“كل شيء هادئ في الميدان الغربي”.. موت عابث في صفوف الجند وانتصارات في معسكرات القادة

“كنا في هذا الوقت حيوانات متوحشة، لم نكن نقاتل، بل رحنا ندافع عن أنفسنا أمام الموت الذي يطبق علينا، لا نقاتل ولا نبذر الهلاك إلا من أجل أنفسنا وصونا لحياتنا”.
هكذا يصف الكاتب الألماني “إريك ماريا ريماك” مواجهة العدو أثناء الحروب في روايته “كل شيء هادئ في الميدان الغربي”، وقد جاءت تعبيرا حيّا عن الحرب وما يدور بها من مآسي، لم تجد من يُمسك بها مثلما فعل “ريماك” في عمله النادر الذي لم يُعبر عن الحرب العالمية الأولى بقدر إفصاحه عن الحروب وإدانته لها بجرأة لا تزال شائكة حتى يومنا هذا.
كواليس الحروب.. نصر وهمي يجني ثماره من هم في الأعلى
من هذه الأرضية المحفوفة بالألغام الفكرية يُعيد المخرج “إدوارد بريجر” تشكيل عالم الرواية ويبلورها في صيغتها السينمائية عبر الفيلم الألماني البريطاني الأمريكي المشترك “كل شيء هادئ في الميدان الغربي” (All Quiet on the Western Front) إنتاج عام 2022، وهو يستعيد مضمون العمل الأدبي وطرحه الفكري، ويُضيف إليها مذاق الإبهار السينمائي.
يبدو الفيلم مهموما بأفكار عدة يُمكن وضعها بين قوسين تحت عنوان واحد، ألا وهو الحرب وما يدور في كواليسها الخلفية من ناحية، ويحوي إدانة صريحة للحرب وأجوائها، في مقابل إبراز قيمة الحياة التي تُنثر هباء في سبيل نصر وهمي لا يجني ثماره إلا من هم في الأعلى، بينما تزداد أعداد الضحايا من ناحية أخرى.
استنادا لوقائع حقيقية تدور أحداث الفيلم حول معارك الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في المنطقة الغربية التي لم تزل أربع سنوات تُعاني من شظايا الحرب التي لا تكاد تتوقف، وكل ذلك بحثا عن بضعة أراضي إضافية، في تلك الأثناء يقع “بول بومر” الطالب في المرحلة الثانوية وأصدقاؤه ضحايا لخداع أحد القادة العسكريين بالتطوع في الجيش الألماني، حينها تتبدل ذواتهم، ويُدركون ماهية الحياة التي يوشك عقدها أن ينفرط على الجبهة.
“ما نفع الجندي بلا حرب؟”.. خيال القادة وواقع الجنود
يبدأ الفيلم بلقطة تأسيسية لأحد الحقول الشاسعة، ثم تليها لقطات أخرى للغابة من زاويا متعددة، وجميعها مفعمة باللون الرمادي الشاحب الممزوج بالأزرق دلالة على الموت، ثم تنتقل الكاميرا للمشهد التالي الذي ينكشف تدريجيا من زاوية علوية، حيث تهبط الكاميرا لأسفل، وحينها تنفتح الصورة على كادر يحوي مجموعة من جثث الجنود والدماء تحيط بهم.
ثم ننتقل لمشهد آخر لنرى “بول بومر” (الممثل فيليكس كاميرير) برفقة أصدقائه وهم يستمعون لخطبة أحد القادة العسكريين التي تُحفزهم على الانخراط في الصفوف العسكرية بحثا عن المجد والعظمة.
هنا نصل لأحد مفاتيح فهم وقراءة الفيلم، حيث الرقعة الشاسعة بين الواقع والخيال، أحلام النصر الوهمي في خيال القادة والسلطة، في مقابل الواقع الذي يلقاه الجنود في المعارك، فعلى مدار الأحداث يضعنا السيناريو في مقارنة دائمة بين هذا وذاك، وبشكل يبدو معه وكأنهم في عالمين كل منهما منفصل عن الآخر.

في أحد المشاهد نرى القائد الألماني يتحدث مع زميل له قائلا “ما نفع الجندي بلا حرب؟”، فالقادة يبحثون عن الحرب التي تُمثل وقودا لاستمرار حياتهم، أما الجنود على الجانب الآخر، فهم رغم كل التضحيات لا يروقون لأعين السلطة التي لا تعبأ بالهزائم المتتالية، وتدفع الجنود الألمان لمعركة خاسرة قبل انتهاء الحرب بساعات، فالسعي للمكانة والعظمة يبدو لا نهاية لهما.
