“أفغانستان ثمن السلام”.. فشل أمريكي عمره 20 عاما
ندى الأزهري
اعتبره النقاد في فرنسا فيلماً “مثاليا” لفهم أول فضيحة جيوسياسية كبرى في القرن الحادي والعشرين، فقد كانت الحرب في أفغانستان الصراع الأطول والأكثر كلفة في تاريخ الولايات المتحدة.
ومع ذلك، وبعد إنفاق أكثر من 2.3 تريليون دولار، انهارت إستراتيجية بناء الدولة الأفغانية خلال 20 عاماً في غضون أيام قليلة، وتبخر الجيش الأفغاني تقريبا دون قتال وهرب الرئيس أشرف غني. فكيف حدث ذلك؟
العودة لأفغانستان.. محاولة للفهم
لتتبع المأساة الأفغانية ومحاولة فهمها، عادت المخرجة الفرنسية “كلير بيليه” إلى أفغانستان حيث عاشت، وأجرت العديد من الاتصالات من أجل تحقيق فيلمها الوثائقي “أفغانستان.. زمن السلام” (2022). فيلم لا يفوّت لهذه المخرجة التي تعرف المنطقة جيدا، يحلل أسباب الفشل الأمريكي الذريع في أفغانستان، وكذلك الأحداث التي أدت إلى انتصار طالبان.
ومن خلال الروايات الشخصية للاعبين رئيسيين ومشاركين أفغان وأمريكيين وفرنسيين، يفكّ الفيلم -الذي عرضته القناة الخامسة في فرنسا- ألغاز أكثر من 40 عاما من دائرة عنف جهنمية لم تترك أي فترة راحة للسكان الأفغان، وذلك منذ الغزو السوفياتي للعاصمة الأفغانية كابل عام 1979.
إنه يتحدث عن هذا التاريخ، لكنه قبل كل شيء يحاول التركيز على الحاضر. لذلك، فإن المخرجة -مع ألبرتو ماركوارت وإريك دي لافارين اللذين شاركاها في كتابة الفيلم والتصوير- تعطي الكلمة أيضا للعديد من الجهات الفاعلة ذات الوظائف المختلفة في أفغانستان نفسها، تحاور هؤلاء الذين بقوا في البلاد مثل رئيسة راديو بيجوم، أو موظف في وزارة المالية، أو مالك أرض.. إلخ.
ولكن تحاور أيضاً بعض السادة الجدد للبلاد مثل حاكم طالبان في كابيسا، ورجال دين، كما تلتقي آخرين ممن غادروا من قادة أفغان سابقين مثل وزير المالية السابق المنفي في الولايات المتحدة، أو قادة أمريكيين مثل الجنرال دوغلاس لوت مستشار البيت الأبيض، أو جون ديمبسي مفاوض وزارة الخارجية.
شهادات وحقائق.. توثيق لفشل الغرب
تأتي الشهادات -المصحوبة بأرشيف غني من الصور- من جهات متعارضة سياسيا، لكنها رغم ذلك تشير جميعها إلى فشل هائل وكارثي للغرب وخاصة الولايات المتحدة التي ارتكبت أخطاء وأصرت عليها بكل عناد وإنكار.
لقد كانت أفغانستان دائماً محطّ اهتمام كثير من التحقيقات الصحفية والأفلام الوثائقية، ولكن بعد مضي عام على وصول طالبان، يأتي هذا الفيلم ليبرز حقائق ويكشف عمليات وخبايا السياسة الأمريكية في هذا البلد على نحو مدهش.
وإلى هذا العامل الهام يضاف إصرار المخرجة على محاورة الجميع من مدنيين عاديين وسياسيين وعسكريين، ومن ضمن هؤلاء حركة طالبان التي يضعها في السياق التاريخي محاولا فهم دوافعها وأساليبها بالاقتراب من أعضائها ومحاورتهم. وهنا الجِدّة في الأمر.
رحيل الأمريكان.. أحلى يوم في حياة محارب
يستهلّ فيلم “أفغانستان.. ثمن السلام” بمشهد يبدي فظاعة الموقف. المكان مطار كابل، والزمان أغسطس/آب 2021 بعد القرار الأمريكي بالتخلي عن أفغانستان والانسحاب. مئات من الأفغان ممن آمنوا بالوعود الأمريكية يهرعون بلهفة وفزع لركوب طائرة سلاح الجوّ الأمريكي. لا يريدون العيش مرة أخرى تحت حكم طالبان، وشاب يسقط من هذه الطائرة العملاقة التي كان يتشبث بها من الخارج.
وفي مكان آخر من العاصمة، مشهد آخر. كان الاحتفال “بالاستقلال والانتصار” في “أحلى يوم في حياة محارب”؛ يوم رحيل المحتل الأمريكي.
