“البركان”.. غضب الطبيعة يحول الرحلة السياحية إلى صراع من أجل البقاء

فيلم “البركان.. عمليات الإنقاذ في واكاري” (The Volcano: Rescue From Whakaari) الذي أنتج عام 2022؛ ينتمي بما يقدمه من مادة أفلام الكوارث إلى الجنس السينمائي الذي يبني قصته على كارثة طبيعية وشيكة مثل الزلازل والبراكين والحرائق، فينتزع المتفرج من اطمئنانه، وينقله من اعتقاده بأنسنة الطبيعة، أي ترويضها وإخضاعها، إلى الاصطدام بها ومواجهة غضبها.
ينتمي هذا الجنس إلى النمط الروائي عامة، لكن المخرج “روري كينيدي” وجد في وقائع ثورة بركان أوكلاند سنة 2019 مادة رحّلت أفلام الكوارث إلى الوثائقي، وأعفته من تكلفة بناء الديكورات والمؤثرات الخاصة التي تتطلب البرمجيات والحيل، وأعفت “أبطاله” من الجهد الذي يبذله الممثل لتقمص حالات الرعب. وليست كل هذه الهبات بلا ثمن، فقد طرحت سؤال هويته الوثائقية محل شك.
جزيرة واكاري.. قبلة عشاق البركان النابض بالحياة
تقع جزيرة واكاري في خليج بلنتي بالشمال النيوزيلندي، وتعيش هذه البلدة الهادئة حالة من التناغم بين مختلف أعراقها، فيبلغ عدد سكانها 38 ألفا، نسبة السكان الأصليين الماوريين منهم يبلغ دون النصف بقليل.
تستمد الجزيرة أهميتها التي تجعلها وجهة سياحية من قربها من بركان أوكلاند، فهي تبعد عنه ساعة ونصفا عندما يركب المسافر المراكب البحرية، أو عشرين دقيقة لمن يختار الرحلات الجوية.
ويعيش الخليج نشاطا بركانيا مُستمرا منذ 150 ألف سنة، ويعد أكثر البراكين نشاطا في العالم، ومنه تجد الأسطورة الماورية التي تقول إنهم ولدوا من الجبل كل مبرّرات الاستمرار، فأهل الجزيرة مدينون له بنشاطهم الاقتصادي، فهم يعيشون من رحلات السائحين الذين يزورون هذا العملاق الجيولوجي النابض بالحياة، وبسببه تمتد سلاسل الفنادق والمطاعم، وتنظم الرحلات السياحية والترفيهية.
عشّاق المغامرات وأصحاب الشغف.. وجهة جديدة للجزيرة
تُسهم طبيعة الجزيرة في انتخاب روّادها تلقائيا، فتستقطب عشاق المغامرات من أصحاب الشغف، ويثبت الفيلم عبر شهادات شخصياته ذلك، فالزوجان “مات” و”لورن إيري” أرادا من الرحلة أن تحتضن رحلة العمر بمناسبة شهر العسل، ثم يقود الشغف بالعلوم الزوج المحب إلى البركان، ويريد القس المتفرّغ “جوف هوبكن” الرحلة إليها هدية لابنته طالبة الجغرافيا.
أما عائلة “لانغفورد” المهوسة بالإثارة والمدمنة للمخاطرات فتقصدها لتجرب مغامرات جديدة، فهي تريد البركان الأخطر على وجه الأرض تحديدا، بعد أن جرّبت القفز من الأبراج والتجديف في الكهوف، كما يقود شغف المهنة المرشد السياحي “هايدن” والطيار “براين ديباو” إليها.
