“كأس العالم للأطفال”.. ما وراء كفاح الأبطال الخمسة المتنافسين في أوسلو
عدنان حسين أحمد
تركِّز المُخرجة النرويجية “لينا هاتلاند” عدستها على عالَم الأطفال الذين يحبّون كرة القدم ويكرسون حياتهم لها، أطفال في عامهم الرابع عشر أو أصغر قليلا غادروا طفولتهم واقتربوا من سن المراهقة والشباب، ليحلموا بأن يصبحوا نجوما في كرة القدم؛ الرياضة التي طبقت شهرتها الآفاق.
يتمحور فيلم “كأس العالم للأطفال” (Kids Cup) على اليافعين من البنين والبنات الذين يتنافسون على كأس النرويج، وتدور المنافسات الختامية في العاصمة النرويجية أوسلو بين خمس فرق تمثل خمس دول، وهي النرويج والولايات المتحدة الأمريكية والصين وفلسطين والبرازيل.
ومن أجل تكثيف الأحداث وترصين الحبكة السردية فقد اختارت المُخرجة “هاتلاند” أن تسلط الضوء على خمس شخصيات رئيسية بمعدل شخصية من كل فريق، من دون أن تسد الطريق على شخصيات أخرى لها علاقة بتأثيث النص البصري، وتطوير الحبكة القصصية على مدار الفيلم الذي تبلغ مدته 90 دقيقة.
أبطال القارات الخمس.. عدسة ترصد الاختلافات الثقافية في أوسلو
تتكئ قصة الفيلم على خمس شخصيات، وهي “آنا” من النرويج، وأفنان من فلسطين، و”يو” من الصين، و”فرَيد” من البرازيل، و”خاليدي” من الولايات المتحدة الأمريكية وهو من أصول تنزانية. كلهم يحلمون بالفوز بكأس النرويج والميدالية الذهبية، لكنهم يواجهون بعض التحديات والعقبات الأساسية غير المتوقعة، مثل وجود حكَم غير عادل، والحنين إلى الوطن، وضياع ركلات الجزاء وما إلى ذلك.
لم تنسَ المُخرجة أن تُطعِّم الفيلم بقصة حُب تنشأ بين اللاعب البرازيلي “فرَيد” وبين “ماري”، وهي شابة نرويجية مُشجعة لكرة القدم، وتتكلم الإسبانية بطلاقة. ورغم أن الفيلم رياضي بطبيعته، فإنه يتمحور أيضا حول الأحلام والصداقات والحُب والطموحات الفردية، وذلك لأن الجميع يحلمون بالفوز وجلب كأس البطولة إلى أوطانهم.
لا تركز المُخرجة في قصتها السينمائية على الانتماءات العرقية والقومية، وإنما تسعى إلى رصد الاختلافات الثقافية والاجتماعية والنفسية للأبطال الخمسة القادمين من أربع قارات، وهي آسيا وأوروبا والأمريكتين الشمالية والجنوبية، وكيف يتصرفون وهم في ريعان شبابهم حينما يغادرون بلدانهم، ويعيشون ستة أيام في العاصمة النرويجية أوسلو التي تتمتع بالرفاه الاجتماعي والاقتصادي، وتنعم بالحريات الشخصية والعامة.
“هدفي أن أصبح أفضل لاعبة كرة قدم في العالم”
يبدأ الفيلم بمَشاهد رياضية جميلة تفتح شهية المتلقي، إذ نرى “آنا” (14 عاما) في مدينة أليسون وهي تخضع للتدريب على يد والدها مُدرّب الفريق النرويجي الذي يؤمن بموهبتها الرياضة في كرة القدم، ويثق بقدراتها الكامنة التي يمكن أن تتفجر إذا ما أحسنت التدريب وواظبت على التمارين اليومية، وحافظت على لياقتها البدنية، لهذا نراه يُعيد بعض التمارين لأكثر من مرة مركزا على سرعة انطلاقها وإدامة الزخم في الجري السريع الذي يعزّز وجودها في المباريات التنافسية القادمة.
أما “آنا” فهي أكثر طموحا من والدها، إذ تقول “هدفي أن أصبح أفضل لاعبة كرة قدم في العالم”، بل إنها تريد الوصول إلى “أولمبيك ليون” ونادي برشلونة، وهذا الطموح الكبير متأت من الثقة الكبيرة بنفسها، وقدرتها على التركيز في التدريب لتحويل أحلامها المجنحة إلى واقع ملموس.
خاليدي.. أحلام رياضية مُعلّقة بالحاجة المادية
تنقلنا المخرجة إلى فيلادلفيا في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نلتقي باللاعب “خاليدي” (14 عاما)، ويدرّبهُ والده المُعاق الذي فقدَ إحدى قدميه حينما كان حارسا للمرمى.
