“قهرمان”.. وهم البطولة في أفعال زائفة

د. أحمد القاسمي

لكل مبدع أصيل أسلوبه المتفرّد. وللمخرج الإيراني أصغر فرهادي الحائز على جائزتي أوسكار عن فيلم “انفصال” و”بائع متجول” سمات تمنح إبداعه هوية خاصة ومميّزة، وفيلمه قهرمان (بطل، hero) المتوّج بالجائزة الكبرى لمهرجان كان الفرنسي 2021، تجسيد أمين لقدرته على ملاعبة المتفرّج وعلى استدراجه إلى المعاني التي يريد.

 

سينما البساطة.. خلق الدهشة والذهول في الحكايات العادية

يخرج رحيمي سلطاني من السجن لقضاء إجازة قصيرة، وكان قد دخله بسبب عجزه عن الوفاء بدين إثر تورطه في استثمار خاسر، فوقعت بين يديه 17 قطعة نقدية ذهبية كفيلة بتسديد قسم هام من دينه. وبالفعل يتصل ببهرام دائنه للبحث عن تسوية ما معه تكفل له حريته. ثم يتراجع ويقرر البحث عن صاحبة المال ليعيد إليها ما ضاع منها.

إلى هنا لا تبدو الحكاية خارقة، فما يحدث لرحيمي جزء من الروتين اليومي المبتذل الذي لا يلفت الانتباه رغم ما فيه من إعلاء لقيمة الأمانة. ولكن أصغر فرهادي يعرف كيف يستدرج المتفرّج إلى ولوج الحكاية من خلال إتقان الربط بين التفاصيل الصغيرة، ويعرف كيف يخلق فيه الدهشة والذهول، معوّلا على سيناريو ماكر يجعل من الكتابة سباقا للحواجز. فكلّما تجاوز رحيمي حاجزا نحو الحرية واجه آخر يتعيّن عليه أن يتجاوزه بدوره.

ليس الباب مفتوحا ولا هو مغلق وليس رحيم حرا ولا هو سجين كذا الإنسان مطلقا

 

ولا يواكب المتفرّج هذا السباق بجوارحه فحسب، وإنما يعيد النّظر عبره في مجمل قيمه وفي شكل إقامته في هذا الوجود.

يبدأ الأمر صدفة عندما تعثر خطيبة رحيمي في حقيبة على قطع ذهبية كفيلة بمنحه الحرية من سجن ظالم تورّط فيه. ويمثل تراجع سوق الذهب فجأة الحاجز الأول الذي يعصف بحلمه.  وما أن يحصل على موافقة بهرام على استلام سندات من صهره حسين تكفل خلاص ما بقي من مبلغ ليسحب شكواه ويتحرّر هو من سجنه؛ حتى تبدي شقيقته (زوجة حسين) اعتراضها الشديد. فقد خسر رحيمي حريته وتفرّقت أسرته، ولا تريد لزوجها ولعائلتها المصير نفسه. وعندما تكتشف شقيقة رحيمي أمر قطع الذهب تقرّعه وتحفّز فيه ضميره الباطن للبحث عن صاحبة الحقيبة ليعيد إليها أموالها.

التخلي عن المال.. حين يجب عليك أن تختار

ومن المذهل حقّا أن يتخلى سجين في حاجة أكيدة إلى المال ليستعيد حريته عن مثل ذلك المبلغ. وعبر هذا الحدث الفارق تتوالى سلسلة أخرى من الأحداث الصغرى المترابطة والمبررة تماما. فيُحتفى برحيمي، ويتحوّل إلى بطل قومي تتنازع وسائل الإعلام الوطنية قصته وتُجري معه الحوارات، وتتبنى جمعية مدنية قضيته وتجمع المال من المحسنين لتدفع لدائنه ماله، وتتحمس مؤسسة لتشغيله.

ولكن شائعات تسري عبر مواقع التواصل الاجتماعي بأنّ القصّة مختلقة من أساسها، اصطنعها رحيمي ليكتسب التعاطف ويحصل على حريته.