وبمنطق علوم السرد، تعيش هذه الشخصيات نقصا ما تكمّله بزيارة خليج بلنتي والذهاب إلى البركان، ولم يكن الأمر يقتضي غير الانخراط في العرض الساحر ومهرجان الألوان، لكن قيمة المغامرة التي تجعلها جديرة بأن تحكى تولد من المفاجأة التي كانت في انتظارهم، فقد كان للبركان نقصه الذي يعمل على سده، فقد كان يعيش حالة اختناق ويحتاج إلى جرعة هواء، فماذا يحدث حينما تتنفّس البراكين؟
ربما بسبب أن هذه الرحلة الاستثنائية ستكون الأخيرة للكثير منهم، فقد وقعت مصادفات كبيرة، فـ”هايدن” المرشد السياحي النشيط والخبير والشخصية المهمة في الفيلم -بفضل التسجيلات التي خلفها في أجهزة مرافقيه بعد موته- كان يحتفل برحلته رقم 1111 إلى البركان، وبالمقابل كان المتدرب تحت مراقبة “هايدن” الشاب “تيبيني” يخرج في الرحلة السياحية الأولى تعويضا لأحد المرشدين المتغيبين، ومثله كان الطيّار “براين ديباو” يقوم برحلته المهنية الأولى التي يُسمح له فيها بنقل الركاب بمفرده بعد أن قام بالتربصات اللازمة، واكتسب الخبرة الضرورية.
دخول أرض البركان.. عالم الخيال الساحر الذي يسبق الكارثة
تتمثل الرحلة في مسار دائري قصير يبدأ من الشاطئ ليصل إلى فوهة البركان، ثم يعود عبر مسار مواز إلى المرسى من جديد، ويصف المشاركون دخولهم أرض البركان بالانخراط في “عالم سريالي”، أو باقتحام أرض فيلم “الحديقة الجوراسية” (Jurassic Park) لـ”ستيفن سبيلبرغ”، ويشبهونها بالمريخ، نظرا للونها الداكن ولانعدام الغطاء النباتي بسبب الرماد المتساقط، كما أن فوهته تجذب الجميع، فيطلون عليها ويلتقطون الصور ويتقاسمونها مع أصدقائهم على منصات التواصل الاجتماعي.
ويتمثل الجانب السريالي منها في الكبريت الذي يتحول إلى كويرات بيضاء وصفراء وخضراء بفعل البخار، وفي الجداول المائية الساخنة التي ترسم أثرها على الصخور بألوان مشرقة، فيزيدها الالتماع تحت الشمس وسط الفضاء الرمادي جمالا، وفي البحيرة الحمضية التي تتصاعد فقاعاتها وتنبعث غازاتها.
ولا يسرف الفيلم في وصف الفضاء الساحر إلا ليجعل الانقلاب في سير الأحداث إثر هيجان البركان المفاجئ أكثر حدّة.
“كأنَّك في جَفنِ الرَّدى وهو نائمُ”.. قنبلة البركان الوديع
لم تكن وداعة البركان المحتضنة للزّوار إلا وهما خادعا، فلم يكن يظهر منه فوق سطح البحر غير الجزء الصغير الهادئ رغم البخار المتصاعد، أما في الأسفل تحت سطح الماء، فتتفاعل الحمم، وكويرات الكبريت بلوراتها المعدنية ذات الألوان المبهجة التي تتشكل على حوافه تتجمع في داخله أيضا، وبتضاعفها في كل حين تسدّ “قصباته” وتكتم “أنفاسه”، ويتحوّل الجبل الصلب إلى بالون منتفخ.
توجد في أسفل البركان قنبلة موقوتة، ولأن معظم أجزاء البركان توجد أسفل الماء، تغدو مهمة العلماء وضع المعدات المساعدة في تحسين توقعاتهم بشأنه مستحيلة.