وعلى الرغم من رغبة الوالد في ضخّ خبراته الكروية، فإن ابنه “خاليدي” لم يكن متحمسا جدا مثل “آنا”، لكنه كان يتوق في الوقت ذاته لأن يصبح لاعبا محترفا، لكي يحصل على المال الكافي ويساعد والده المُعاق، ويغنيه عن العمل.
ثمة فرق كبير بين طموحات “آنا” الرياضية وتطلعات “خاليدي” لتأمين الحاجة المادية لأسرته، وأكثر من ذلك فإن والده يرى بأن ممارسة كرة القدم الاحترافية تساعد ابنه في الحصول على زمالة دراسية والقبول في جامعة جيدة.
لا يتحقق هذا الحلم من دون تدريب شاق ومتواصل، لهذا كان يصطحبه يوميا إلى الملعب، ويزوّده بالخبرات الرياضية التي حصل عليها حينما كان لاعبا مُحترفا، فلا غرابة أن يطلب منه السيطرة على الكرة والتلاعب بها، لا أن يتبعها وكأنها هي التي تقوده وتُوجهه.
أفنان.. مقدسية تملأ كرة القدم قلبها بالفرح والنشوة
تتميّز قصة اللاعبة أفنان (13 عاما) بتفردها، فهي الوحيدة التي جاءت من القدس العاصمة الفلسطينية الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي، وهي الوحيدة التي تحمل في ذهنها قلقا كبيرا على الأهل والأقارب والأصدقاء. فلقد نصبت الشرطة الإسرائيلية الحواجز ونقاط التفتيش في كل مكان من أحياء المدينة، وفرضت الحصار حتى على الأطفال الذين يريدون اللعب في الشوارع والحارات الشعبية. وقد اعتقلت أطفالا لا تتجاوز أعمارهم الأربع سنوات، واتهمتهم برمي الحجارة على أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية، فلا غرابة أن يلعب الأطفال كرة القدم في البيت ويحطموا بعض حاجياته الثمينة.
هذا ما كانت تفعله أفنان حينما تتدرب في غرف المنزل بموافقة الأهل، كي تستمر في الحفاظ على لياقتها البدنية والتهيؤ لمباريات كأس العالم، ولعل فوز فريقها بالذات هو الأهم بين الفرق الخمس، لأنها ستهديه إلى فلسطين قبل أن تهديه لأهلها وذويها ومعارفها.
ويجب ألا ننسى الجانب الشخصي، فـأفنان تحب كرة القدم لأنها “تملأ قلبها بالفرح والنشوة”.
“تشانغ يو”.. أم تحل محل الأب الراحل في التشجيع
تنطوي قصة الفتاة الصينية “تشانغ يو” (14 عاما) على نَفَس تراجيدي يتعلّق بوفاة والدها، لكن أمها تعوّض دور الأب وتحل محلهُ في التشجيع والمؤازرة، فهي تطلب من ابنتها أن تركِّز في التدريب، وأن تحصل على عدد من المهارات، وهي بذلك تكرّم ذكرى والدها المتوفي، وتشرّف نفسها وبلدها من خلال الفوز.
تبدو الأم ذكية جدا حينما تتفهم أن موت الوالد كان صعبا على ابنتها، وأن غيابه كان مؤثرا على الأسرة برمتها، لكنها كانت تلحُّ عليها بأن تتعايش مع هذه الحادثة الأليمة، وأن تنغمس في لُعبة كرة القدم؛ الرياضة الشعبية التي تُحبها، وأن تُخصص الوقت الكافي لمواصلة دراستها، والنجاح فيها على الأقل.
“فريد”.. برازيلي على دكة الاحتياط يتصيّد الجميلات
اللاعب الخامس الذي اختارته المخرجة “لينا هاتلاند” ضمن الشخصيات الرئيسية هو البرازيلي “فرَيد” الذي كان يتدرب مع والده، ويقضي معه وقتا طويلا في المسبح والبيت، ويتجاذب معه أطراف الحديث عن شغفه بكرة القدم، لكنه ما إن يسافر مع فريقه إلى النرويج حتى يضعه المدرب على دكة البدلاء، ويظل منتظرا دوره في المشاركة بإحدى المباريات، وهذا ما لم يحصل خلال الأيام السبعة التي كان فيها الفريق على أرضية الملاعب في البلد المُضيف.
ينصرف “فريد” إلى تصيّد الفتيات الجميلات في بلد منفتح تتوفر فيه كل أشكال الحريات الشخصية، ويتعرف على “ماري”، وهي فتاة برتغالية انتقلت إلى النرويج عندما كانت في عامها السابع، والتقطت معه بعض الصور، وتبادلت معه الإنستغرام، ووعدها بإرسال الصور، وسألها إن كان لديها صديق، فردت عليه بالنفي، الأمر الذي سيفتح أمامه فرصة لإقامة علاقة عاطفية حتى وإن كانت عبر الأثير.
