“كانافال”.. رقصات وطقوس تزين تاريخ هايتي منذ عصر الاستعمار

لا يوجد الفيلم الوثائقي في الفراغ، بل من الطبيعي أنه يعبر عن رؤية صانعه، لكن ما يميز فيلما عن آخر هو قدرته على استخدام الصورة لرواية تاريخ بلد ما، والتعبير عن هويتها من خلال الأشكال الفنية المتعددة التي تجتمع معا في بوتقة واحدة، ويصبح الفيلم أكثر إمتاعا عندما يصور بعبقرية تاريخَ العبودية والقهر والاستعمار من خلال “الكرنفال”، حيث الرقص والغناء واتخاذ أشكال وصور تعبيرية ترمز لكل مرحلة.

هذا تحديدا ما يميز فيلم “كانافال: تاريخ شعب هايتي في ستة فصول” (Kanaval: A People’s History of Haiti in Six Chapters)، وقد اشترك في إخراجه “لي جوردون” و”إيدي هاتون ميلز”، وصُوّر معظمه في مدينة جاكميل، وهي الميناء الواقع جنوب هايتي، قبل وأثناء الكرنفال السنوي الذي تموله الدولة جزئيا، ويتطوع الناس بالمساهمة فيه بإبداعاتهم وأشكالهم الفنية المبتكرة. الهدف هو الإبقاء على الذاكرة الجماعية حيّة في وجدان الشعب، والتذكير بعهود الاستعمار والاستغلال والعبودية، وفي الوقت نفسه كيف كانت المقاومة الشعبية المباشرة وغير المباشرة لوجود الاستعمار.

“كانافال” هي الكلمة التي ينطقها سكان هايتي، ويقصدون بها “الكرنفال” أو الحشد الشعبي الاحتفالي، وهو تقليد ديني كاثوليكي أصلا، لكنه يتخذ معنى مختلفا تماما في السياق الخاص بالجزيرة وتاريخها.

بعثة “كولومبوس”.. فاتحة الحملات الاستعمارية في البلاد

ينقسم الفيلم إلى ستة فصول، يحمل كل منها اسم الفرقة أو الجماعة التي تقدم شكلا مميزا في الكرنفال، وتروي من خلاله جانبا من تاريخ هايتي، مع تقاليدها الخاصة في الحكي والتعبير بالرقص والموسيقى، وحركات الجسد، واستخدام الأقنعة الورقية والريش، وطلاء الوجوه بالضبعات الملونة.

يبدأ الفيلم برواية تاريخ الاستعمار مع وصول بعثة “كريستوفر كولومبوس” (عام 1492) التي لا يعتبرها السكان بعثة “استكشاف”، بل حملة “استعمارية” تهدف لنهب بلاد كان سكانها يعيشون عليها آمنين، ثم بعد ذلك جاء عهد الاستعمار الفرنسي الذي توسع في استيراد العبيد من أفريقيا ونقلهم إلى سان دومنيغو، وظل في هايتي لعدة عقود، إلى أن جاء الاستعمار الأمريكي للجزيرة في 1915 وظل قائما لعقدين من الزمان.

الكرنفال.. تاريخ من التقاليد والرقصات التعبيرية

يستخدم مخرجا الفيلم في رواية تاريخ الجزيرة كثيرا من النقوش والرسوم والصور الفوتوغرافية من الماضي الاستعماري، ومن الكرنفال في تاريخه السابق، ويحرص الذين يحتفلون اليوم على استعادة تقاليده. وإضافة إلى ذلك، نشاهد في الفيلم الكثير من اللقطات التسجيلية من الأرشيف.

يلعب المونتاج دورا أساسيا في الربط بين هذه اللقطات والمواد المختلفة، وينتقل بالسرد في سلاسة تامة، بحيث يخلق إيقاعا شعريا يخفف من قسوة الماضي، ويقرب الأفكار المطروحة في الفيلم من المشاهدين الذين لم يطلعوا على تاريخ هايتي، من دون أن يخل بالتسلسل الزمني للأحداث والمحطات المختلفة في التاريخ التي تجسدها المجموعات المختلفة (ذات الأسماء المميزة) بالرقص التعبيري الشعبي الموروث.

