“حوالات مالية”.. ظروف سياسية واقتصادية تمزق العائلة بين المهجر والوطن

قيس قاسم

تتناول المخرجة الزيمبابوية “رومبي كاتيجا” في فيلمها الجديد “حوالات مالية” (Transactions) جانبا من موضوع الهجرة الذي اهتمت به منذ بداية اشتغالها في حقل السينما، وجسدته عام 2007 في فيلمها القصير “لجوء” (Asylum)، ويسلط الضوء على جوانب من تأثيرات الحروب الأهلية على طالبي اللجوء، وبشكل خاص النساء الأفريقيات اللواتي يتعرضن خلالها لانتهاكات جسدية شنيعة تظل آلامها النفسية ملازمة لهن، حتى بعد انتقالهن إلى أمكنة بعيدة عن المواقع التي واجهن فيها ظروفا قاسية دفعتهن للهجرة وترك البلاد التي عشن فيها.

وفي وثائقيها الجديد تتناول المخرجة موضوع الهجرة من زاوية لم يُتطرق إليها كثيرا، زاوية شديدة الحساسية تخص العلاقات الناشئة بين المغترب من جهة، وبين أهله وأقاربه في الوطن من جهة أخرى، ومن بين أكثر مظاهرها سطوعا إلحاح الأهل في طلب المزيد من المال والمساعدات من المشتغلين في الخارج.

تقدم المخرجة “كاتيجا” في فيلمها “حوالات مالية” بلدها زيمبابوي مثالا على بقية البلدان الأفريقية التي يضطر قسم كبير من سكانها للهجرة بحثا عن الخلاص من أوضاع اقتصادية صعبة، وأحيانا من أزمات سياسية يجد بعضهم أن لا خلاص منها إلا بترك البلاد والعيش في أمكنة خارجها أكثر أمانا منها.

 

عائلات الطبقة المتوسطة.. هجرات تنعش الاقتصاد المحلي

يتمحور الوثائقي حول عائلة زيمبابوية من الطبقة المتوسطة، أغلب أفرادها هاجروا من البلد بحثا عن عمل، وبعضهم هرب من سوء الأوضاع السياسية فيها.

من خلال رصده للعلاقات بين أفراد العائلة يجد الوثائقي أن الأم تشكل مركزا مهما فيها، ولهذا اتخذ من مدينة بولاوايو المقيمة فيها نقطة انطلاق له، ومن خلالها يمكن تقديم بقية الشخصيات الفاعلة داخلها، والتعرف على سبب هجرتها، وأيضا تشخيص أكثر المشتركات بينها.

على طول مساره يحاول الوثائقي تجنب السقوط المباشر في المشكلات السياسية التي تشغل عادة المساحة الأكبر من الأفلام الوثائقية الأفريقية، أو غيرها من تلك التي تناولت الجوانب السياسية والإشكالية في بلدان القارة الأفريقية، لكنه رغم ذلك يلمح في مقدمته إلى الفوائد المالية التي تجنيها الدولة من وراء اتساع حركة هجرة مواطنيها إلى الخارج، فخلال العام الفائت لوحده حَوّل المغتربون والمهاجرون من زيمبابوي إلى بلدهم حوالي مليار ونصف مليار دولار أمريكي. هذا الرقم لوحده هو أكبر من مجموع المساعدات المالية المقدمة لها من بلدان أخرى.

الهاتف المحمول.. رنين يجسد العلاقات بين أفراد العائلة

تتكون العائلة الزمبابوية من الأم التي فقدت زوجها وتعمل في مشاريع اقتصادية بسيطة تعيل بها نفسها وبقية من بقي معها من أفراد عائلتها وأقاربها، لكنها رغم ذلك تحتاج أحيانا إلى مساعدة أولادها، وهم “فرانك” المقيم في جنوب أفريقيا، و”ميلز” المهاجر إلى مدينة لندن البريطانية بصحبة زوجته وابنته الصغيرة، وأما ابنتها “كيكي” التي تعمل في العاصمة هراري، فما زالت مترددة في قبول فكرة الهجرة إلى بولندا للعمل هناك، رغم إلحاح والدتها عليها بضرورة خوض التجربة كما فعل إخوانها من قبل.

بسبب تردي الأوضاع حتى الأطفال في زيمبابوي يفكرون بالهجرة

 

ولرصد العلاقات الناشئة بين الأفراد بسبب اغترابهم أو سفرهم إلى مدن أخرى داخل البلد، تستعين صانعة الوثائقي بالهاتف المحمول، لأنه الوسيلة الأكثر استخداما في التواصل بينهم، فلا يكف طيلة زمن الوثائقي عن الرنين، وأيضا لأن أغلب عمليات تحويل الأموال إلكترونيا تجري عبره.

وبفضل التقنيات الحديثة تنقل صانعة الوثائقي التي مرت بتجربة الهجرة والاغتراب في أكثر من بلد، بعض المحادثات على شكل نصوص مكتوبة تظهر على الشاشة، ومن خلالها يمكن للمُشاهِد معرفة أكثر الموضوعات والهموم التي يتشاركونها، وأكثر الكلمات المستخدمة خلالها.