وهنا يظهر حاجز جديد لا بدّ لرحيمي أن يتخطاه، لتظهر صاحبة المال وتقرّ بأنها فعلا أضاعت حقيبتها وأن رحيمي أعادها إليها. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد اتضح أنها كانت تتعمد ببراعة عدم ترك أي مؤشر يمكن أن يقود إليها؟

ويُطرح السؤال على رحيمي وعلى المتفرّج معا: ألا يمكن أن تكون المرأة محتالة استغلت ثغرة في الإعلان الذي نشره رحيمي لتستولي على حقيبة ليست لها؟ فصاحب محل ذهب دخلته صاحبة الحقيبة بعد استلامها يُخبر رحيمي أنها جاءته لتتأكد إن كانت القطع من الذهب الخالص فعلا!

يجد رحيم وزوجته نفسيهما وسط معضلة أكبر من قدراتهم

 

ولعجزه عن إثبات “ادعائه” في الإجازة التي منحتها له إدارة السجن، يتراجع المشغّل المفترض عن وعده له، وتتخلى الجمعية عن دعمه، ويتحول البطل إلى مشتبه فيه بالتحايل. ولكن لا مناص للمتفرّج -وهو الذي يعلم أن رحيمي قد تخلى عن المال- من أن يتساءل: هل كان بطلا فعلا؟ فأصغر فرهادي يزجّ بنا في مناقشة أخلاقية لم نتوقعها.

الخير والشر.. فيلم يواجه تعقيدات الحياة ببراعة

يستمد الفيلم الروائي قيمته من تماسك بناء شخصياته. وشخصيات “قهرمان” تقطع مع البناء الكلاسيكي للشخصيات الفيلمية، فلا يمكن تصنيفها بأنها خيّرة أو شرّيرة، إذ لا يمكن تصنيف أعمال بهرام نفسه -الذي كان وراء الشكوك في اختلاق قصة الذهب الضائع والإيهام بشخصية السجين الشريف- ضمن خانة الشرّ، أي في خانة الرغبة المجانية في إيذاء الآخرين.

فبهرام هو عديل رحيمي، وبمقتضى هذه الصلة الأسرية تولى ضمانة قرضه، وكلّفه ذلك أموالا طائلة وإرباكا على مستوى استقراره الأسري، ومن حقه أن يرى المسؤول عما وصل إليه ينال العقاب العادل. ثم إن رحيمي حدّثه عن رغبته في بيع الذهب فكيف لا يظنّ به الظنون؟

ولكن المتفرّج يعلم أنّ رحيمي نفسه لم يكذب عندما أعلن أنه تخلى عن القطع الذهبية، غير أن شقيقته مليلة ترد: “لكنك لم تقل الحقيقة”.  فهل هو كاذب لأنه لم يعلن الحقيقة كاملة؟ فليس هو من وجد الذهب، وخطيبته فرخندة لم تسلّمه ما وجدت إلاّ لأنها تريده أن يخرج من السجن ليتزوجها بعد أن تقدم بها العمر كثيرا دون أن يتقدّم أحد لخطبتها.

 

وفي المقابل لا شيء يثبت أنّ المرأة التي استلمت الحقيبة والتي بات رحيمي ومن رآها يشك في أمرها؛ محتالة بالفعل، فقد أكّدت أثناء استلامها من شقيقته مليلة أن ما جمعته هو شقاء العمر وأنّ زوجها سيستولي عليه إن علم بوجوده، ومن ثم يمنحها السيناريو المبرّر للتخفّي. ولكنه لا يفعل ذلك إلا وهو يتلاعب بالمتفرّج ويربكه، وقد باتت الرمال متحرّكة تحت قدميه.

البطل والسارق.. وهم البطولة وحقائق الواقع

هكذا يسخر الفيلم من المتفرّج الذي يطمئن بسهولة إلى تصنيف الآخرين إلى أخيار وأشرار وأبطال وجبناء.. ويؤكد أن الظروف هي التي تخلق المرء. ففرخندة لن تكون المحبّة المتفانية لو كانت فرصتها أكبر في الحصول على زوج، ورحيمي “السجين الشريف” الذي تحوّل إلى بطل قومي يختزل كل معاني النزاهة؛ لم يكن ليُنظر إليه على هذا الأساس لو لم ينخفض سعر الذهب حتى بات لا يغطي دَينه ولو لم تقرّعه شقيقته، ومن يدري.. هل كانت مليلة ستقرّعه لولا خوفها من تورّط زوجها؟ فالبطولة مشروطة بظروف تولدها.