كان صوت “المنشد” يعلو مبتهجا: “ها هم حلفاء الغرب قد رحلوا”.. وذلك في تجمع رسمي لطالبان. ويعلن مسؤول في الحركة العفو العام وفتح أبواب “الإمارة” للجميع، فيما يعلق الصوت الذي يسرد أحداث الفيلم: “لم نسمع ونتعرف على هؤلاء من قبل”. ها هو توجه إعلامي جديد للفيلم في تلقي طالبان والحديث عنها، ففي الواقع لا يُعرف شيء واضح عن عناصرها. من هم وما هي خلفيتهم، ومن أين أتوا وما كانت علاقتهم مع السلطة المركزية، ما تاريخهم الشخصي ودوافعهم، التي قد لا تكون دينية، بل اقتصادية أو اجتماعية ككل حركة من هذا النوع. وقد حاول الفيلم فعل ذلك.
عودة طالبان.. قصة البدايات والنهايات
يستعيد الفيلم تاريخ كابل منذ 1992 حيث قادة الحرب بكل توجهاتهم يملؤون المقابر بالضحايا. بعدها بسنتين بدأت حركة طالبان بالظهور والتمدد الذي لم ينتبه كثيرون إليه.
أحد قادة تلك الأيام يشرح البدايات: “لم يعد ممكنا آنذاك الاستمرار بين الكتب فقط، بات التحرك واجبا، وهذا حدث بفضل الملا عمر”. والبقاء بين الكتب هنا كناية عن أن طالبان هم في حقيقتهم هم طلبة العلم الذين يقضون معظم وقتهم في طلبه.
سيطرت الحركة على معظم البلاد، وتمكنت بسهولة من إثارة غضب العالم بأسره من خلال النظام الأخلاقي والاجتماعي “المتشدد” الذي فرضته لا سيما على النساء. إلى أن جاءت اعتداءات سبتمبر/أيلول 2001 لتقلب الأوضاع من جديد مع قرار بوش غزو أفغانستان على الرغم من أن مشاركة طالبان في الحدث لم تكن أبداً رسمية.
يسرد الفيلم خفايا السياسة الأمريكية حينها والخلافات بشأن التدخل في أفغانستان. فيعلن الرئيس الأمريكي بوش “إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين”، مصراً على التدخل رغم النقاش الحاد بين مؤيدين ومعارضين. فقد كانت هناك قناعة لدى البعض بعدم وجود علاقة لطالبان في الاعتداء، بل إن علاقتها مع القاعدة سيئة. ويشير الفيلم إلى هذا عبر مداخلات عدة ذكر بعضُها أن طالبان لم تستقبل أسامة بن لادن حين قدم إلى أفغانستان.
لكن، ورغم آراء المعارضين، بدأ القصف الأمريكي وتمّ شراء قادة الحرب الأفغان السابقين الذين فُتح لهم المجال للعودة ومع أموال كثيرة.
نائب أفغاني سابق يصرح للمخرجة: “أكبر قوة عالمية تأتي وتسألني: ما الذي يجب فعله؟ ماذا تتوقع؟”.
في أقل من شهرين استعادوا نصف البلاد من طالبان، وقتلوا أسرى الحرب وأرسلوا الباقي إلى غوانتانامو. لم يقبلوا الحوار مع طالبان رغم استعدادها لذلك.
يأسف المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي لما جرى ويقول: “لو كنا فقط طرحنا السؤال جديا في ذلك الوقت عن طالبان.. هؤلاء يمثلون شيئا وكان يمكن التحالف معهم”.
ويعترف مسؤول أمريكي: “لم نفعل أي شيء بوازع أخلاقي، لم نأت حقا من أجل النساء ومعاملة طالبان لهن”. والنتيجة تخلصوا من طالبان وباتت الأولوية محاربة القاعدة. وهكذا أصبح هناك 60 ألف جندي في قوات التحالف عام 2008.
كابل الجديدة.. اقتصاد منهار وفساد يأكل الأخضر واليابس
يكرس الفيلم حيزا واسعا للحديث عن الحرب على السلطة بين المسؤولين الأفغان في ظلّ وجود قوات التحالف، وظهور المافيا المالية المرتبطة بالسياسة.
لقد أُغرق المجتمع الأفغاني بالمساعدات الفلكية التي عاد بعضها إلى الغرب في شكل أرباح لشركات عالمية ومقاوليها. كان اقتصاد البلاد المدفوع بالدولار هشاً ودون أساس، مما أدى إلى تفشي الفساد والجريمة وتجارة المخدرات (أصبحت أفغانستان بعد ذلك أكبر منتج للأفيون والهيروين في العالم)، وانتشار المال السهل والرشاوى في رأس الدولة مما شجع الصغار على فعل المثل.
بات وجود قوات التحالف في أفغانستان مستنقعاً مع وجود 100 ألف جندي وبكلفة سنوية تعادل 120 مليار دولار اعتبارا من عام 2010. ومع كل ذلك، لم يحصل تفوق عسكري على المتمردين الذين كانوا يعيدون تشكيل أنفسهم من باكستان باستمرار.
