“الملكة الأخيرة”.. امرأة جزائرية تصمد في وجه القراصنة

لم نشاهد من قبل فيلما من الجزائر بكل هذا الرونق والروعة والجمال والقوة، والفيلم يعود إلى فترة مجهولة من تاريخ الجزائر؛ إلى أوائل القرن السادس عشر، وذلك في دراما هائلة تعكس الصراع بين القوى الجزائرية الوطنية، وبين الغزاة الذين جاؤوا من الخارج بقيادة القرصان ذي اللحية الحمراء.

الفيلم هو “الملكة الأخيرة” (The Last Queen) الذي شارك في قسم “نافذة على المبدعين” بمهرجان فينيسيا السينمائي الأخير، واشترك في إخراجه “داميان أونوري” مع “عديلة بنديمراد” التي قامت أيضا بدور البطولة؛ أي دور آخر ملكات الجزائر “زفيرة” زوجة الملك سليم التومي الذي صعد إلى السلطة في أوائل القرن السادس عشر، وقد أحبته زفيرة حبا خالصا قويا لم يتزعزع، لكن أحداث الفترة لم تمض كما كان مقدرا لها أن تكون.

يروي الفيلم ذلك عبر أسلوب الأفلام التاريخية التي تتميز بالحركة ومشاهد المعارك الكبيرة بالسيوف والخناجر والفرسان وقصور النبلاء والعائلات الكبيرة، والملابس الملونة التي تنشد محاكاة ملابس تلك الفترة، وذلك في إنتاج ضخم ساهمت في تمويله مع الشركة الجزائرية التي يمتلكها “أونوري” و”بنديمراد” كل من فرنسا والسعودية وقطر وتايوان وغيرها.

الملك سليم والقرصان الأحمر.. استنجاد الأول بالطمّاع القاتل

نحن أمام عمل ملحمي كبير يتميز كثيرا بمناظره المبهرة ومشاهده التي تدور في مواقع طبيعية خارجية، وديكوراته الهائلة للمشاهد الداخلية التي تستعيد سحر ورونق قصور الحكام في الجزائر، فهي قريبة من تلك التي دارت فيها أحداث القصة الحقيقية المستمدة من وقائع التاريخ.

تدور الأحداث في مدينة الجزائر في عام 1516، ولعل من أبرز العناصر الفنية في الفيلم التناسق بين قطع الديكور والإكسسوارات والتكوينات البصرية البديعة في الصورة، إضافة إلى الألوان الزاهية المباشرة التي تعكس روح تلك الفترة المليئة بالحيوية والتمرد والغضب، والعناية الكبيرة بكل تفاصيل ومكونات الصورة، مع حركة كاميرا رصينة مدروسة بدقة تحيط إحاطة جيدة بمشاهد المعارك، وتبرز تفاصيل المكان، والمونتاج السريع الانتقالات، خصوصا في الثلث الأول من الفيلم، حيث ننتقل من مشاهد داخلية بين النساء في القصر، إلى المعارك الضارية التي تدور في الخارج مع الغزاة الإسبان.

يتميز الفيلم كثيرا بمشاهد الحركة والمعارك

كانت الجزائر في ذلك الوقت تواجه غزوا من قبل جيوش إسبانية، لذلك اضطر الملك سليم التومي إلى طلب العون من القرصان الأحمر “بربروسا” أو ذي اللحية الحمراء، فجاء بفصائله من القراصنة الصعاليك من المحاربين الأشداء، وتمكن مع قوات الملك سليم من دحر الإسبان وتحرير الجزائر.

كان يفترض أن يرحل القراصنة بعد ذلك عائدين إلى سفنهم وحياتهم التي تعتمد على قرصنة السفن التجارية في عرض البحر المتوسط، لكن “بربروسا” الذي يُعرف باسم “أروج” طمع في السيطرة على البلاد، فقرر البقاء مع قواته في الجزائر، وكما أصبح معلوما كان هو الذي قتل الملك سليم، وأراد أن يتزوج من زوجته زفيرة ضمانا لإخضاع أي مقاومة لنفوذه.

أروج.. ألباني بذراع فولاذية

يساهم “أروج” ذلك الألباني اليوناني المسلم، في مقاومة غزو الإسبان للجزائر من زاوية، ويفقد أحد ذراعيه في القتال ويكاد يفقد حياته، إلا أن رفاقه يوفرون له العلاج لتضميد جراحه، ثم يظهر بعد أن يكتسب ذراعا من الفولاذ مكان ذراعه المفقودة، لكن أصوله كقرصان هائم على وجهه تدفعه للرغبة في الاستيطان مع عصابته في أرض الجزائر والتمتع بخيراتها ونسائها أيضا.