تدعيما لهذه المقارنة بين القادة والجنود ينتقل السرد بين الجبهة الغربية، حيث المعارك مشتعلة بين طرفي النزاع من الألمان والفرنسيين، ومكاتب القادة وطعامهم الفاخر، وهنا تلعب الإضاءة دورا محوريا في إبراز عالم الجنود، حيث الإضاءة الشاحبة المطعمة بالرمادي هي المسيطرة دوما، في مقابل الإضاءة الصفراء الدافئة في مكاتب القادة، فالموت يعبث هناك، بينما الحياة تقبع هنا.
“بول بومر”.. مكتشف الخدعة التي تُمارس على الشعب
رغم أن السيناريو يضع المتفرج رأسا في صلب موضوعه، فإن الحكاية ذاتها لم تسر على نفس الوتيرة، فالبداية كانت مع مشاهد متفرقة لإحدى المعارك التي نرى خلالها أحد الجنود يفقد حياته، ثم بضعة مشاهد متناثرة نرى فيها النساء وهن يُنظفن الملابس العسكرية للجنود الأموات من الدماء المتخثرة، ويجعلونها كالجديدة تماما، ونصل لذروة المشهد بنزع اسم الجندي المرفق بالسترة، ويُلقي به على الأرض بجوار أسماء أخرى، حتى تصبح السترة جديدة وكأنها لم تستخدم بعد، وهنا تنتهي هذه المقدمة الأشبه بالنص الاستهلالي الذي تعقبه ثلاثة حركات في الأوبرا.
فقد نسج السيناريو السرد نسجا أقرب للمقطوعة الموسيقية، أي أنه يتكون من مقدمة وثلاث حركات، كل حركة تُسلم الأخرى، وهكذا لم تمنع قسوة الموضوع أسلوب التناول، فقد لجأ كتاب السيناريو “ليزلي باتيرسون” و”إيان ستوكل” بمشاركة المخرج “إداورد بريجر” لوضع الحكاية وفق هذا المنوال السردي الذي جاء موفقا إلى حد كبير، حتى يكسر جمود وخشونة القصة، فالأجواء الحربية بقسوتها تلين مع هذا البناء الذي هو أقرب للشعر والتأمل.

ينتقل السرد تدريجيا للحركة الأولى، إذ يُطالعنا فيها “بول بومر” برفقة أصدقائه وهو يُبدل تاريخ ميلاده في أوراقه الرسمية، حتى يتسنى له الاشتراك في الصفوف العسكرية، ثم يصل بعدها في المشاهد التالية لميدان المعركة، وهناك يبدأ في اكتشاف أوراق الخدعة التي يلعبها القادة على الشعب الألماني.
عند هذه النقطة نصل للحركة الثانية التي تُعد الأطول في مسار الحكاية، فنرى تفاصيل الحياة العسكرية ويوميات الحرب التي تزداد وعورتها يوما بعد آخر، في متوالية لا نهاية لها من الآلام، وكلما أوغلنا في الحكي ازداد يقين “بول بومر” بعبثية تلك الحرب التي لا تُقدم ولا تؤخر، إلا في عدد الأموات التي يتزايد في اطراد مع توالي الأيام.
مصير البطل.. عبثية الضربة الأخيرة في معركة خاسرة
مع مرور الوقت وارتفاع حصيلة الضحايا تلجأ السلطات الألمانية للمفاوضات، وهذا ما يدور في الحركة الثالثة التي لا تكشف فقط عن تلك الفترة التاريخية الحرجة، بل تطرح رؤية ما عن الحرب، قوامها أن من يدفع الثمن هم الذين على الأرض، في حين أن القادة الألمان لا يعنيهم سوى تحقيق مكاسبهم الشخصية، وبما يُشير لبدايات صعود الفكر النازي.
أما الحركة الرابعة فهي أشبه بالموسيقى الجنائزية، فنرى خلالها توقف القتال بعد تفعيل الهدنة، لكن رغبة القائد الألماني في البحث عن انتصار من رحم أنقاض الهزيمة تدفعه للتضحية بجنوده في معركة خاسرة من البداية، وفي تلك الأثناء يلقى “بول بومر” مصيره المحتوم، وهنا تُختتم حياة البطل وينغلق القوس.