كانوا في الأمم المتحدة على دراية بكل هذا الفساد، ولكنهم اعتقدوا أن الأمور ستُحلّ تدريجيا. “لكننا أخطأنا” كما يقول محلل في الفيلم، فيما يشهد مدير المصرف الدولي في أفغانستان كيف كانت تُهدر أموال الغرب، وأن كل ما كان يهمهم الحصول على نتائج ملموسة مهما كانت التكلفة. لكن النتيجة كانت فسادا في المدن، وبؤسا في الأرياف، وفقدانا لمصداقية الحكومة، فيما طالبان تتقدم من جديد.
طالبان.. لا رشوة لا اغتصاب لا خطف
يحلل الفيلم إستراتيجية لا تتغير عند طالبان هي “النظام والشريعة”، فلا رشاوى ولا فساد، يلجأ إليها الناس لحلّ مشاكلهم. مقاتلوها لا يهتمون براحتهم وإمكانياتهم المادية.
لقد بدأ انتشار الحركة من القرى، واستفادت من أخطاء الأمريكيين هناك مما سمح لها بتشويه سمعتهم كمحتلين متوحشين يدمرون القرى ويخطئون الأهداف.
لقد اعترف الأمريكيون جهارا في النهاية: “تبين لنا أنهم مختلفون عن القاعدة، إنهم مقاومون للاحتلال”.
ويُبرز الفيلم إقرار عدد من المسؤولين الأفغان بخطأ تقديرهم إزاء فترة حكم طالبان، ليقول مسؤول أفغاني سابق في الأمم المتحدة: “يجب الاعتراف،لم تقتصر أعمالهم على الشر وحده”.
وتقول ناشطة نسائية أفغانية: “لم يكونوا يخطفون الفتيات ولا يغتصبونهن”.
نقطة تحول.. تغيير السياسة الأمريكية
يقرر أوباما عام 2009 إرسال المزيد من الجنود ليصبح عددهم على الأرض الأفغانية 120 ألفا 80 ألفا منهم أمريكيون، وذلك مع قرار بتغيير الإستراتيجية الأمريكية ومحاولة كسب ود الناس وإقناعهم بعدم الانضمام إلى المقاومة (بات اسمها مقاومة).
امتلأت المقابر والسجون بعناصر طالبان. أما المدنيون الذين لا يهتم لأمرهم أحدٌ ولم يكونوا مع الحكومة ولا مع طالبان، فقد كانت خسائرهم ضخمة. قُصفت الأراضي بالطائرات دون طيار، وكانت تُوّجه من نيفادا، وارتُكبت أخطاء خطيرة راح بسببها كثير من الضحايا المدنيين، وفقد مزارعون أراضيهم بسبب القصف الأهوج، ودمرت حقول بأكملها، ونزح مئات الآلاف من القرويين ولم يكترث بهم أحد ولم يعوضوا.
لقد ازدادت الهوة بين القرى والمدن. في المدن فساد وجرائم، وفي القرى دمار وبؤس. وكانت الرغبة بالانضمام إلى طالبان تتزايد، فيما الإدارة الأمريكية منقسمة مع فشل الحل العسكري.
يقول محلل أمريكي: “كنا في حالة إنكار كامل للوضع ولم نستطع أبدا السيطرة عسكريا.. كان يمكننا قتلهم دائماً، ولكن كانوا يعودون دائما”.
وبعد عشر سنوات من اعتداءات سبتمبر كان البيت الأبيض في مأزق، فجاء قتل أسامة بن لادن عام 2011 كمحاولة أخيرة لرد الاعتبار. وها هي “العدالة قد تمت” بمفهوم أوباما.
وبفضل وثائق رُفعت عنها السرية، تبين أن البيت الأبيض كان على دراية بأن ما يفعلونه في أفغانستان -لا سيما انتخابات 2014 التي سادها الغش- هي بلا جدوى، وأن كل شيء سينهار بمجرد رحيلهم.
وقد بلغت الفوضى في السنوات الأخيرة من حكم أشرف غني أقصاها، إلى أن قرر ترامب عام 2018 التفاوض مع طالبان التي كانت ترفض الحديث مع الرئيس أشرف غني.
اتفاق الدوحة.. بارقة أمل قد تنطفئ
وجاء اتفاق الدوحة عام 2020 لإحلال السلام في البلد بعد 20 عاماً من الحرب، وبلوغ عدد القتلى أكثر من 176 ألف قتيل، وسيادة شعور بالضياع والفشل الكامل، وماتت الجمهورية مخلّفة بلدا مفلسا، وعادت طالبان بقوانينها المتشددة، واستُقبلت بتهليل من البعض وخوف وفرار من البعض الآخر.
رجع القرويون إلى أراضيهم، ولكن رجلا فقد كل شيء يقو: “لم أعرف منهم غير الدمار، ولكني جاهز لمسامحتهم إذا بدؤوا في البناء”.
أما النساء فخضعن منذ عودة طالبان إلى السلطة لقوانين متشددة، ومحكوم عليهن بالاختفاء من الفضاء العام. صحيح أن طالبان أعلنت عفوا عاما عند الوصول للسلطة، لكن: “هل الشعب الأفغاني هو من ارتكب الهجمات الانتحارية على المدنيين، وفجّر نفسه على الطرقات؟”.. تتساءل ناشطة في مجال حقوق المرأة في نهاية الفيلم.