أروج يتقرب من زفيرة ويسعى للحصول على موافقتها على الزواج منه

يصور الفيلم أتباع “أروج” في صورة أقرب إلى قُطّاع الطرق واللصوص الحمقى الذين لا يعرفون قواعد السلوك المتحضر، في مقابل صورة سكان البلاد الأصليين كأهل حضارة وتراث فني وثقافي.

نشاهد في المشهد الأول من الفيلم كيف تجلس زفيرة مع مجموعة من النساء، حيث يحتفلن وينشدن الأغاني الشعبية البديعة، ثم تروي لهن قصتها، وكيف كان خروجها من بلدتها وزواجها من الأمير سليم الذي أصبح ملكا على الجزائر.

بعد مقتل زوجها عندما كان في الحمام، تفر زوجته الأولى “شقة” وأبناؤها خارج المدينة، أما زفيرة فتقرر البقاء والصمود، وهو ما يجعلها تصبح رمزا للنضال ضد أروج وعصابته في عيون أبناء شعبها.

تظل زفيرة ترفض عرض أروج للزواج منها رغم كل المغريات والتهديدات، بل وتدعم المقاومة السرية المسلحة ضده، وعندما لا يعود أمامها مجال للمناورة، تفضل إنهاء حياتها بيدها على الاستسلام لهذا الطاغية الغازي الذي سيسلم البلاد بعد ذلك للأتراك العثمانيين، لكي يبدأ عهد السيطرة العثمانية على الجزائر الذي يمتد طويلا إلى حين الغزو الفرنسي في القرن التاسع عشر.

زفيرة.. أسطورة المرأة الجزائرية الأصيلة

رغم وجود أروج في قلب الأحداث، فإن الملكة زفيرة في قلب الفيلم، فهي الشخصية التي تدور من حولها الأحداث منذ البداية، ومن قبل أن تتزوج الملك سليم وتصبح زوجته الثانية. ورغم انشغاله عنها في ميدان القتال لصد الغزو الإسباني، فإنها تظل مخلصة له وتتصدى بكل قوة للمؤامرات التي تحاك ضده، فتصبح رمزا لقوة المرأة الجزائرية الأصيلة (الأمازيغية)، وتتحول إلى أسطورة تتناقلها الأجيال دون أن تعرف الكثير عنها، فقد طغت الأسطورة على التاريخ الذي لم يتم ذكره بسبب طغيان التاريخ الاستعماري (الكولونيالي) الفرنسي على الجزائر في العصر الحديث.

الملصق الرسمي للفيلم

يعمل الفيلم بالتالي على استعادة تاريخ هذه المرأة العظيمة، ويصور كيف واجهت اغتيال زوجها، وواجهت القاتل المغتصب واتهمته في وجهه ورفضت الخضوع له، وسعت لحماية ابنها الأمير يحيى الطفل الذي قامت بتهريبه عن طريق مساعِدة لها، لكنه يلقى مصرعه.

ولم يثنها فقدان ابنها الوحيد عن المقاومة، وظلت ترفض إغراءات أروج وعروضه بتأمينها والحفاظ على كل ممتلكاتها وقصورها.

أستريد.. سبية سويدية يستغلها أروج

في المقابل هناك شخصية الزوجة الأولى “شقة” التي تقود المقاومة من خارج المدينة، ومن هنا ينشأ التعاون بين المرأتين رغم كل شيء. وهناك شخصية أخرى غير معروف سندها التاريخي، لكنها لعبت دورا ملموسا في تصوير التحول الذي يمكن أن يحدث للمرأة الخاضعة، ثم مع تداعيات الأحداث ينمو وعيها وتنتهي بالتمرد على واقعها.

إنها فتاة بيضاء زرقاء العينين، تتحدث العربية بصعوبة تدعى “أستريد”، وهي في الحقيقة من سبايا أروج. تقول هذه الفتاة إنها سويدية، ولا بد أن تكون قد وقعت في قبضته خلال إحدى غزواته على سفينة من سفن بلادها، وقد أصبحت عشيقة له وارتبطت به، لكنه يستخدمها في البداية كرسول يرسلها مع خادماته اللواتي يحملن الكثير من الهدايا الثمينة والمجوهرات إلى زفيرة.

ومن الواضح أن أروج أغرم بزفيرة، وكان أكثر ما لفت نظره إليها شجاعتها وقوة شخصيتها واعتزازها بنفسها، فأراد بكل الوسائل إخضاعها، وربما أيضا إذلالها حتى يكتمل له الشعور بالنصر وتكتمل سيطرته على البلاد.

