“وايركارد”.. احتيال وتبييض أموال وفساد يفضح فخر المالية الألمانية

قبل عامين تقريبا هزت فضيحة شركة “واير كارد” العملاقة لخدمات الدفع الإلكتروني وإصدار بطاقات الاتمان البنكي الأوساط المالية الألمانية بقوة، وأثارت معها موجة من الغضب عند المتضررين بسبب تلاعباتها المالية، إلى جانب بروز أسئلة أشمل تطال النظام المالي الألماني والمؤسسات القانونية التي تجاهلت طيلة سنوات الشكوك التي أحاطت بعمل الشركة، مما سمح لإدارتها بالاستمرار في تلاعباتها المالية التي توجت باختفاء قرابة ملياري يورو من سجلاتها الحسابية.
يسرد تفاصيلَ القصة هذا الوثائقيُّ الألماني الاستقصائي “وايركارد.. كذبة المليار يورو” (Wirecard: Die Milliarden -Lüge)، ويتتبع أولى خيوط كشف فسادها من خلال مقابلاته لعدد من الشخصيات التي ساهمت في الكشف عنها، وتعرضهم بسبب ذلك إلى التهديد بمحاسبتهم قانونيا بتهم إساءة السمعة، إلى جانب طردهم وتجريدهم من مراكزهم الوظيفية.
يمضي الوثائقي بعيدا في تحليل أسباب تهاون المؤسسات المالية والقانونية الألمانية مع فساد الشركة الذي امتد إلى ما يقارب عقدين من الزمن، فقد استطاع أصحاب الشركة خلال تلك المدة تنزيه سمعتهم وتقوية الوضع المالي لشركتهم التي أضحت واحدة من بين أكبر الشركات المالية الألمانية، ومع الوقت صارت رمزا لقدرة البلد على المنافسة في الحقل الاقتصادي الجديد؛ الحقل الرقمي، والمنافسة في أسواق البورصة العالمية.
أسرار الشركة.. فساد يطال فخر المالية الألمانية
ظل الغموض يحيط بهوية الأشخاص الذين ساهموا ولعبوا دورا مهما في الكشف عن فساد الشركة، لكن في سنغافورة وفي شهر سبتمبر/أيلول من عام 2020 حصل صانعا الوثائقي “بينجي بيرغمان” و”جونو بيرغمان” على موافقة “باف جيل” رئيس القسم القانوني في واحد من الفروع المهمة للشركة في سنغافورة على توثيق شهادته، وكشف الكثير من الأسرار التي أحاطت بعملها طيلة سنوات عمله فيها.
ستقود الحقائق إلى كشف خيوط اللعبة التي أدارها مؤسسها ومديرها التنفيذي “ماركوس براون”، ومعه شريكه النمساوي “يان مارساليك”، وستوسع دائرةُ الأسماء التي ساهمت في فضحهما طموحَ الوثائقي في رسم صورة شاملة ودقيقة لأساليب الفساد والتضليل التي مارستها الشركة، ثم أدت إلى سقوطها المُدوّي بعد أن أصبحت رمزا لنجاح ساحق افتخرت به المؤسسات المالية الألمانية كثيرا.

يثبت الوثائقي بالأرقام بعض تلك المعطيات، فقد وظفت الشركة 50 ألف موظف، وبلغت نسب أرباحها خلال السنوات الخمس الأولى 3000%، وفي السنوات الـ15 الأخيرة بلغت حوالي 40000%، وقبل أسبوع واحد من كشف فضحيتها بلغت مالية الشركة حوالي 14 مليار يورو.
مكاتب الادعاء.. غض الطرف عن فرس الرهان الألماني
بعد الفضيحة أفلست الشركة، وقُدم مديرها السابق إلى المحاكمة، بينما اختفى شريكه فجأة، وثمة معلومات تشير إلى دخوله إلى الأراضي البيلاروسية ومكوثه في البلد سرا. كل ذلك وقع سريعا، مما يدفعنا إلى السؤال: كيف حدث كل ذلك وبشكل غير متوقع؟
يحاول الوثائقي الإجابة على تلك الأسئلة من خلال تتبع الأحداث التي أدت إلى التشكيك بنزاهة عمل الشركة وفسادها رغم توسعها المذهل. يمضي الوثائقي أيضا في البحث عن الأسباب التي أخرت الكشف عنها في وقت مبكر.