“سأحاول”.. لغة مادية تطبع العلاقة بين المغترب والعائلة

من المحادثات بين أفراد العائلة يمكن بسهولة ملاحظة أن كلمة “نقود” هي الأكثر استخداما فيها، حيث ترد كثيرا على لسان الطالبين مساعدة من أقاربهم في الخارج، تليها كلمة “سأحاول” التي ترد في إجابة العاملين في الخارج على طلبات أقاربهم.

تتجنب صانعة الوثائقي تفضيل طرف على آخر في المعادلة العائلية الحاصلة، فهي تريد رصدها من دون التدخل فيها أو تقييمها، فما يهمها هو نقل المشهد بكل تفاصيله الصغيرة وربطه بطريقة غير مباشرة بحال البلد العام، وهو الذي يدفع الناس لتركه والبحث عن مصادر عيش خارجه، أما الباقون فيه فيضطرون بسبب الفقر والحاجة لطلب المساعدة من أقاربهم المغتربين، وأحيانا من دون مراعاة للظروف الصعبة التي يعيشونها في بلد الاغتراب.

 

العلاقة معقدة وفيها كثير من الخصوصية، لكن فيها الجوهر المتعلق بالبحث عن أسباب الهجرة، وهذا ما يشتغل عليه الوثائقي بذكاء، ومن دون الخوض في التفاصيل المباشرة، لأنه معني قبل كل شيء ببحث العلاقات الإنسانية وحاجة أفراد العائلة الواحدة للتواصل فيما بينهم رغم البعد واختلاف مستويات العيش، وما يمكن أن يلعبه المال أحيانا في إحداث حالة من الفتور بينهم.

“فرانك”.. دوافع سياسية تجبر على ترك البلاد

لنقل المشهد العام الذي يعيش فيه الزيمبابوي يومه ينقل الوثائقي بشكل خاص أطراف الحوارات الهاتفية التي تجري بين الأم وبين ابنها “فرانك” المقيم في جنوب أفريقيا. في واحدة منها تطلب منه بعض المال لتسديد وصول مستحقة خاصة بعملها، بعد أن عجزت عن دفعها بنفسها، وفي نفس السياق تطلب منه إرسال مبلغ بسيط لجدته لتشتري به لحما تضعه على مائدة الاحتفال بأعياد الميلاد. يعد الابن أمه بإرسال ما يقدر عليه سريعا.

الأم تضغط على ابنتها من أجل السفر إلى بولندا للعمل لتحسن أوضاع الأسرة

 

المشاهد المتأتية من مرافقة كاميرا الوثائقي لـ”فرانك” الشاب الطيب والكريم تسرب الدوافع السياسية التي أجبرته على ترك بلده، إذ لم يعد بإمكانه البقاء هناك، فخطر سجنه قائم ما دام يعبر عن مواقفه السياسية ورفضه لقمع سلطات بلده ومحاولتها المستمرة لإسكات الأصوات الحرة، لهذا وجد نفسه مضطرا لترك عائلته والعيش مغتربا في بلد أفريقي آخر.

لتأمين لقمة عيشه يعمل ليلا، ورغم ذلك يستقطع جزءا من راتبه كلما اتصلت به والدته وطلبت منه مساعدة مالية عاجلة. حالة “فرانك” تجلي سببا سياسيا يدفع الناس في زيمبابوي للهجرة منها وتجنب عواقب المطالبة بتوفير أجواء ديمقراطية تتيح للمواطن العيش في بلده بأمان ومن دون خوف.

في مشهد آخر تظهر الأم في بيتها وهي محاطة بأبناء أخي زوجها المتوفي، وجلهم شباب وصبيان جاؤوا إليها طلبا في مساعدة مالية تعينهم على إكمال دراستهم، أو تسد رمق جوعهم، لأن أغلبيتهم من دون عمل. فالبطالة واحدة من الأسباب التي تدفع الشباب في زيمبابوي للهجرة خارجها، وحتى الأطفال الصغار لا يترددون في التعبير عن رغبتهم في الرحيل ما إن يكبروا قليلا.

“كيكي”.. سلوك جمعي ضاغط على المتشبثين بالوطن

ثمة سلوك جمعي ضاغط على غير الراغبين في الهجرة يتمثل بتجربة “كيكي” التي تعمل في العاصمة مساعدة ممرضة في عيادة خاصة، وبسبب ضعف راتبها تجد نفسها مضطرة لطلب المساعدة المالية أحيانا من أخويها، لكن طلبها يجابه برفض الأم التي تريد إقناعها بالسفر إلى بولندا للعمل هناك، بدلا من العمل في هراري براتب ضعيف، وأحيانا لا يصلها في موعده لعجز صاحب الشركة عن تأمين رواتب العمال المشتغلين معه.

مشاكل بين الزوجين بسبب أولويات العائلة المقيمة في لندن على حساب العائلة بزيمبابوي

 

أزمة اقتصادية ضاغطة على الشباب، وعليها هي الخائفة من خوض تجربة العمل في الخارج، وتتمنى تكملة حياتها والعيش مع من تحب في بلدها، وتعترف بأن أهلها -ولا سيما أمها- يعاملونها بشيء من الاختلاف، لأنها ليست مثل بقية إخوانها، فلا عمل ثابت لها، ولا تقدم مساعدات مالية لغيرها.

