“غلادبك.. أزمة الرهائن”.. ثلاثة أيام أرّقت ألمانيا وأزهقت الأرواح وقلبت القوانين

عبد الكريم قادري

باتت تُعد من أكثر جرائم الاختطاف رعبا في تاريخ ألمانيا الفيدرالية الحديث، فقد شدّت أنظار الناس من كل جهة بعد أن نقل الإعلام تفاصيل الجريمة لأكثر من 54 ساعة كاملة، وقد تغير عدد من القوانين بعدها على خلفية المآسي المسجلة، فما الذي حدث في أغسطس/آب سنة 1988، وما نوع وخلفيات هذه الجريمة الشهيرة؟

قصة الفيلم الوثائقي “غلادبك.. أزمة الرهائن” (Gladbeck: The Hostage Crisis) الذي أنتجته منصة “نتفليكس” سنة 2022؛ أعادت الألمان وعائلات الضحايا 34 سنة إلى الوراء، وهو تاريخ انطلاق أزمة الرهائن التي بدأت برهينتين، وتحولت بعد ساعات قليلة إلى 30 رهينة.

 

حافلة الرهائن.. اختطاف على عيون الصحافة

لم تعرف الشرطة الألمانية وقتها بأن الأمر سيتطور وتصبح القصة قضية رأي عام شاهدها الجميع على التلفزيون، كما كتبت عنها معظم الجرائد وقتها، خاصة أن عملية احتجاز الرهان استمرت لـ54 ساعة كاملة (من 16 إلى 18 أغسطس/آب سنة 1988)، ورغم تلك المدة الزمنية الطويلة، فإن الخاطفين أثبتوا تماسكهم وقدرتهم الكبيرة على التعامل مع الوضع رغم التعب وعدم النوم.

وقد استجابت الشرطة لهما، فانطلق الخاطفان ومعهما الرهينتان صوب مدينة بيرمن، وبعد فترة تفطنا بأنهما ملاحقان من طرف الشرطة، لهذا استوليا في المدينة على حافلة ركاب فيها 30 رهينة، وبالتالي تعقدت عملية الشرطة أكثر، مما حتّم عليهما الابتعاد عن مكان الاحتجاز لمسافة تزيد عن 200 متر، بينما استطاعت الصحافة بكل أنواعها الوصول إلى المكان وتصوير العملية عن قُرب، حتى أن الخاطفين جعلا أحد المصورين وسيطا بينهم وبين الشرطة، خاصة وأنه انضم للخاطفين عنصر جديد، وهي امرأة صديقة أحدهم، وهذا بعد أن تابعت العملية عبر التلفزيون.

الخاطف هانس وهو يجري مقابلات صحافية أثناء عملية احتجازه للرهائن

 

طلب الخاطفون سيارة جديدة بدون أجهزة تعقب أو تنصت، إضافة إلى أخذ ضابط شرطة كرهينة من أجل إخلاء حافلة الرهائن، وقد تعقّد الأمر أكثر بعد أن ترك أحدهما الحافلة وتقدم إلى الصحافة وأجرى حوارات بكل أريحية عبّر عن أفكاره وشخصيته، وقال بأنه لا يريد أن يعمل، وقد سئم هذه الحياة بعد أن عاش 11 سنة في السجن، كما تربى يتيما، لتحدد بعدها هوية الخاطفين، وهما “هانس يورغن روسنر” (31 سنة)، وشريكه “ديتر ديغوفسكي” (32 سنة)، وصديقة “هانس” التي انضمت للعملية “ماريون لوبليش”، وينحدر ثلاثتهم من منطقة غلادبك.

اعتقال الخاطفة.. خطأ الفرقة الخاصة الذي فاقم الوضع

وقع تصرف أرعن من الشرطة فاقم الوضع، بعد أن تدخلت فرقة خاصة، وألقت القبض على الخاطفة وهي في الحمام، وهو الأمر الذي أفقد صواب الخاطفين، خاصة وأنه كان من المفترض القبض على ثلاثتهم في توقيت واحد، لكن هذا ما لم يحدث، لهذا ثارت ثائرتهما، خاصة عشيقها “هانس” الذي هدد بقتل كل الرهان، كما أنه أراد إطلاق النار على طفلة صغيرة، لكن أخاها منعهم، مما جعل الرصاصة تذهب صوب رأسه، وهو الطفل “إيمانويل جورجي” الذي يبلغ من العمر 15 سنة، لتتصرف الشرطة بعدها وتطلق سراح الخاطفة “ماريون لوبليش”.

 

أثبتت الشرطة من خلال هذه الحادثة غير المدروسة بأنها لا تملك خبرة للتصرف مع هذه المعطيات، وقد تواصل مسلسل الخطف حتى تجاوز الحدود الهولندية، وهناك طلبوا سيارة أخرى بعد أن أخلوا سبيل الرهان، ولم يبقَ معهم سوى رهينتين عادا بهما إلى المدينة من جديد.