إحدى الحقائق المؤدية إلى تأخرها تتمثل في تعامل السلطات المالية والسياسية الألمانية مع الشركة ومؤسسها على أساس وطني يعزز الروح القومية الألمانية، وذلك عبر إظهاره أمام العالم “بطلا قوميا”، وشخصية فذة استطاعت وضع البلد على خارطة الدول المتقدمة في مجال التقنيات المستقبلية، فقد وجدوا في نمو شركته وحصولها على مكانة بارزة في مجال الدفع الإلكتروني واستصدار بطاقات السحب البنكية باسمها “وايركارد”؛ نجاحا للدولة واستجابة منها لمتغيرات العصر، إذ يتطلب تجاورا متناسقا للإنتاج الصناعي التقليدي -الذي عُرفت به- مع الإلكتروني الحديث.
هذا يفسر تعامل المؤسسات القانونية مع الشركة بلين، وبشكل خاص مكاتب الادعاء العام الألمانية التي رأت في كل تهمة تطالها محاولة مقصودة للإساءة إليها، وخدمة لغايات تنافسية تهدف إلى تقليص مكانتها الدولية لا أكثر.
فخ المواقع الإباحية.. شركات نهب المتصفحين في الخفاء
يقابل صانعا الوثائقي مدونا ألمانيا ينشر ما يكتبه في مدونة إلكترونية باسم “جيجاجينغ”، يتحدث لهما عن تجربته الشخصية في كشف تلاعبات الشركة وإخفاء بعض نشاطاتها عن الأنظار، ويقدم أمامهما معطيات وكشوفا حصل عليها في عام 2003، أي قبل حصول الشركة على اسمها المعروف.

جاء ذلك بالصدفة بعد أن اتصلت به أخته واستفسرت منه عن السبب المحتمل لتسلمها فاتورة هاتف بمبلغ مالي أكبر بكثير مما اعتادت دفعه خلال سنوات. يكتشف أن ابنها المراهق كان قد تورط في الدخول إلى بعض مواقع بيع الجنس عبر مواقع إباحية إلكترونية.
ومن خلال بحثه الدقيق لاحظ أن شركات متعددة تعمل في الخفاء، حيث تخدع وتورط المتصفحين للمواقع بالانتقال إلى صفحات جديدة دون علمهم أو إرادتهم، لتجبرهم على دفع مبالغ تُضاف إلى فاتورة الهاتف، مقابل ما تقدمه من “خدمات جنسية” حسب زعمها، ويتضح أن من بين الذين يديرون تلك البرامج مؤسس الشركة اللاحق “ماركوس براون”.
“يان مارساليك”.. ذهن متوقد يدير اللعبة بأساليب مضللة
من التحري يظهر أن “ماركوس براون” قد أشرف على المجلة الإباحية المصورة “هوستلر”، وبعد فترة أسس موقعا جنسيا إلكترونيا يُلزم زبائنه بالدفع إلكترونيا، عبر نظام مبسط يسبق استصدار ما صار يعرف فيما بعد بـ”الدفع الإلكتروني بواسطة البطاقات البنكية”.
ولتوسيع نشاطه في مجال الدفع بالبطاقات الإلكترونية يتصل بشاب نمساوي يدعى “يان مارساليك”، فهو شاب ذكي وجذاب يملك ذهنا متوقدا وقدرة على التلاعب يصعب كشفها بسهولة، وسينتقل هذا الشاب إلى ميونيخ في ألمانيا، ويصبح العقل المدبر لمشروع “وايركارد” العملاق للدفع بالبطاقات الإلكترونية. ومنذ البداية أخذ يركز في مشاريعه الجديدة على تطوير ألعاب المراهنات الإلكترونية (المقامرة)، وعرض الأفلام الإباحية.

يكتشف “جيجاجينغ” أثناء بحثه أن أصحاب تلك الصفحات اعتمدوا منذ البداية على أساليب تضليل تُبقي هويتهم الحقيقية مجهولة، وذلك من خلال تأسيسهم لشركات فرعية متعددة تقوم عشرات منها بالتغطية على نشاط الشركة الأم.
لم يصدق أحد ما توصل إليه من حقائق، لأن الجميع كان مبهورا بالنجاحات المحققة في مجال الدفع بالبطاقات الإلكترونية، وبالأرباح التي تحصل عليها الشركة الألمانية، وتبلغ المليارات.