المتشكل من المشهد المنقول محزن، لأنه يكشف عن رغبة ملحة في تسفير أبناء البلد، وعدم التفكير في الكيفية التي سيعيشون فيها هناك بعيدا عن وطنهم وعوائلهم.

“ميلز”.. جحيم الغربة الباهظة في بلاد الغرب

لعرض العلاقة الملتبسة التي لا تخلو من أنانية الطرف المقيم في البلد، ينقل الوثائقي جانبا من حياة “ميلز” وعائلته في لندن، إذ يفصح في مكالمة مع أخيه عن صعوبات العيش في بلد غربي مستلزمات الحياة فيه مكلفة، بحيث لا يمكن لابن البلد الأفريقي الفقير فهمها.

نقود المهاجرين تصرف داخل البلد والمستفيد الأكبر منها رجال السلطة

 

ففي بلده يقارن الناس ما يحصل عليه من عملة صعبة بما يحصلون هم عليه من دخل بالعملة المحلية، لكنهم ينسون فرق مستويات العيش في الدول الغربية، وبشكل خاص في بريطانيا التي يضطر للعمل فيها في أكثر من موقع عمل، كما تضطر زوجته للسفر لمدينة أخرى من أجل إكمال دراستها التي تأمل بعد الانتهاء منها في تحسين مستوى عائلتها، وتوفير حياة أفضل لطفلتها.

الضغوط التي يتعرض لها “ميلز” بسبب كثرة طلبات أقاربه منه بإرسال المزيد من المساعدات المالية تترك أثرها السلبي على عائلته، وبسببها تحدث خلافات، كما ينقل الوثائقي حالة الفتور الحاصلة بينه وبين زوجته، وتدخل الأخ الأكبر للمساعدة في حلها.

حلم لم الشمل.. غصة العائلة في شتى بقاع الأرض

لا يكف “فرانك” عن التفكير والتخطيط لمجيء عائلته إليه في جنوب أفريقيا، دافعه لذلك حنينه الشديد لهم، والرغبة في الاجتماع بهم ثانية، عجزه عن السفر للبلد يزيد من حزنه، كما يزيد أكثر من إحباطه، تلكؤ بقية العائلة وضعف حماستهم للمجيء لأسباب مختلفة تخص كل واحد منهم، لكنها في النهاية تترك في حلقه غصة، لأنهم لا يفكرون بحاجته لملاقاتهم، ومع ذلك لا يترددون في طلب المساعدة منه.

فالأم تريد إكمال البيت الذي شرعت في بنائه وتخطط لتأجيره بعد إكماله لتؤمن به دخلا ثابتا لها. وفي لندن عائلة أخيه تواجه صعوبة في تأمين أثمان تذاكر السفر، لكنهم لا يخفون حقيقة مشاعرهم ورغبتهم في المجيء ومقابلة الأهل، وبشكل خاص مقابلة طفلتهم لعائلتها في الوطن الأم.

 

أما “كيكي” فهي عاجزة أصلا عن توفير مبلغ التذكرة لضعف راتبها، وبالتالي تنتظر من أخيها أن يرسل لها التذكرة. الشعور بضعف حماسة أفراد العائلة لملاقاته في مغتربه يحزن “فرانك”، ومع ذلك يتفهم على مضض أسبابهم، كما يتفهم أسباب رفض أخته الهجرة إلى بولندا، فتجربة الغربة علمته معنى الشوق للوطن والأهل.

آلام المغتربين وألاعيب السياسيين.. خاتمة حزينة

في مشهد ختامي تظهر “كيكي” وهي تركن حقيبتها جانبا، لأنها قررت في النهاية قضاء بقية حياتها في موطنها، بينما يظل “فرانك” منتظرا الموعد المرتقب للَمّ شمل العائلة في بيته.

من دون تعمد يسرب فيلم “حوالات مالية” إحساسا بالحزن إلى المُشاهِد، لحالة إنسانية متمثلة بعائلة عادية تجد نفسها موزعة بين جهات الأرض، بسبب أوضاع اقتصادية وسياسية تتحملها أنظمة سياسية، بينما يدفع أفرادها ثمن ممارساتها القمعية وفسادها، وعدم بحثها جديا في أسباب هجرة مواطنيها، ما دام هؤلاء يوفرون للبلد الذي يحكمونه مليارات الدولارات سنويا.

من أين تأتي الأموال، وكم من الجهد الجسدي والنفسي يدفعه المغترب من أجل توصليها للبلد؟ هذا السؤال غير معنية به السلطات الحاكمة على الإطلاق، لهذا جاء فيلم “الحوالات المالية” ليعرض مشهد الهجرة من منظور المهاجر نفسه الذي يبذل جهدا كبيرا، من أجل تأمين مبلغ بسيط مستقطع من لقمته يرسله لأهله المحتاجين في موطنهم الأصلي.


إعلان