن هؤلاء “غريغ مالينز” مفوض الإطفاء السابق الذي جعل من مقاومة النيران هدف حياته بعد أن شهد أولاها سنة 1972، وكذلك عالم المناخ “تيم فلانري” الذي يدرس التغير المناخي، وكان قد فقد منزله بسبب حرائق سنة 1994.

ألسنة اللهب تلتهم أشجار غابات أستراليا

 

يساعدنا كلاهما عبر طرح علمي تاريخي على تمثّل خطر الارتفاع الكبير في معدلات الحرائق وتضخم هولها، ويجعل كلاهما من سنة 1994 منعرجا فارقا تحولت فيه أستراليا من مواجهة حريق ضخم مدمر كل 10 سنوات، إلى حرائق ضخمة كل سنتين أو ثلاث، إلى مواجهة حرائق متزامنة في مختلف أنحاء القارة في الوقت نفسه في السنوات الأخيرة.

وعبر المؤثرات الدرامية والصور الأرشيفية يحاول الفيلم أن يجسّد أنات الأرض الجريحة، فيعرض تشققات بركها بفعل الجفاف وتضور الحيوانات جوعا ونفوق بعضها عطشا، مؤكدا على لسان عالم المناخ أن المنعطف المناخي الأخطر لم يحدث بعد، فنحن فقط على أعتابه، موجها اللوم إلى رجال السياسة الذين لا يبالون بصيحات الفزع التي يطلقها ويعملون على تهميش دوره لمصالح فردية أنانية.

للطلبة كلمتهم.. أطفال يتهمون الراشدين بإفساد بيئتهم

يركز الفيلم في قسم كبير منه على احتجاجات طلبة المدارس المتوسطة على الوضع البيئي في البلاد وإضرابهم عن الدراسة، ويبرز انخراطهم في تحركات المجتمع المدني الذي يعمل على التأثير في سياسات الحكومة حتى تكون أكثر انتباها إلى الخطر المحدق. وفي تجمع خطابي تُنبه ممثلتهم إلى مسؤولية الكهول قائلة “نحن تحت وطأة أزمة عالمية هائلة، فأنتم تفسدون في الأرض ثم تتركونها لنأتي نحن فننظف فوضاكم”.

رئة الأرض التي تختنق وتضيع معها موارد الجيل القادم

 

يجعل هذا التحرّك الطفل في قلب الجدل البيئي، فضمنا يتهم الأطفالُ الراشدين بأنهم يستولون على حقهم بالعيش في بيئة متوازنة في مستقبل أيامهم. ويرمي الفيلم إلى إثارة القضية من خلفية حقوقية، فهل من حقنا اليوم وبحجة البحث عن الحياة المرفهة أن نضر بإمكانية العيش السليم على الأرض، وأن نضع الأجيال المقبلة في مثل هذه المحنة؟

يكون الاستعمار أفقيا بأن يستعمر شعب شعبا آخر، فينتزع منه الأرض وفرص العيش الكريم ويستأثر بها دونه، ولكن أليس هذا الاستهتار بالبيئة استعمارا عموديا؛ أي أن يستأثر جيل بحق جيل آخر فيسلب منه الأرض وفرص العيش الكريم؟

تبدو ردة فعل الأطفال حماسية وعنيفة وهم يدافعون عن حقهم في حياة مستقبلية، وتتجاوز مطالبهم الكف عن استخراج الوقود الأحفوري إلى عزل رئيس الوزراء. وللفريق الحاكم طرحه الأخلاقي بدوره؛ فهل من الأخلاقي أن نقحم الطلبة في هذا المعترك السياسي، فنستغل اندفاعهم وعدم نضجهم ونوظفهم من حيث لا يعلمون لخدمة أطروحات المعارضة؟ إن ميدانهم الأنسب هو المدارس، أما المعترك السياسي فميدان الكبار.

ويبدو الفيلم هنا أميل إلى تصنيف خطاب السلطة بالخطاب السياسي المقنّع الذي يستغل الخطاب التربوي لإقصاء أصحاب الحقوق بحجة الوصاية الأبوية، والحال أنها هي المعتدية على حقوق الأطفال، أو تمثل مصالح المعتدين من رجال الاقتصاد المتوحش الراغب في الربح الأقصى.