يحدث هذا كلّه أمام أعين المتفرّج، فلا يزج به فرهادي في لعبة التوقّع إن كان رحيمي وجد الذهب وسلّمه إلى المرأة فعلا، فهذه المعطيات ثابتة أمامه. والتحقيق الذي يجريه المشرف على الموارد المالية للمؤسسة التي تعتزم تشغيل رحيمي لا يضيف إليه شيئا.

لايجد رحيم مواساة حتى من أقرب مقربيه بعد تسلل الشك لهم

 

ومن هنا تتسلل ظلال لبنية الفيلم البوليسي (الفيلم الأسود: المتفرّج يعرف كل التفاصيل، يناقشها ليفهم المجتمع لا ليتقمص دور المحقق، فلن يكشف له الفيلم أو المحقق معلومات جديدة).. الحكاية رمزية وحبكتُها تظل بسيطة لكنها تعالج تعقيد الحياة ببراعة.

التعبير بالصورة.. لسنا أنبياء ولسنا شياطين

يُعرف عن فرهادي أنه حكّاء ماهر، ولكنه لا ينسى أبدا أنه سينمائي بالأساس يتعيّن عليه أن يعبّر عن معانيه بالصورة. ولم يُكشف هذا الهوس بالمرئيات في الموضوع فحسب (رحيميي الذي يتعلّم الرسم والخط في السجن)، وإنما في طريقة تناوله لموضوعاته. فربما بدا الفضاء الذي نزّل فيه بداية أحداثه في الموقع الأثري نقش رسم بإقليم شيراز، حيث تنتصب صقّالة عملاقة تُستعمل لصيانة نقوشه؛ ربما بدا مُقحما لا يزيد عن عرض جماليات إقليم شيراز، وعن وضرب من الفخر القومي. ففيه حضور مهيب للعمارة الأخمينية و العيلامية والساسانية التي يعود تاريخها الى 1000 سنة قبل الميلاد، وتشتمل على قبور حُفرت داخل الصخور يدفن فيها الملوك الأخمينيون، فضلا عن اللوحات و النقوش الساسانية البارزة التي نُحتت على الصخور لتخلّد فتوحات الملوك الساسانيين و انتصاراتهم وتعرض مشاهد من مراسمهم الملكية خاصّة منها مراسم التتويج. ورحيمي يذهب إليه مرّة واحدة بعد خروجه من السجن ليلتقي صهره حسين، ونحن لا ننتزع منه هذه المعاني دون شك.

ولكن الكاميرا المحمولة في مشهد يتجاوز الخمس دقائق ولقطة الكاميرا المتحركة، لا تلاحق رحيمي في زاوية غطس مضاد لنحو دقيقة ونصف حتى يلتقي حسين ثم ينزل إلى الأسفل.. ليست حركة ذهاب وإياب بلا معنى. فعبر لغة سينمائية مميزة يختزل فرهادي في هذا المشهد كلّ مراميه من الفيلم، وهو أن يصوّر صعود رحيمي إلى القمّة وتحوّله إلى بطل قومي تحرص القنوات والصحف على الاستفادة من توهّج شخصيته، ثم انحداره إلى القاع ليصبح مجرّد مدّع للبطولة ومختلق للقصّة.

 

وبعيدا عن هذا التناول السطحي يدعونا المخرج إلى أن ننفُذ إلى باطن الشخصية وإلى عمقها وهي تأخذ إلى أنفاق هذا الموقع الأثري.

ويتجلى هذا الميل إلى اختزال المغامرة بأسرها بصريا منذ اللقطات الأولى؛ ففي لقطة الاستهلال يجلس رحيمي في قاعة الانتظار ريثما يتم إمضاء إجازته خلف الباب الموارب وتشكّل دفّتاه قضبانا. إذن هو ليس حرّا تماما، ولكنه ليس سجينا أيضا، أو لنقل إنه في برزخ بين البرزخين.

ثم عندما يخرج تلاحقه الكاميرا المحمولة وهو يحاول أن يدرك الحافلة فلا ينجح، فيركب التاكسي ويصل إلى نقش رستم منفردا. لقد فاته أن يكون مع المجموعة، وهو يخوض معركته من أجل الطهارة الأخلاقية. وبسبب ظروف لا يتحمّل مسؤوليتها يُرفع إلى قمة المجد ثم يُلقى به في القاع.