حوارات الشرق والغرب.. تباين اللغة والاهتمامات والأساليب
تقسّم المخرجة “لينا هاتلاند” فيلمها بعد تقديم الشخصيات الرئيسية إلى ستة أقسام بعدد أيام المباريات، ولا تنسى التركيز على اليوم الذي يسبق المنافسات، حيث نرى الفرق تحضر في حافلات كبيرة، وتتوقف أمام المهجع الكبير الذي يضم الفرق الخمس، حيث ينام أعضاء كل فريق في مكان واحد متجاورين بطريقة حميمية، يتحاورون فيما بينهم عن شؤونهم الخاصة والعامة، والهدف من مشاركتهم في الدوري، والحُلُم بجلب كأس العالم إلى بلدانهم.
تكشف الحوارات عن الفجوة ما بين الأجيال في البلدان الشرقية، وانعدام هذه الفجوة في البلدان الغربية، خاصة النرويج، إذ يتصرف أعضاء فريق “آنا” بانفتاح وحرية مُطلقة، بينما تنحسر هذه الحرية لدى فريق “خاليدي”، فهو من أب تنزاني وأم جامايكية، بينما تعيش العائلة في مدينة فيلادلفيا الأمريكية. كما أن نسبة التضحية لدى والده أضعف بكثير من تضحيات الآباء الآخرين، فهو يهدد ابنه على الدوام بقطع المساعدة المالية إذا لم يسجّل بعض الأهداف، أو إذا خسر فريقه أكثر من مرة.
ترصد المُخرجة يوم الوصول إلى العاصمة أوسلو، وهو اليوم الذي يسبق بدء الدوري وانطلاق المباريات، حيث تركز المخرجة على الفرق الخمس بالتساوي، وقد رأينا المدربة الفلسطينية تحيط أعضاء فريقها ببعض المعلومات الضرورية عن عدم وجود الـ”واي فاي” في المهجع، وأن بإمكانهن شرب الماء من الصنابير مباشرة لأنها نقية وصالحة للشرب، كما حذرتهن من كسر أو إتلاف أي شيء في محل سكناهن.
فريق فلسطين.. قلق على القدس وخسارة في التصفيات
يشكو أعضاء الفريق البرازيلي من شدة البرودة، فقد اعتادوا على درجات الحرارة العالية، لكنهم يجدون أنفسهم في مناخ بارد جدا يتطلب منهم تدفئة جيدة، بينما النرويجيات منشغلات بالهدايا والميداليات التي حصلن عليها في مباريات سابقة، ويقضين أوقات الراحة بالحديث عن شؤونهن العاطفية والاجتماعية، وتنهمك الصينيات بالحديث عن أرضية الملاعب، وعدم كثافة الأعشاب التي تبدو صفراء وحائلة اللون.
وعلى الرغم من قلق أعضاء الفريق الفلسطيني على الأوضاع الداخلية لأسرهن في القدس، فإن المدربة كانت تطلب منهن على الدوام أن يتمتعن بمعنويات عالية، وأن يثقنَ بأنفسهن رغم الفارق الكبير في الإمكانيات والمهارات البدنية للفرق الأجنبية.
تعاني الفرق القادمة من القارات الأخرى من نوعية الطعام النرويجي الذي يعتبرونه مُقرفا، حتى أن أعضاء الفريق الفلسطيني لم يأكلن أي شيء سوى رقائق الجبس، ولم يشربن سوى الكوكا كولا الذي يقف أمام ثلاجته طابور طويل لا ينتهي.
يخسر الفريق الفلسطيني في التصفيات بعد أن وصل إلى النهائيات بجهود جهيدة، وتشهد الأيام الستة بعض الانفتاح مثل التقاط الصور التذكارية، وإقامة علاقات أو صداقات عاطفية عابرة، ثم تتلاشى في مدارج النسيان.
خلفيات الشخصيات الخمس.. قصص بطبقات اجتماعية متعددة
تنسج المخرجة “لينا هاتلاند” قصتها بطبقات متعددة، فتمرّ على الشخصيات الخمس أكثر من مرة لتزود المُشاهدين بمعلومات إضافية تصب في متن الحبكة السينمائية، فتمدح “آنا” إحدى الصديقات وتسميها “رونالدو” لأنها ذكية وماهرة، وتسجل الأهداف كلما وجهت كرتها إلى مرمى الخصم. أما والدها فهو يرفع من سقف طلباته لأنه يعرف جيدا موهبتها الكروية، وما يمكن أن تقدمه لفريقها، ومع ذلك فهو مدرب صارم في الملعب، وأب عادي في البيت مثل بقية الآباء.