ترفض زفيرة بكل إباء وشمم قبول هدايا أروج، وتطرد “أستريد” من حضرتها، إلا أن الأمر يتطور من مجرد رغبة في السيطرة وإقامة تحالف (سياسي) بين فصائل القراصنة بقيادة أروج، وبين قبيلة زفيرة وأتباع الملك سليم، ليصبح هاجسا يؤرق أروج، فكيف تجرؤ امرأة على رفضه؟

يتضح لأستريد أن أروج يرغب فعلا في الزواج من زفيرة، وأنه كان يخدعها عندما وعدها بالزواج، فقد كان يُسمعها كلاما معسولا ويعتبرها محبوبته الوحيدة، إلا أنها تكتشف أنها مجرد ألعوبة في يده، يلهو بها كما يشاء، فتتخذ موقفا داعما لزفيرة، ثم تعلن نيتها الرحيل عن الجزائر.

عديلة بنديمراد ودالي بن صلاح.. أداء مقنع وواثق

تقاوم زفيرة رغبة شقيقها الأكبر في ضرورة مغادرة القصر والعودة معه إلى بلدتها الأصلية بدعوى أنها بعد أن أصبحت أرملة وحيدة دون زوج، لا يصح أن تقيم في القصر بمفردها وسط الرجال. لكنها تقاوم وترفض، وستؤدي مقاومتها هذه إلى طعن شقيقها وهو يحاول حملها بالقوة على انتزاع ابنها منها.

هذا موقف آخر يشير إلى طغيان المجتمع الذكوري الذي لا يعترف للمرأة بنفس ما يسمح به للرجل، وهو تصوير شديد المعاصرة بالطبع، أي أن الفيلم يلقي ببعض الرموز والإشارات المعاصرة في سياق تاريخي، بينما لم تكن مثل هذه المفاهيم مطروحة على هذا النحو في ذلك العهد بالطبع. إلا أن سياق السرد مقنع والصورة بديعة، كما أن الأداء التمثيلي يرتفع بالفيلم على مصاف الكلاسيكيات.

تسيطر عديلة بنديمراد في دور زفيرة سيطرة كاملة على الدور، وتقبض على مفاصل الشخصية، وتنتقل بين المشاهد المختلفة في تحكم تام، بحيث لا يفلت منها الأداء أو يهبط، أو تفقد التحكم في الحوار ولو مرة واحدة. إنها جوهرة الفيلم وقلبه وروحه بكل تأكيد، وفي مشاهدة أدائها متعة كبيرة.

يبرز في الفيلم الاهتمام الكبير بملابس الفترة التاريخية الأندلسية والمغاربية

يضاهي الأداء الواثق لهذه الممثلة الرائعة الممثل الفرنسي الجزائري دالي بن صلاح (30 سنة)، والذي يصمد صمودا مدهشا في دور “أروج” بكل صلفه وجبروته وخشونته وقوة شكيمته، ولا شك في أن اختياره للدور كان موفقا كثيرا لأنه في الأصل لاعب من لاعبي السيف وألعاب الحركة والقتال الصينية التي تعرف باسم “الفنون القتالية” (Martial Art).

فيلم تاريخي.. هو الأول الذي يوثق حقبة جزائرية مجهولة

يبرز في الفيلم الديكور وتصميم الأزياء كثيرا، ويرجع الفضل في الصورة المبهرة التي ظهرت عليها بكل تفاصيلها ودقتها ومضاهاتها لما كان سائدا داخل القصور قبل السيطرة العثمانية؛ إلى المهندس المعماري الجزائري “فريل قاسمي إيسياخم” الذي صمم الديكورات، وإلى مصمم الأزياء الفرنسي المقيم في الجزائر “جان مارك ميريتي”.

استغرق إنتاج الفيلم ست سنوات بدأت بالبحث الطويل عن مصادر التمويل التي بلغت حسب ما يقوله المخرج “أونوري” 17 مصدرا، ثم تصميم وبناء الديكورات وتصميم الملابس، ثم جاءت جائحة كورونا (كوفيد 19) فتوقف التصوير لبعض الوقت.

ويضيف “أونوري” أن الرغبة في صنع هذا الفيلم كأول فيلم “تاريخي” يعود إلى حقبة تاريخية ماضية مجهولة في تاريخ الجزائر، نبعت من الرغبة في الابتعاد عن أفلام القضايا الاجتماعية التي تصبغ وجه السينما الجزائرية.