لا يسعني أنا المحبّ لشعر المتنبي عند رؤية صور زوّار البركان النائم إلا أن أستحضر بيته في مدح سيف الدولة قائلا:
وَقفتَ وما في الموت شَكٌّ لواقفٍ
كأنَّك في جَفنِ الرَّدى وهو نائمُ
ولم يخبرنا المتنبي بما يمكن أن يحدث مع سيف الدولة لو قام الرّدى من رقاده، لكن الوحش الكاسر في قصتنا هنا ينهض بالفعل، ويواجه المغامرون قدرا خفيا، فالبخار المتصاعد بكثافة يفضي وقد انسدت مخارج البركان إلى الانفجارات المتتالية، مخالفا كل التوقعات، فقد كانت المؤشرات تشير إلى خطر من المستوى الثاني، وهو مؤشر آمن.
“لا شيء يستحق التوثيق”.. انتفاض الطبيعة الغاضبة يقلب المشهد
تُختتم التقارير الإدارية السعيدة -التي لا تحمل ما يزعج الموظفين- بـ”لا شيء يستحق الإشارة” (Nothing To Report) العبارة في الإنجليزية بـ(ntr) والفرنسية بـ(ras). وقياسا عليه يمكننا أن نقدّر في هذه الجزيرة الهادئة أن لا شيء يستحق التوثيق، لكن كان للبركان رأي آخر حوّل الرحلة السياحية الممتعة في العالم السريالي الخارق إلى مأساة يواجه فيها الإنسان الطبيعة الغاضبة، فتمتد أمامه مسافات من الرعب والفظاعة، فيهيج البخار، ثم تحدث انفجارات متتالية، ويرتفع عمود الرماد إلى نحو 3.7 كيلومترات في السماء، فيبدو كما لو أن المكان ينتفض لاقتحام الإنسان عليه عالمه وانتهاكه لحرمته. هكذا يقول أحد الناجين من الكارثة.

إذن كان الحدث مهيبا وجديرا بفيلم يوثق ما وقع، ولعل قيمته المضاعفة تأتي من الفيديوهات التي جمعها من تسجيلات الناجين، فهي تدون الانفجار وحالات الهلع من أماكن تصوير متباعدة ومن زوايا مختلفة، وكان بعضها تلقائيا يصوّر لحظات الهروب دون تأطير أو قصد، فأصحابها الذين كانوا يصورون المشاهد تركوا أجهزتهم مفتوحة وهم يهربون، فضاعوا في الظلمات وسحائب الرماد واصطدموا بنتوءات الصخور.
لقد خلق الإنسان السينما لتدوين لحظات من الزمن، ويبدو أن الهواتف الذكية خلقت لتدوين الزمن كلّه.
مصائر الشخصيات.. إنسانية تخنقها غريزة البقاء
يعرض الفيلم مصير شخصياته، فالعائلة المغامرة تقضي نحبها ولا ينجو إلا الشاب “جاس” الذي يسرد علينا آخر لحظاته مع عائلته، فالأم تلقى حتفها مباشرة، والأب المحتضر يتضاءل صوته شيئا فشيئا ثم يختفي، والأخت تُفقد فلا يجد لها أثرا.
ويعرض علينا سقوطه بين المحتضرين مسلوخي الجلود، ثم تمزّقه بين البقاء مع أبويه الميتين أو النجاة، وحينما تغلب عليه غريزة حب البقاء يكون السير على الماء مع الجدول الساخن ورحلة عذاب، ويعرض تجربة الزوجين العاشقين وموت “هايدن” والمتدرب.
ومما فاقم الأزمة أن السلطات أعلنت رسميا أن الجزيرة غير آمنة، وأن انفجارات أخرى يمكن أن تقع في كل حين، وهذا يعني ضمنا عدم تقديم الغوث للمصابين، ليتولى المشاركون في الرحلة القيام بالدور بأنفسهم.
ويستمر الفيلم في عرض أعمالهم البطولية، فبعد الهرب (وهو ردّة فعل غريزية) يعود أغلبهم أدراجه لإنقاذ العالقين أو المصابين بسب هيجان البركان، فمثل الانفجار اختبارا كبيرا لإنسانية الإنسان وردة فعله في حال الخطر، وفي الوقت نفسه مثّل الفيلم نظرة مختلفة للإنسان ولقيمه في عالم بتنا نفتقد فيه لنبضنا الإنساني بفعل هيمنة المادة والمصالح الخاصة علينا.