هكذا تكتمل المصفوفة السردية التي بدأت مع “بول بومر” والتحاقه بالقوات العسكرية الألمانية، واختتمت بمقتله المفاجئ، فقد اختار السيناريو أن يرصد حياة البطل، وكأنها رحلة تأملية ليس في الحياة فحسب، لكنها تمتد للموت كذلك.
“إننا سواء في الاحتضار والنزع”.. فلسفة الحياة والموت
يبدأ الفيلم بمشهد الجثث المتناثرة فوق الجليد، وينتهي بمقتل البطل، وبين هذا الموت وذاك يقبع شبح الموت والخوف منه على طوال الحكاية، تتكاثر المعارك بصورة شبه يومية على الجبهة، مما يؤدي إلى ارتفاع الضحايا، وهكذا في دوامة تبدو بلا نهاية، فقد جعل السيناريو الموت وكأنه عدو خفي يهرب منه كل الشخصيات، لكنه في لحظة ما يُباغت دون أدنى تحذير، وهذا ما يرغب الفيلم في قوله، أو هو بمعنى أدق يرسل رسالة تحذيرية عن الحروب، ويطرح سؤالا جوهريا عن جدوى القتال.
في النص الأدبي يقول البطل الراوي في أحد المشاهد عن الموت “إننا جميعا نشترك في الخوف من الموت، وإننا سواء في الاحتضار والنزع”. وفي الفيلم تبدو مواجهة الموت هي المعضلة التي تواجه البطل، ومن ثم يُمكن القول إن الصراع الدرامي هنا ليس قوامه الحرب بين القوتين الألمان والفرنسيين، لكنه يمتد لما هو أعمق، ألا وهو الصراع مع الموت، وبالتالي يُحيل الصراع بمعناه التقليدي أو المباشر إلى بُعد آخر يحوي من النزعة الفلسفية قدرا لا بأس به، ساهمت في ثقل الفيلم وإخراجه من عباءة الفيلم الحربي التاريخي، إلى أفق أكثر رحابة على مستوى الطرح الفكري، يبعث على التأمل والتفكير، وهذه سمة الأعمال الفنية الكبرى.
ولتمرير هذه الفكرة الفلسفية، لا بد من وضعها في إطار قصصي، وبالتالي غُلّف هذا الصراع الباطني بالتفريعات السردية التي تكشف عن التباين في فكر القادة وعقليتهم عن عقلية الجنود، فإذا كانت السلطة العسكرية ترى أن الحرب هي وسيلة للعيش واستمرار الوجود، فإن الجنود تختلف رؤيتهم التي تُعد انعكاسا لرغبتهم في الحياة والهروب من أسر المعاناة اليومية، وهذا الاختلاف الفكري الذي يُتَرجم فعليا في ميدان المعركة كفيلٌ بخلق نقطة حبكة تدفع السرد للأمام.
“أيها الزميل لم أكن أنوي قتلك”
“أيها الزميل لم أكن أنوي قتلك، لكنني أرى الآن للمرة الأولى أنك إنسان مثلي”. هكذا يُعبر بطل الرواية عن معاناته الروحية بعدما قتل عدوه الفرنسي، وفي الفيلم عندما يقع “بول بومر” في المستنقع الآسن مع هذا الجندي الفرنسي، فإنه لا يتورع عن قتله بوحشية، لكنه عندما يفيق من فعلته، يحاول مساعدة الجندي لاستعادة حياته، وهنا تُدرك الشخصية عبثية تلك الحرب ووحشيتها، وأن هناك من يستحق الاستمرار في الحياة.
فقد جعل السيناريو “بول” مضادا للبطل المعتاد في الدراما، أي أنه لا يحوي الصفات السائدة للبطل من ناحية الشجاعة وغيرها من السمات التي تضعه في أفضلية على باقي الشخصيات، بل بدا تقليديا ومفعولا به في كثير من الأحيان، لكن ما يُميزه عن زملائه هو حبه للحياة وإقباله عليها، ليس بحكم حداثة سنها فحسب، فتكوينه الداخلي مُشبع بالطاقة والاندفاع، لذا تبدو نظرته مغايرة عن ما حوله.