عالم البورصة.. هروب من تجريم المقامرة الإلكترونية
بإصدار الولايات المتحدة الأمريكية عام 2006 قانونا جديدا يجرم الدفع الإلكتروني لحسابات أصحاب مواقع المقامرة الإلكترونية والمواقع الإباحية، تحجم نشاط “براون” وشريكه، ومن أجل إيجاد بديل يدر أرباحا كثيرة عليهما، فقد ركزا جهدهما للعمل في حقل المضاربات المالية “البورصة”.
خلال فترة زمنية قصيرة ارتفع أسهم شركة “وايركارد” بشكل لافت، وخلال خمس سنوات صارت تنافس أكبر الشركات المستثمرة في حقل البورصة، مثل شركة “آبل” العملاقة، لكن المفارقة المصاحبة لنجاحهما في ذلك الحقل تكمن في استمرارهما سرا العمل في حقل المقامرة الإلكترونية.
يكشف عن ذلك نشاط “جيجاجينغ” وتقصيه المستمر لنشاطها السري الذي صار ينشر كل ما يحصل عليه من حقائق على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن صاحب الشركة لم يسكت، وقرر تهديده مباشرة للكف عن نشاطه.
يحضر أمام كاميرا الوثائقي ملاكم ومنظم مسابقات للملاكمة في ميونخ، ويدلي بشهادته حول دوره الذي كلفه به “يان مارساليك” لإسكات الأصوات التي تحاول كشف حقيقة ما يقومون به عبر التهديد المباشر بالتصفية الجسدية، ومن بين الذين هددهم المدقق القانوني والحسابي “توبياس بوسلر”، بعد أن لاحظ وجود خروقات مالية كبيرة وتزوير في سجلات الشركة، وعدم مطابقة تامة بين مصروفاتها ومداخيلها.
تأكد بالتدقيق من أن الشركة تتعمد إلى زيادة مصروفاتها الوهمية مقابل ما تحصل عليه في الواقع، وأنها لم تعلن عن أرباحها الحقيقية، لأنها كانت على الدوام تؤسس شركات فرعية تقوم بتبيض الأموال التي تحصل عليها بشكل غير قانوني من خلالها.
عمليات الشراء الوهمي.. خدعة تبييض الأموال
يتضح احتيال الشركة أيضا من خلال نشاط فرع وهمي يقوم بتبيض الأموال التي تحصل عليها الشركة الأم في مجال المقامرة الإلكترونية. صاحب هذه الشركة “مايكل شميت” يقيم في ولاية فلوريدا الأمريكية، ودوره يتمثل في إرسال ما هو مفترض أن يكون أرباحا مستحقة للفائزين في ألعاب المقامرة الإلكترونية.
ومن خلال تحري أجهزة الشرطة الأمريكية يتضح أن أسماء وعناوين الرابحين كانت كلها وهمية يكتبها بنفسه، ويعطيها عناوين بريدية وهمية أيضا. رغم كشف جانب خطير من عمل “وايركارد” غير المشروع، فقد استمرت المؤسسات القضائية والمالية الألمانية بتجاهل التهم الموجهة إليها، والغريب أنها كانت تدين المتقدمين بشكاوى ضدها، أو الذين يقدمون أدلة على تلاعباتها المالية بدلا من إدانة المشرفين عليها.
يحصل ذلك الشيء مع “ماثيو إيرل” البريطاني المختص في حقل كشف التلاعبات الحسابية للشركات المشكوك بفسادها. فقد دخل على خط كشف الفضيحة من خلال شكوى تقدمت بها شركة هندية لبيع تذاكر السفر عبر الجو، فقد عرضت “وايركارد” على أصحابها مبلغ 340 مليون يورو، مقابل نقل ملكيتها لها.
بعد فترة يكتشف أصحاب الشركة الهندية البريطانية أن الاتفاق كان موجودا على الورق لا أكثر، وأن عنوان الجهة المشترية كان عنوان أحد البيوت في لندن. يتضح من الصفقة الوهمية أن الشركة أرادت من خلالها تبيض ذلك المبلغ بعملية شراء وهمية.