يصور الفيلم كيف يثير التعبير بالرقصات والأقنعة والتعليق الصوتي من قبل الراوي حماس الناس، وكيف يندمجون مع الفرق التي تخصصت في تقديم الأوجه المختلفة لتاريخ هايتي، وكيف يصبح الماضي ذكرى لا يجب أن يغيب بعد كل ما قدمه الشعب من تضحيات خلال المقاومة العنيدة للوجود الأجنبي.

ويثير التفاعل بين الناس البسطاء والأشخاص المدربين الذين يحفظون تقاليد الكرنفال الكثير من الشجون، وهنا يصبح الكرنفال مناسبة لاستعادة الفولكلور والاحتفاء به أيضا، تماما كما أنه احتفال بالحرية.

“الفودو”.. طقوس دينية أفريقية في الشتات

يركز أحد فصول الفيلم الستة على الممارسات الدينية الأفريقية في الشتات، أي تلك الطقوس التي ابتكرها الأفريقيون بعد نقلهم من أوطانهم في أفريقيا وتشغيلهم عبيدا في المزارع في هايتي، وهي طقوس دينية تعرف بـ”الفودو” (Vodou)، وتعتبر عنصرا أساسيا في التجربة الهايتية.

الفودو هي واحدة من الطقوس الدينية التي ابتكرها الأفريقيون بعد نقلهم من أفريقيا إلى هايتي

ويتحدث أحد المساهمين المحليين عن هذه الطقوس الدينية بوصفها ركنا أساسيا في الوعي الشعبي لدى سكان الجزيرة، وتتحدث امرأة عن العلاقة بين هذه الديانة وبين السحر الأسود، وكيف أصبحت من وسائل التحريض على المقاومة، ثم تحولت هذه الطقوس إلى أيقونات ودمى يشارك بها المحتفلون في الكرنفال أيضا.

“الزومبي”.. أسطورة الموتى الأحياء في عصر المقاومة

يتوقف فصل آخر من فصول الفيلم أمام أسطورة “الزومبي”، أي الموتى الأحياء الذين ينهضون من الموت ويسيرون ليخيفوا الناس، وهي أسطورة أخرى يستعيدها السكان المحليون ويروون أنها استخدمت ضمن المقاومة، ثم استخدمها المستعمرون في سياق عنصري مقصود للتخويف، بعد أن روّجوا لفكرة أن “الزومبي” يطاردون ويتعقبون النساء الأوروبيات، وأنها ديانة بدائية همجية نتاج عقل بدائي.

يقول أحد المعلقين في الفيلم وهو يتأمل في تاريخ هايتي المضطرب الذي يتضمن في العصر الحديث شخصيات ديكتاتورية مثل “بابا دوك” (فرانسوا دوفالييه) وابنه “بيبي دوك؛ إنه في بعض الأحيان يرى أنه بدون الكرنفال كان يمكن أن يفقد الكثير من الناس عقولهم، ويعلق شخص آخر قائلا: إن أسطورة الزومبي تعكس خوفنا من أن نصبح مستعبدين مرة أخرى.

يتابع الفيلم في سياق بصري أخّاذ كل مجموعة من المجموعات أو الفرق التي تستعد قبل أشهر من موعد الكرنفال، للمشاركة في هذا الحدث السنوي، عن طريق تصميم الملابس الخاصة المزركشة والأقنعة.

أسنان البقر يستخدمها الناس كشكل تنكري في الكرنفال

ويجري المخرجان المقابلات من وراء الكاميرا مع قادة هذه الفرق، ويستعرضان تاريخ نشأتها ومغزاها ومغزى علاقتها بأحد جوانب التاريخ الهايتي، وكيف ترتبط بالتسلسل مع غيرها من الفرق.