أما “خاليدي” فما يزال يتعرض إلى ضغوط الوالد الذي يكره الفشل، ويرى أن خساراتهم المستمرة غير متأتية من حظهم السيئ، بل من تفوق الفرق الأخرى وجودة أدائها، بينما ينهمك البرازيلي “فرَيد” رغم خجله بتطوير علاقته مع “ماري” التي يتواصل معها بالإسبانية، ويراها شابة جميلة ومنفتحة تستحق العناية والاهتمام.
وعلى الرغم من خسارة “يو” الصينية وشعورها ببعض الإحباط، فقد استمتعت بالمشاركة واللعب في المنافسات النهائية، وإحساسها بالمتعة هو فوز من وجهة نظر أمها، لأن كل أنواع الرياضات تقوم على عنصري الفوز والخسارة، شرط أن يبذل اللاعب قصارى جهده، ويقدّم كل ما بوسعه لكي لا يلوم نفسه في خاتمة المطاف.
بينما تظل أفنان غير راضية عن أداء فريقها برمته، لكن مدربتها ترى مشاركة الفريق الفلسطيني إنجازا مهما، وأن مجرد خروجهن من القدس القابعة تحت الاحتلال الإسرائيلي هو نصر لهن جميعا. وعلى الرغم من خسارة الفريق الفلسطيني، فإن أفنان تتسلل مع إحدى صديقاتها لشراء رقائق البطاطس والمشروبات الغازية وبعض الحلويات، وتقضي بعض الوقت بعيدا عن إرشادات المدربة ومديرة الفريق.
“هيرد” و”نورده لاند”.. مباراة فاصلة بنكهة التوتر والتشويق
تركز المُخرجة “لينا هاتلاند” على المباراة الفاصلة بين فريقي “هيرد” الذي يلعب ضد “نورده لاند”، وذلك لما تنطوي عليه هذه المباراة من شد وتوتر وتشويق، إذ يتعادل الفريقان بالأهداف خلال الشوطين الأول والثاني، ويستمر التعادل السلبي في الوقت الإضافي ليصلا إلى ضربات الجزاء.
ومع أن “آنا” هي من أفضل لاعبات الفريق، فإنها لم تسجل هدفا، لذا تنكفئ على نفسها، وتعتقد أنها السبب في خسارة الفريق، مع أن هناك لاعبين جيدين في مختلف أنحاء العالم يخفقون أحيانا في تسجيل الأهداف من ضربات الجزاء. تنطوي “آنا” على نفسها كثيرا حينما تكون حزينة ومُحبَطة لكي تصفّي ذهنها المشوش، وتتجاوز حالة اليأس العابرة التي تمرّ بها لأوقات محدودة.
يخطف الفريق البرازيلي كأس البطولة ويعود به إلى الأرض الولّادة للمواهب الكروية، لكن تركيز المخرجة لم ينصبّ على الفوز، وكأنها تريد أن تقول من طرف خفي إن المتعة هي الأساس، وعلى اللاعبين من الجنسين أن لا يجعلوا من الخسارة حالة مأساوية تلازمهم طوال حياتهم، لهذا اقترحت “هاتلاند” أن تُنهي فيلمها بالتركيز على القصة العاطفية التي أزهرت بين “فرَيد” و”ماري”، ثم أخذتنا إلى الحفل الذي أقامه المنظمون للفرق المُشاركة في النهائيات، ورأينا كيف ظهرت اللاعبات النرويجيات والصينيات والفلسطينيات بأحسن حُلة.
“لينا هاتلاند”.. تجربة سينمائية مُرصّعة بروح الدُعابة
لم تنس المخرجة “لينا هاتلاند” أن تلفت الأنظار إلى تكريم المدربة الفلسطينية بميدالية أفضل مدربة في العالم ضمن الفرق المُشاركة في “كأس العالم للأطفال”.
ومن الجدير بالذكر أن “هاتلاند” قد أنجزت تسعة أفلام وثائقية حتى الآن، نذكر منها:
“جدتي العظيمة المجهولة” (My Unknown Grandmother).
“خارج أفريقيا” (Out of Africa).
“الرأسمالي الصالح” (The Good Capitalist).
“الظل” (The Shadow).
“راهبات الكونغ فو” (The Kung Fu Nuns).
يصف النقاد تجربتها السينمائية بأنها تتوفر على لمسة إنسانية مرصّعة بروح الدُعابة الحيّة، وقد حصلت على بكالوريوس من جامعة أوسلو، وماجستير في الأنثروبولوجيا المرئية من جامعة مانشستر، كما تخصصت في دراسة الأفلام الوثائقية بجامعة فولدا، و”كأس العالم للأطفال” هو فيلمها الوثائقي الطويل الأول.