“بول بومر”.. جندي يجسد كوابيس الحرب
تبرز جمالية السيناريو في تقديمه للشخصية، فالأفلام الحربية أو التاريخية عادة لا تهتم بالبناء المتكامل للشخصيات الدرامية، على عكس الاهتمام الأكثر بالمشاهد القتالية، أما في فيلمنا فالشخصية واضحة المعالم، صحيح أننا لا ندرك تاريخها السابق، لكن تسلسل حياتها المتسق مع الحرب وما يدور بها، عوّض هذا الغياب.
نحن أمام أربعة أصدقاء تشترك دوافعهم في هدف واحد، وهو الاشتراك في الحرب، لكن يبقى التركيز الأهم على “بول بومر”، فالأحداث تدور من وجهة نظره هو، وكأنه يروي الحرب وذكرياتها من واقع رؤيته التي لا تُعد رؤية ذاتية، بل تتسع لتتحمل رمزية الشباب الألماني، أو بصورة أكثر شمولية الجنود في الحروب.
بالتالي يجعل السيناريو البيئة العامة للأحداث تنتمي كلية لعالم الحرب، فلا نكاد نرى سواها طوال مدة الفيلم، وقد نجح في خلق هذه الأجواء والتعبير عن كابوسيتها بأسلوب شديد الواقعية، ومُعبر لأقصى درجة عن القسوة التي تتولد تلقائيا من الحرب، فنرى الشخصيات الأربع، ونقترب منهم ومن عوالمهم وأحلامهم التي تصطدم بالقنابل والقذائف المصوبة نحوهم.
حينها ينشأ الخوف الغريزي من مواجهة الموت، فقد تناول الفيلم الخوف الإنساني عبر عدة مشاهد، مثل المشهد الذي نرى فيه “بول بومر” وقد أصيب برصاصة في خوذته الحديدة، حينها يظن أنه أصيب، ويدخل في نوبة هلع، تلك النوبة ستنتابه بكثرة في تناسب طردي مع الأيام المتوالية من الحرب، لتصبح خبرته المتراكمة نثرا منثورا أمام الخوف من الموت.
صورة الموت العابث بالنفسيات والأجساد.. أسلوب الإخراج
تكمن مهارة الإخراج في التعبير بأسلوب مبتكر عن الفكرة العامة المُدمجة بين سطور العمل الفني، وهكذا تتلاحم الدراما مع الأسلوب الإخراجي في وحدة عضوية متكاملة، وحين ننظر لهذا الفيلم نجد أن العناصر الفنية الأخرى لم تُغرد بشكل منفصل خارج السرب، بل بدت على العكس تماما، فكل منهما يُكمل الآخر في تناغم وانسجام كاملين، فالإيقاع منضبط للغاية.
لا يوجد مشهد زائد أو مشهد ناقص رغم أن الفيلم يقترب من الثلاث ساعات، ومع ذلك لا يشعر المتفرج بتسرب للحظات الملل، والسبب ليس في مهارة السيناريو وحده، لكن في القدرة على التعبير عنه وتجسيده عبر الصورة بأسلوب جذاب وبإيقاع متدفق.
أحجام اللقطات التي تتوزع بين المتوسطة الباعثة على التأمل في فكرة الحروب ذاتها، في مقابل الأحجام الصغيرة أو ذات الحيز الضيق المُعبرة عن مدى الحصار الذي يُعاني منه الجنود، أو إحساسهم بالمهانة والضآلة عندما تقتنصهم الكاميرا من أعلى من زاوية عين الطائر، في مشهد سير المركبات العسكرية المُدججة بأسلحتها، ورغم ذلك لا تزال ضعيفة ومُشتتة.
يقول المخرج الألماني “إدوارد بريغر” في معرض حديثه عن الفيلم: إن صناعة فيلم حربي ألماني يعني النظر إليه بشكل مختلف، لا يوجد أبطال في الحرب، كل موت هو موت رهيب، أرى أن مشاركة هذا المنظور قد يكون أمرا مثيرا للاهتمام، بطريقة ما يبدو أننا ننسى ماهية الحرب.
وقد نجح المخرج في تقديم معزوفة تأملية عن الحروب، لم تؤثر قسوتها في جماليتها، بل أضافت عليها بُعدا فكريا يبحث عن ما يُدرك مغزاه، ويُنصت لصوته المنادي بعبثية الحروب، تُرى هل من مُجيب، أم سيبقى كل شئ هادئا في الميدان الغربي؟