“قرار الرحيل”.. علاقة خيالية بين المحقق والأرملة الغامضة تكشف خبايا عالمنا

أمير العمري

كان الفيلم الكوري الجنوبي “قرار الرحيل” (A Decision to Leave) للمخرج المرموق “بارك تشان- ووك” من أهم ما عرض في مسابقة مهرجان كان السينمائي الماضي، وقد استحق الفيلم عن جدارة الفوز بجائزة أفضل إخراج بسبب تميز أسلوبه، وبراعة مخرجه في رواية قصة تدور بين الشك واليقين، فكثيرا ما تذوب فيها الحدود بين الحب والخوف، والحقيقة والخيال، والحلم والواقع، وغياب القدرة على التفرقة بين القاتل والضحية. كلها ثنائيات يجيد “بارك تشان” التلاعب بها مع دفع القصة إلى الأمام، دون أن يجعل المتفرج يسترخي دقيقة واحدة في مقعده، بل يجعله دائم التساؤل.

يتأرجح الفيلم عمدا بين أسلوب الفيلم العاطفي والميلودرامي والفيلم البوليسي من نوع “الفيلم- نوار” الجديد. إنه يروي قصة حب غريبة كل الغرابة تدور في أجواء من القلق والأرق والتشكك، بطلها ضابط شرطة في مدينة بوسان في كوريا الجنوبية هو “هاي- يوون”، وهو معروف ببراعته في عمله، حتى أنه أصبح أصغر ضابط يعمل في تحقيقات جرائم القتل، لكن هذا النوع أصبح نادرا منذ فترة، وأصبح هو بالتالي يتململ في وظيفته ويتوق إلى حل ألغاز جرائم القتل المعقدة، وفجأة تهبط عليه قضية جديدة مثيرة، حيث يسقط رجل من قمة جبل، يثور الشك حول سقوطه، فهل كان انتحارا أم بفعل فاعل، أم مجرد حادث عرضي؟

يتولى على الفور صاحبنا القضية مع زميل له، ويتجه الاثنان إلى موقع الحادث، فيتسلقان الجبل بواسطة سلك مخصص للتسلق في مغامرة شاقة، وعندما يعترض زميله على هذه الطريقة الخطرة يقول له بكل بساطة “الرجل تسلق الجبل من هذا الطريق.. ويجب أن نسلك نفس طريقه”. أما جواب زميله الضابط فيأتي في سخرية: وهل يتعين علينا أيضا أن نسقط مثله من أعلى الجبل لكي نقطع نفس طريق سقوطه؟

 

تحقيق الضابط.. آثار اعتداء على زوجة القتيل الغامضة

يقابل الضابط “هاي هوون” أرملة الرجل القتيل، ويظنها في البداية ابنته، فهي تصغره بأكثر من ثلاثين عاما، إنها امرأة شابة تتميز بجمال من نوع خاص، مع لمسة من الغموض ممزوجة بقوة الشخصية، هذه هي “سونغ سيو راي”، وهي لا تبدي أي مشاعر تجاه مصرع زوجها، بل تبدو رابطة الجأش لا تكترث.

عند التحقيق معها سيلمح مساعدو الضابط كيف أنها ابتسمت خلال التحقيق ابتسامة ربما تعكس شعورها بالتحرر، وسيدفع هذا “هاي يوون” للشك في أنها قد تكون هي التي قتلت زوجها، خصوصا أنها ستكشف أيضا عن كدمات وآثار اعتداءات عدة على جسدها، تشي بأن زوجها الراحل كان عنيفا فظا معها.

سنعرف أن “سيو راي” صينية وليست كورية، وأنها جاءت إلى كوريا على متن أحد قوارب اللاجئين الذين يدخلون البلاد على نحو غير قانوني، لكن زوجها الراحل ساعدها في تطبيع علاقتها مع السلطات الكورية، خصوصا أنها تمتلك وثائق تثبت أن جدها كان من الكوريين الذين ناضلوا في صفوف الحركة الوطنية ضد اليابانيين في الثلاثينيات.