السينما الوثائقية.. عودة إلى الصدارة الجماهيرية
نشأت السينما وثائقية أولا، مهوسة بالانفتاح على الواقع، وبعد أن انتزع الفيلم التخييلي منها قصب السبق عادت وبدأت تشهد صعودا واضحا، فلم تعد تشهد طفرتها الكبرى، فتنتزع جمهورها وتختطف جوائزها في التظاهرات السينمائية، وتستقل بأخرى فحسب، بل إنها تحتكر من عدة فضائيات حيّزها الزمني كله.

كما أننا تجتذب كبار المخرجين، فتكاد تصرفهم عن غيرها من أنماط السينما، مشكّلة جمهورها الخاص ناحتة آفاقا مخصوصة للتقبّل دون سبب. فهي يهتم بثقافات الشعوب في تنوعها وتميزها، فتعود إلى الوراء لمساءلة الذاكرة الإنسانية البعيدة، مقدرة أننا كلما أوغلنا في معرفة إنسان الماضي بتنا أقدر على معرفة إنسان اليوم.
وقيمة فيلم “البركان.. عمليات الإنقاذ في واكاري” هي في التقاطه لهذه اللحظات المفعمة بالإنسانية التي قد يعجز دونها الروائي، ففيه يظل المتفرج مقتنعا بأن ما يجري أمامه مبالغةٌ يقتضيها الخيال.
تهجين الوثائقي.. رغبات المشاهد تمحو الخط الفاصل
ينتبه المتمعن في أحداث الفيلم بلا شك إلى أن مجريات الأمور تدبر أحسن التدبير، وفق حبكة تصاعدية فاتنة، من عرض الفضاء وتقديم الشخصيات إلى الحدث المهيب وصراع العالقين في الرماد ضد الموت، إلى النهاية التي يكون بعضها سعيدا والآخر مأساويا.
ويلاحظ أن المخرج يسعى إلى إدراج عدد من المؤثرات الدرامية لجعل الفيلم عاطفيا، ويصطنع بعضها اصطناعا، فيورد قصصا لبطولات المسعفين ومخاطرتهم بحياتهم من أجل المصابين، ويخرج عن معهود المقاربات الوثائقية التي تتبنى غالبا مقاربات موضوعية تعتمد أساليب الحجاج والإقناع، وتستثمر مختلف الشهادات والموارد البصرية لتحقيق هذه الغاية.
ولا يكاد يختلف عن الفيلم الروائي من جهة خلق الحكايات وحبكها وفق سيناريو الفيلم الروائي النمطي، وما ذلك إلا لتوليد التشويق واجتذاب متفرجين من غير الثقافة السينمائية وتقاليدها. ويبدو جليا أن الإنشاء في الوثائقي يواجه منافسا جديدا يهدد بفقدانه لهويته، بعد أن ظهر التلفزيون وجعل المادة الوثائقية توجَّه إلى عموم المتفرجين، ويعمل على حيازة رضا (الجمهور الواسع) يجعلها غاية ووسيلة.
وحالما تتحقق هذه الغاية ويتسمر الجمهور أمام الشاشة الصغيرة، تبدأ الوسيلة في الاشتغال، وتأخذ القناة في عرض حزمة الإعلانات الدعائية، ثم عبر التشويق والإثارة تستدرج المتفرج ليرابط مكانه، فيكون هدفا لحزمة جديدة.
ها هي ذي منصات العرض على الإنترنت تصبح بدورها مؤثرا في كيفية تشكيل الأفلام، فما نلاحظه في وثائقيات السنوات الأخيرة هو تهجين الوثائقي ليتحول إلى القص ومخاطبة المشاعر، بدل التفسير والنقاش وعرض وجهات النظر المختلفة، استجابة لتطلعات وافديه الجدد.