ويتحدث الرجال والنساء الذين تجرى المقابلات معهم، حول مغزى الكرنفال، وهم يرتدون الأزياء التي صنعت من أجل هذا الحدث، ويستفيضون في وصف الأهمية التاريخية وراء ملابسهم. ويبدو لجميع الأدوات التي يستخدمونها مغزاها الخاص، مثل قرون وأسنان البقر، والمواد التي يطلون بها أجسامهم.

ثورة هايتي.. ثمن الاستقلال الباهظ يرهق الاقتصاد

من خلال الرقصات يستعرض الفيلم المراحل المختلفة من تاريخ هايتي ومن أهمها الثورة الهايتية التي وقعت في عام 1791 وأرغمت فرنسا على الرحيل عن الجزيرة بعد عقود من الاستعمار، لكن الفرنسيين اشترطوا أن تدفع لهم هايتي تعويضات بقيمة 150 مليون فرنك فرنسي مقابل الحصول على الاستقلال، وهو ما أرهق هايتي ودفعها إلى الوقوع في الديون التي ظلت تثقل كاهلها حتى عام 1947، عندما تمكنت من سداد باقي المبلغ. ويستعرض الفيلم بالصور ولقطات الأرشيف، كيف تسبب هذا المطلب الاستعماري الغريب في إرهاق اقتصاد هايتي على المدى البعيد.

من مزايا هذ الفيلم الخلاب في صوره ولقطاته الفريدة، وألوانه وموسيقاه؛ السيطرة المدهشة على الإيقاع، والانتقال السلس بين اللقطات المصورة بالأبيض والأسود إلى الألوان، ومن الماضي إلى الحاضر وبالعكس، ومن الأغاني والرقصات إلى المقابلات المباشرة في المواقع الحقيقية للكرنفال، وتتدفق الصور على إيقاعات الطبول، كما تصبح حركة الكاميرا جزءا من الصورة.

يستخدم مخرجا الفيلم “غوردون” و”هوتون ميلز” أيضا اقتباسات بليغة من أقوال شخصيات مشهورة في الماضي الثوري لهايتي، مثل “توسان لوفرتور” زعيم الثورة في هايتي وأول حاكم للبلاد بعد رحيل الاستعمار الفرنسي طبقا لدستور البلاد في 1805، و”جان جاك ديسالين” الذي كان جنرالا في الجيش الفرنسي من سكان الجزيرة، ثم انقلب على الفرنسيين وانضم للثائرين عليهم وأصبح من قادة الثورة.

قرون البقر تستخدم كرمز للمقاومة عند بعض الفرق المحتفلة

يقول الفيلم إن 75% من ثروة فرنسا جاءت من استغلال هايتي وسكانها الذين سخرتهم واستعبدتهم، لكن الفيلم ليس من تلك الأفلام التي تستخدم أسلوب التلقين، بل يترك المشاهد يستنتج من خلال الصورة التي يعرضها.

استعادة الذاكرة الجماعية.. سرد التاريخ بجراحه وألوانه وأساطيره

إن تاريخ الجزيرة يُروى هنا من منظور أولئك الذي ما زالوا على قيد الحياة ممن عاصروا فترات سابقة، ومن خلال الذاكرة الوطنية المدهشة، فنحن نتابع التاريخ بكل جراحه وخيالاته وأساطيره.

الفيلم في المحصلة النهائية هو تعبير رمزي عن التاريخ، يمزج بين التعليق غير المباشر والتداعيات، في شكل أقرب ما يكون إلى السينما المباشرة أو “سينما الحقيقة”.

ولعل أفضل ما ينقله لنا الفيلم أنه يصور كيف يساهم “الكرنفال” في توحيد المشاعر، وتوحيد الفرق والقبائل المختلفة نحو مركز موحد للوعي الاجتماعي والسياسي، من خلال استعادة الذاكرة الجماعية.


إعلان