“أنا لست شخصا صالحا”

سنرى أن الضابط “هاي يوون” متزوج من امرأة جميلة، لكنها لا تقيم معه في بوسان، بل في بلدة تطل على البحر تدعى “إيبو”، حيث تعمل هناك في محطة للطاقة النووية، ورغم علاقته الطبيعية مع زوجته، فهو يشعر بالوحدة.

العلاقة بين الضابط والمرأة الصينية تتوثق مع تطور الأحداث

 

ومنذ اللحظة الأولى تستولي “سونغ سيو راي” على خياله وقلبه وعقله تماما، لا تفارقه أبدا، لقد أصبح أسير فتنتها، وشده أكثر إليها غموضها وتماسكها وثقافتها، رغم أنها لا تجيد اللغة الصينية، بل تستخدم قاموسا إلكترونيا على هاتفها المحمول لترجمة بعض ما لا تفهمه، أو ما تريد توصيله له، تصوغ عباراتها بطريقة خاصة تعكس ثقافتها.

“سونغ سيو راي” سرعان ما تعود إلى عملها كممرضة تشرف على رعاية المسنين، وهو ما يزيد الشك فيها، فكيف تعود بمثل هذه السرعة إلى العمل بعد مصرع زوجها مباشرة؟

ورغم عدم إتقانها اللغة الصينية، فإنها تبدي معرفة كبيرة بالثقافة الصينية، وعندما يسألها عن عدم وجودها مع زوجها فوق الجبل تخبره بأنها لا تحب الجبال، ثم تقتبس من كونفوشيوس عبارة “بينما يجد الحكماء المتعة في الماء، يجد الصالحون المتعة في الجبال، وأنا لست شخصا صالحا”. ويعقب هو بما يثير استغرابها هامسا “وأنا أيضا”.

“هاي يوون”.. أرق يهزّ المُعجب بالأرملة الغامضة

“هاي يوون” يعاني من عدم القدرة على النوم ليلا، فهو مصاب بالأرق، ويستعين بنوع من قطرات العين لتهدئة عينيه ودفعهما للاسترخاء، فنحن نراه أحيانا يستغرق في النوم وهو في سيارة الدورية الليلية، فهو سيفرض المراقبة مع زميله على الأرملة الحسناء. هل لهذا الأرق سبب يتعلق بتكوينه الخاص؟

الضابط والبحث عن الحقيقة من خلال استجواب جدة “سيو راي” المريضة

 

عن هذا الأرق يقول إنه لا يستطيع النوم ليلا، ليس لأنه يعمل في دوريات الليل، بل هو يعمل في دوريات الليل لأنه لا يستطيع النوم ليلا. إنه وسيم وحالم، يبدو عندما يطرح التساؤلات كما لو كان يناجي نفسه. لقد وقع أسيرا تحت سحر هذه المرأة الصينية، وأصبح متمزقا بين مقاومة إعجابه وولعه بها، وبين تشككه فيها وفي ماضيها، وما قد تكون ارتكبت من جرائم.

هذا المدخل وهذا النوع من الشخصيات؛ المرأة الجذابة التي يمكن أن تكون قاتلة شاهدناه من قبل في أفلام أخرى، منها على سبيل المثال فيلم “هيتشكوك” الشهير “دوار” (Vertigo). لكن المخرج الكوري يأخذنا بعيدا وراء هذا المدخل، في تلاعب بديع بالشكل السينمائي، فهو يخلق سياقا بصريا شديد الخصوصية، تارة من خلال التركيز على علاقة الإنسان بالتكنولوجيا الجديدة (الهواتف المحمولة، أجهزة الحاسوب، تقسيم الشاشة، استخدام صور وفيديوهات الهاتف، بل وإمكانية استعادة المختزن على ذاكرة جهاز الهاتف الذي ألقت به “سيو راي” في البحر، محرك البحث غوغل، عالم الإنترنت، المحادثات المكتوبة والتسجيلات الصوتية على جهاز التلفون الذكي).