الدولة العميقة في أستراليا.. إجرام بحق البيئة تحت شعار “الغايات النبيلة”

السياسة هي في مفهومها البسيط تدبير الشأن العام، فيعهد بموجبها الحفاظ على مصالح البلاد إلى رجالها. ومن هذا المنطلق -أو على الأقل من ظاهره- ترفع الحكومة الأسترالية شعار دفع الاقتصاد وتحسين المعيشة وإيجاد فرص جديدة للعمل. وكيف لها أن تحقّق “هذه الغايات النبيلة” دون استخراج الفحم الحجري وتصدير الوقود الأحفوري؟

حجتها دائما: “لو لم نكن نملك هذه الثروات لما كان لدينا شيء”. لذلك ظلت انتهازيتها تمثل عقبة أمام مقاومة التغير المناخي، فكانت تشكّك في مقولات علماء المناخ، وتضع عمل عالم المناخ “تيم فلانري” ضمن خانة المؤامرة أو الخدعة التي يستعملها البعض.

 

ويعرض الفيلم مشاهد للنائب “سكوت مروسن” الذي أصبح لاحقا رئيسا للوزراء وهو يحمل قطعة فحم في مجلس النواب عام 2017 صائحا في وجه المعارضة “هذا فحم، لا تخافوا لن يؤذيكم”. والمفارقة أن قطعة الفحم تلك كانت نظيفة تطلق إشعاعات كريستالية ضمن مشهد دعائي وعرض تسويقي تم الإعداد لهما جيدا.

يصف “مروسن” المعارضين للطاقات الملوِّثة للبيئة بأن لهم مخاوف أيدولوجية ومرضية من الفحم، ولا يغفل عن تحلية خطابه بسخرية تصف هذا الداء برهاب الفحم الذي يصيب المتواطئين الذين يريدون حرمان الناس من الإنارة والمكيفات، ويعرّضون حياة الرضّع في المستشفيات إلى الخطر بفعل انقطاع الكهرباء.

ومكافأة له من قبل الفاعلين في الدولة العميقة المستفيدين من الإجرام الذي يلحق بالأرض؛ تقلّد “مروسن” لاحقا منصب رئيس الحكومة، فاستمر في سياساته اليمينية المتطرفة رافضا دعم مشاريع السيارات الكهربائية، غير مبال بالدعوات إلى الاستعداد الجيد لموسم الحرائق، فما يحدث صيفا أمر عادي بالنسبة إليه، والعيب يكمن في معارضيه الذين يجعلون منه فزاعة لربح أصوات في السباقات الانتخابية.

رئة العالم.. نكبة أخرى تشعل حربا كلامية

بعيدا عن الفيلم ومجادلته للشأن السياسي والبيئي المحلي، يحق لنا أن نتساءل: هل تخص هذه المعضلة أستراليا وحدها، وهل يمكن لأولئك الطلبة المتحمسين إيقاف الكارثة الكونية التي تهدد الأرض اليوم؟

لقد أثبتت الكوارث الكبرى التي حلت بالكون في السنوات الأخيرة أن الإنسانية تظل كتلة واحدة، وأن مصيرها يبقى واحدا مهما فرقتها السياسة أو الجغرافيا أو التاريخ. كذلك كان الأمر بسبب الحرائق والاحتباس الحراري وبسبب الأوبئة والجوائح، وبسبب الحوادث النووية المدمرة. وعليه فلا يمكن حل مشكلات الأرض على مستوى الأفراد أو الدول؛ أي بالبحث عن الخلاص الفردي الذي بات يحرك الإنسان اليوم ويجعله أنانيا.

تأخذنا الذاكرة إلى نكبة أخرى تجري في حوض تُعادل مساحته مساحة أستراليا كلها، ففي غابات حوض الأمازون الذي يضم نحو 400 مليار شجرة ويوفر خُمس غاز الأكسجين للأرض تضاعفت الحرائق سنة 2019، وذلك بزيادة قُدّرت بـ85% مقارنة بالعام 2018. لم تكن هذه الحرائق تلقائية غالبا، فكثيرا ما تُفتعل لتجهيز الأرض للرعي أو لزراعة محاصيل جديدة، وبدفع من خطابات الرئيس البرازيلي “يائير بولسونارو” المناهضة للبيئة والمشككة في قضية التغير المناخي والتي تحث المزارعين على قطعِ الأشجار و”تنظيف الأرض”.