وقد ذهبوا مباشرة صوب دار الصحافة، وهناك اجتمع حولهم مئات المراسلين الصحفيين والفضوليين، وهي خطوة ذكية من المجرمين، لأنهم يعرفون بأن الصحافة ستكون حاضرة وستقوم بحمايتهم، وقد أجرت معهم حوارات واستجوابات، وتطوع صحفي محلي، وذهب معهم لمحاولة إقناعهم بالاستسلام، لكنهم تركوه بعدها، وواصلوا رحلتهم عبر الطريق السريع.

قوات التدخل السريع.. أحكام قاسية وقوانين مستحدثة

ارتأى النائب العام بأن طريقة السرقة والتصرف مستلهمة من أفلام الجرائم، وأراد التصرف سريعا خوفا من تفاقم الأمر وخروجه عن السيطرة، لهذا تدخلت قوات التدخل السريع على الطريق السريع “أي 3” قرب “باد هونيف”، من أجل حل الأمر عن طريق القوة.

أفضى الاشتباك المسلح إلى وفاة رهينة وتسجيل جروح متفاوتة لدى البقية، وقد امتنعت قوات التدخل وقتها من إعطاء أي معلومة، كما طردت الصحافة التي ساهمت -حسب الشرطة- في هذا الأمر بعد أن أعطته بُعدا واسعا، ليتبين لاحقا بأن قضية الخطف انتهت بعد 54 ساعة من الإثارة، وقد قتلت خلال الاشتباك الرهينة “سيلكي بيشوف” (18 عاما) برصاص “روسنر” الابنة الوحيدة لعائلتها، كما قتل قبلها “إيمانويل جورجي” الذي حاول حماية شقيقته الصغرى، ولم تستطع عائلته بعد وفاته العيش في ألمانيا، لهذا هاجرت.

الخاطف ديتر ديغوفسكي داخل حافلة الرهائن خرج من السجن بعد نهاية عقوبته وهو يعيش حاليا متخفيا وباسم مستعار

 

وبعد تقديم المجرمين للعدالة حُكم على “هانس” و”ديتر ديغوفسكي” بالحبس المؤبد، ثم أخلي سبيل “ديتر ديغوفسكي” بعد انقضاء عقوبته، ويعيش الآن في مكان مجهول بهوية مستعارة، وحُكم على “ماريون لوبليش” بالحبس تسع سنوات، وقد أطلق سراحها بعد انقضاء ست سنوات لسلوكها الجيد، كما قدّم في تلك الفترة مسؤول الداخلية في مقاطعة بريمن استقالته بعد تلك الأحداث، وأصدرت عدة قوانين بعدها، من بينها منع المراسلين الصحفيين من إجراء المقابلات مع المجرمين أثناء ارتكابهم للجريمة، كما منعت المحاولات الفردية للتدخل.

أرشيف الفيلم.. مكتبة بصرية تحمل تشويق الحدث

اعتمد “فولكر هايز” مخرج الفيلم الوثائقي فيلم “غلادبك.. أزمة الرهائن” بشكل كلي على الأرشيف السمعي البصري الذي تملكه وسائل الإعلام التي غطّت تلك الجريمة المروعة، وفي الوقت نفسه اعتمد على تسجيلات الشرطة التي لا تزال تحتفظ بها في أرشيفها الخاص.

الخاطف ديتر ديغوفسكي يوجه سلاحه على رأس الرهينة “سيلكي بيشوف التي قتلت أثناء الاشتباك

 

ولم يقم بإجراء أي مقابلة بشكل مباشر مع أي طرف في القضية، وكان بوسعه القيام بهذا، خاصة وأن عددا من الشهود ما زالوا على قيد الحياة، لكنه في المقابل اعتمد فقط على ما توفر له من الأرشيف القديم، واستطاع أن يدمج المَشاهد ويبني قصة مكتملة الأركان بدون أن يلجأ إلى مشهد تمثيلي واحد.

وقد زرع من خلال هذه الخطوة عناصر الإثارة والتشويق والتتبع وبناء الشخصية وتقديم المعلومات بشكل تدريجي، ومعظم العناصر التي تعتمد عليها السينما الروائية، لكنه وظفها بشكل ذكي جدا، حتى أننا وقفنا من خلال الفيلم على كل التفاصيل وخلفياتها دون اللجوء لضيف واحد.

يعود هذا كله إلى المونتاج والتقطيع الجيد، وطريقة المخرج “هايز” في تنسيق تلك المادة المشتتة وتحويلها إلى فيلم سينمائي متماسك وقوي ومثير، لديه خط سرد واحد وواضح، وكأنه فيلم روائي تقليدي عن عمليات السرقة والاختطاف التي عوّدت هوليود من خلالها المشاهد، وكأن مخرج هذا الفيلم يقدم شكلا سينمائي جديدا، أو على الأقل شكلا غير متطرق له بكثرة.

هذا ما أعطى للفيلم بُعدا جماليا ورمزيا جعله من الأعمال النادرة التي استعملت هذه الخاصية، وكل هذه المعطيات التقنية والجمالية، إضافة إلى الموضوع المثير الذي يتعلق بجريمة السرقة وخطف الرهائن، كلها كوّنت فيلما سينمائيا وثائقيا مثيرا ومشوقا يزرع اللذة البصرية لدى المتلقي، ويجعله يقبل على الفيلم دون ملل.


إعلان