 

وتارة أخرى يستخدم سياقا شعريا مبتكرا في تجسيد انجذاب الضابط إلى تلك المرأة الغامضة، عندما يجعله يقف خلفها يراقبها وهي داخل منزلها، يتأملها ويتشمم عطرها، دون أن يلمسها أبدا، فليس في الفيلم أي مشاهد تلامس.

اقتحام اللحظات الحميمية.. حلم يطغى على الواقع

تظل العلاقة في دائرة الخيال أكثر مما هي على أرض الواقع، ويشي الفيلم يشي بأن هناك عوامل كثيرة تفصل بين البشر في العصر الحالي، بسبب طغيان التعقيدات التكنولوجية التي جعلت الإنسان غريبا عن الآخر، يقف منه على مسافة، تفصله بينه وبين البحر مساحات من الزجاج أو شاشات لأجهزة دخيلة، أو مرايا أو جدران وأسقف خانقة.

ويطغى الحلم على الواقع أيضا، فنحن نرى “هاي هوون” وهو في الفراش مع زوجته يطارحها الغرام، يسرح بخياله ولا يرى سوى “سيو راي” على الجانب الآخر من الفراش، على شاشة من شاشات العرض.

سيو راي تظهر على أكثر من شكل وزي في الفيلم بحيث تسبب الارباك والحيرة للبطل الواقع في غرامها

 

وفيما بعد سيتبادل الاثنان الحضور، فهي أيضا ستحضر بالقرب منه على صعيد الخيال، أو تتطلع إليه من غرفتها وتضبطه وهو يتلصص عليها من وراء المنظار المكبر داخل سيارته، فيما هو يبدو حائرا ممزقا يتساءل عن معنى الحب، وعن مغزى الحياة والموت: هل كانت زوجته تفكر في احتمال أن تنتهي حياته مثل ذلك الرجل الذي سقط من فوق الجبل فجأة، بسبب طبيعة عمله المشوب بالخطر؟ ومتى يمكن للمرء أن يقرر مغادرة عالمه الذي وجد نفسه حبيسا في داخله، ويعثر على طريقة للتعبير عن مشاعره الحقيقية؟

مصرع الرجل الثاني.. لقاء غامض في سوق البلدة

سيثبت “هاي هوون” بعد ذلك أن سقوط زوج “سيو راي” من فوق الجبل كان حادث انتحار، وسيمضي 13 شهرا، وينتقل إلى البلدة التي تعمل فيها زوجته، لكنه يلتقي ذات يوم وهو بصحبة زوجته في السوق بالمرأة الصينية نفسها، ومعها هذه المرة رجل تقدمه لهما باعتباره زوجها الجديد.

تتعرف عليه زوجة الضابط باعتباره أحد خبراء شؤون البورصة والمضاربات، وقد شاهدته كثيرا على شاشة التلفزيون، لكن بعد قليل سيلقى هذا الرجل أيضا مصرعه، ومرة أخرى ستصبح “سيو راي” داخل دائرة الشك، وتعود معاناة “هاي هوون” لماذا جاءت هذه المرأة إلى هذه البلدة؟ هل كانت تقصد ذلك؟ هل هي تتبعه، هل تريد أن تتحداه أو تشعره بالغيرة، أم هل هي تخدعه مجددا؟ ماذا تريد؟ من الواضح أنها قتلت زوجها الثاني؟ فهل قتلت زوجها الأول أيضا؟

الهاتف المحمول أحد أدوات التلاعب والبحث في القضية

 

هذه الشكوك تستمر، خصوصا بعد أن يثبت أن “سيو راي” ساعدت جدتها العجوز على إنهاء حياتها بعد أن تكالب عليها المرض، فأعطتها أقراصا منومة أنهت حياتها على سبيل “الموت الرحيم”.