رجال الاطفاء يسارعون الزمن لتطويق النار

 

هذا ما تسبب في حرب كلامية بينه وبين الرئيس الفرنسي “مانويل ماكرون”، حيث اعتبر الأخير أن حرائق الأمازون تمثل أزمة دولية في تغريدته الشهيرة “إن منزلنا يحترق.. فعليا”، مضيفا أن “غابة الأمازون المطيرة، وهي الرئة التي تنتج 20% من الأكسجين في كوكبنا؛ تحترق”، داعيا إلى وضعها على جدول أعمال اجتماع مجموعة السبع. لكن “بولسونارو” اتهمه بتهويل الحدث والتدخل في الشؤون البرازيلية الداخلية انطلاقا من “عقلية استعمارية”.

الخطاب الدولي.. بين منافق وآخر مُتنصِّل

لا شك في أن الاستهانة بالبيئة تمثل عملا عدائيا تجاه العالم، ولا شك أيضا في أن الحفاظ على الرئة التي تتنفس بها الأرض ضرورة قصوى. لكن في المقابل ماذا فعلت دول العالم والمنظمات الأممية لحماية تلك الغابات، بالنظر إلى أن أهم سبيل لحمايتها توفير أسباب العيش الكريم لأولئك الفقراء في البرازيل لتعويضهم عن عدم استغلال أراضي بلدهم.

 

ليس من العدل أن تستغل فرنسا مثلا كامل مساحتها في الاستثمار الملوِّث للبيئة وتطلب من البرازيل أن توفر لها الهواء النظيف، فهذه الواقعة تكشف أمرين هما أن الخطاب الدولي خطاب منافق لا يعمل بإخلاص على مواجهة هذه الحقيقة المرعبة. أما الدول الغنية التي تتحمل وحدها تقريبا مسؤولية تلويث البيئة والإضرار بالأرض، فهي تريد من الدول الفقيرة أن تتحمل العبء وحدها.

جميعنا يتذكر المفاوضات الشاقة في مؤتمرات المناخ بكيوتو وباريس ومدريد للتخفيض من ثاني أكسيد الكربون، فهذه المفاوضات تتحول إلى ليّ ذراع يفرض فيه الأقوياء رؤيتهم ومصالحهم، بل إنهم لا يتورعون عن التخلي عن تعهداتهم بعدها كما فعل الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الذي أعلن الانسحاب من معاهدة باريس سنة 2017، ونفّذ ذلك لاحقا بحجة أن الاتفاقية التي وُقعت سنة 2015 تضر باقتصاد بلاده، ويتجاهل في المقابل أن الصناعة الأمريكية تسبب أكبر نسب التلوث، وتضر بالأرض أكثر من أي اقتصاد آخر.

نداء السكان الأًصليين.. استغاثة الرجل البدائي مقابل طغيان الحضارة الغربية

يبدأ الفيلم بإنشاد مؤثر لأحد السكان الأصليين، لا نفهم كلمات النشيد قطعا، لكننا نفهم بكل تأكيد الرسائل التي يريدها المخرجان منه، فهي مديح للحضارة الأصلية التي عرفت كيف تحافظ على توازنها وعلى أسباب استمرار الحياة فيها، كما وتمثل بالقدر نفسه إدانة للحضارة الوافدة وللعقل الغربي من ورائها رغم ادعاء المدنية الذي تتشدّق به، فبوصول هذا العقل إلى أستراليا أخذت مقومات التوازن البيئي تنهار، وأصبح مستقبل الحياة على الأرض مهددا فعليا.

ومع ذلك، ورغم هذا الحنين الرومنسي إلى الماضي، يتطلع الفيلم إلى المستقبل مشيرا إلى نضال المنظمات المدنية الدولية وعملها على التوعية بمخاطر تغير المناخ في كافة أنحاء العالم، داعية إلى الاستثمار في الطاقات المتجددة غير الملوثة.


إعلان