يثير تصرف أصحاب الشركة حفيظة المدقق الحسابي “شميث”، وتدفعه للمضي في كشف الكثير من خروقاتها المالية الكبيرة. ينشر ما توصل إليه في تقرير حمل اسم “تقرير زاتارا” الذي ينبه فيه إلى حقيقة ما تقوم به الشركة.
الغريب في الأمر هو تصرف الادعاء العام الألماني، فبدلا من التحقيق فيما ورد فيه من ملاحظات ومؤشرات على فساد، فإنه توجه لكاتبه بتهمة “التشويه المتعمد لسمعة الشركة”.
فرع التبييض.. مكتب فارغ يديره شخص واحد
نفس المصير تقريبا سيواجهه مدير أحد الفروع الأساسية للشركة، ومقره في دبي، فقد اكتشف الدور الحقيقي الذي يقوم به الفرع الثانوي لشركته، وهو عبارة عن مكتب فارغ من دون موظفين يديره شخص واحد، مهمته تنحصر في تبيض أموال شركة “وايركارد”.
تجنبا للفضيحة المتوقعة يقوم الموظف بتهديد مسؤول القسم، مما يجبره على ترك دبي مع عائلته في جنح الظلام إلى أستراليا بلده الأصلي، وبينما كان الجزء البسيط من قمة جبل الفضائح يظهر للعلن، كانت الشركة تمضي في توسيع نشاطاتها التجارية التي توجت بتأسيس “وايركارد بنك”، البنك الذي تجاوزت ماليته وحجم مضارباته في البورصة أكبر البنوك الألمانية، وبلغ عدد المودعين فيه أموالهم والمستثمرين في أسهمه أرقاما قياسية.
https://m.facebook.com/watch/?v=414136966927460&paipv=0&eav=AfapGTZc7uZFrmwih7F0FlWO2QxbN5lP8uX0qytAILBybJtqdI8CXS9_jTm-7tZFIyM&_rdr
كما خطت الشركة في عام 2018 خطوة مهمة تمثلت في انضمامها إلى بورصة فرانكفورت، وعليه صارت جزءا من “مؤشر داكس” الذي وفر لها حق إصدار خدمات الدفع الإلكتروني وإدارة الأخطار لعملائه.
حقائق تجد طريقها إلى الصحف العالمية.. بداية السقوط
ما يجرى مع كل المُتحَرين والكاشفين لفضائح الشركة جرى مع “باف جيل” رئيس القسم القانوني في “وايركارد آسيا-باسفيك” التابعة لشركة “وايركارد” ومقرها سنغافورة، فبعد كشفه لما تقوم به الشركة من تلاعبات خطيرة وعمليات غسل أموال كبيرة، تعرض لتهديد جدي يطال حياته، كما أجبره مسؤولوه على تقديم استقالته.
شعرت والدته الشجاعة بالخطر الجدي الذي يهدد ولدها، لهذا قررت حمايته من خلال كتابة كل ما يعرفه وما توصل إليه من حقائق إلى صحيفة عالمية باسم مستعار، وقد أقنعت عددا من الصحفيين المختصين بشؤون المال والتجارة فيها بنشر تلك الحقائق، مما أجبر الجهات المالية والقانونية الألمانية على التحرك.
ظهر من تدقيق سجلات الشركة أن 1.9 مليار يورو قد اختفت فجأة منها، مما أدى إلى خسارة أعداد كبيرة من المودعين لمدخراتهم فيها، وأغلبيتهم من المتقاعدين الألمان، وقد ظن أصحاب الشركة أنهم بتكذيبهم ما نشر في الصحف سينجون بفعلتهم من العقاب، لكن الأمر كان مختلفا هذه المرة، لأن الجهات الرسمية الألمانية وجدت نفسها ملزمة بالتدخل وبإجراء تحقيقات تُقدم الجناة بموجبها إلى المحاكم، وهذا ما وقع بالفعل.
لا تنحصر أهمية الوثائقي المذهل والمتشعب في الكشف عن الحقائق فحسب، بل في فضح دور السياسيين الألمان والمؤسسات المالية والقانونية التي ماطلت وكذّبت كل الذين كشفوا تلاعبات الشركة منذ وقت مبكر، فمماطلتها ووقوفها إلى جانب الشركة أطال عمر فسادها أكثر من عقدين من الزمن، وقد صعدت في تلك الفترة عاليا، لكنها في النهاية هوت مثل حجر ثقيل.