ويستمر تلاعب المخرج “بارك تشان ووك” بالحبكة من خلال الالتواءات في السرد، والكشف عن تفاصيل جديدة في الشخصيات الرئيسية والثانوية، مع كثير من المشاهد المبتكرة، واهتمام كبير بمكونات الصورة، بالتكوين، بالضوء، بالانتقال بين الداخل والخارج، بالحوار المقتصد الذي يخفي أكثر مما يكشف، إلى أن يصل الفيلم إلى نهايته التي لا أود أن أكشف عنها هنا، لأن الأفلام صنعت لكي تُشاهد، وهذا النوع من الأفلام تحديدا، لا يصلح معه الكشف عن نهاية الأحداث أو حرقها، بل يجب أن نشاهده لكي نستمتع بكيفية صياغة الأحداث وكيفية بلوغ النهاية التي قد تجيب على بعض التساؤلات التي كانت تدور في ذهن الرجل طوال الوقت، مع بقاء البعض الآخر دون إجابات شافية.

هذا هو سحر الفن وسحر السينما، أن تدفعك إلى التفكير وتفتح أمامنا مجالا جديدا لاختبار مسلماتنا عن العالم.

أبطال الفيلم.. كيمياء التواصل الصامت بالعيون

من العناصر البارزة التي تكسب الفيلم كثيرا من سحره تلك الكيمياء أو الهارمونية الواضحة بين الممثلين الرئيسيين، وهم “بارك هاي إيل” في دور “هاي يوون”، والممثلة الصينية “تانغ وي” في دور “سيو راي”.

إنهما يتواصلان عن طريق نظرات العيون والصمت والتعبير الخافت بالصوت، وذلك في حوار مقتضب مع حركة دقيقة محسوبة جيدا داخل المشهد، بحيث توحي بأكثر مما تكشف. فهناك شعور بالحب دون الحديث عن الحب، وشعور بالحزن لعدم القدرة على الاستجابة لمشاعر الحب، وعندما يحزم المرء أمره في النهاية ويتخذ “قرار الرحيل” عن نفسه، ويستجيب لنداء الحب؛ يكون الوقت قد أصبح متأخرا. وقد يكون “قرار الرحيل” هو أيضا ذلك القرار بالرحيل عن العالم بعد أن ضاقت السبل وتعقدت، واستحال تحقيق الحب.

 

على الرغم من رومانسية الفيلم ونغمة الحزن التي تشوبه، فإنه لا يخلو أيضا من مواقف مرحة، فزوجة الضابط مثلا ترفض أن يعود للتدخين الذي يتوق إليه (وهي تفصيلة أخرى تشي بعدم شعوره بالتحرر)، وعندما يعود من لقاء مع “سيو راي” تشم زوجته رائحة السجائر في ملابسه، فتظن أنه عاد للتدخين، في حين أن رائحة الدخان التصقت بملابسه لقربه من “سيو راي” التي كانت تدخن.

وتقول له زوجته ذات مرة إن حساء السلاحف يفيد القدرة الجنسية للرجال. ويحدث أن يطارد هو رجلا سرق مجموعة كبيرة من السلاحف الضخمة، لكنه يترك السلاحف تسقط على أرضية الطريق، وعندما يمسك بأحدها تعضه وتتشبث بيده، ثم يعود بها في كيس إلى زوجته التي تظن أنه أتى بها عن عمد لتطبيق الدرس.

“قرار الرحيل”.. فيلم حافل بالرموز والإشارات عن عالمنا

فيلم “قرار الرحيل” حافل بكثير من الرموز والإشارات عن عالمنا، عن الجريمة التي قد لا تكون جريمة، والحياة التي تخفي الكثير على الجانب الآخر من الجبل، وعن الحب المستحيل الذي يعجز عن التحقق في اللحظة التي يتوصل فيها الحبيبان إلى التخلي عن كل الشكوك والتحفظات، وقبول الوقوع في الحب من دون أي تحفظات.

المخرج استخدم تقسيم الشاشة وإظهار أكثر من صورة لتوصيل مشاعر معينة

 

هذا الفيلم أصبح المرشح الرسمي لسينما كوريا الجنوبية في مسابقة الأوسكار، طمعا في نيل جائزة أفضل فيلم عالمي، لكي يلحق بفيلم كوري آخر هو “طفيلي” (Parasite) الذي حصل على الجائزة قبل عامين.


إعلان