وفي المشهد نفسه يجسّد فرهادي هاجس الطهارة الأخلاقية في عامل النظافة الذي يظهر حاملا لحاوية الفضلات بما فيها من أوساخ، ويتسلل من عمق المجال ويتجاوز رحيمي الذّاهل ويتقدم إلى الواجهة ثم يخرج من الإطار، فيكرّس فكرة الطهارة المستحيلة.

والأمر لا يتعلّق برحيمي فحسب، وإنما بالإنسان مطلقا. فلسنا أنبياء، والشخصيات الروحانية المنزهة محض وهم، ولكننا أيضا لسنا شياطين، فبشريتنا لا تقطع مع إنسانيتنا ومع شغفنا بالمثل العليا.

إشكالية العدالة.. إعادة التفكير في الثوابت

يعيد فيلم “قهرمان” التفكير في المنظومة الأخلاقية التي باتت قيمها من المصادرات التي نقبلها دون أن نفكر فيه، ومنها قيمة العدالة.

يتردد المتفرّج كثيرا في اتخاذ موقف نفسي من البطل

 

فرحيمي يقبع في السّجن بسبب إفلاس مشروعه وسقوطه في حبائل البنوك وابتزازها، وعليه يتردد المتفرّج كثيرا في اتخاذ موقف نفسي منه، ولا يكاد يجزم إن كان مذنبا بما سببه لعديله من الأذى، أم ضحية لما يلقى هو نفسه الآن من التنكيل. ويَختزل حواره مع سائق التاكسي هذه الفكرة، فيقول له رحيمي بعد أن رفض أن يأخذ منه أجرة التاكسي تعاطفا معه: “هذا ليس عدلا”. فيجيبه: “لا يوجد عدالة في هذا العالم، أنا نفسي سجنت ظلما لسنتين”.

ويبدو عديله “برهام” حاقدا غير متعاون، همّه أن يمنع عنه الحرية. ولكن لنقارب المسألة من وجهة نظره، لأن الإعلام يصنع من رحيمي بطلا مزيفا. وهنا يتساءل العديل: “هل ما فعله رحيمي يعدّ بطولة؟”. فلماذا نحتفل بالسلوك العادي بما يجب أن يحصل أصلا؟  ولماذا يكون هو المدان لأنه يطالب بحقّه بعد أن تضرر كثيرا من إفلاس رحيمي فباع مجوهرات زوجته وجهاز ابنته المقبلة على الزواج؟ أليس الاحتفاء بمن يَخدع مسؤولي السجن والجمعيات المدنية ويحوز تعاطفا لا يستحقّه -من وجهة نظره- ظلما له؟

والجمعية الخيرية التي تجمع المال لتحرير رحيمي، تجد نفسها في ورطة أخلاقية بدورها. فهل يجوز أن تدفع المال لتحريره وقد باتت بطولته موضوع شك، والحال أنّ الأموال كفيلة بإنقاذ حياة أحد المدانين قبل أن ينفّذ فيه الحكم بالإعدام؟

وللمعضلة وجه آخر.. فهل سيقبل المحسنون تحويل وجهة المال لإنقاذ حياة قاتل؟

فرهادي المستفز .. تحرير التفكير  وتحريك المياه الراكدة

فرهادي سينمائي مزعج فعلا، فهو لا ينفك يرمي بالحجر في برك المياه الراكدة لتحريكها، ويظل على مدار الفيلم يستفز اطمئنان المتفّرج ليحرره من مصادراته، وليُخرج بعض أنماط السلوك من دائرة غير المفكر فيه.

فهو يناور عبر سيناريو ماكر ليقنعه بأنه لا يرى في بعض المظاهر قيما أخلاقية أو عدالة أو بطولة إلاّ لأنه جُبل على رؤيتها كذلك، وليدفعه لأن يتدبرها بنفسه، وحينها سيكتشف أنه لم يكن يفكّر تفكيرا حرّا وأنّ مصيره لا يختلف عن مصير رحيمي كثيرا. فالأول سجين مؤسسة البنوك والثاني سجين مؤسسة المجتمع.


إعلان