“الأميرة الحمراء”.. ألاعيب امرأة كوريا الشمالية القوية ويد الزعيم اليمنى

“كيم يو جونغ” هي أول امرأة في تاريخ كوريا الشمالية الحديث تبرز على واجهة المشهد السياسي، وتحظى بنفوذ كبير قد يؤهلها مستقبلا لتصبح زعيمة للبلاد خلفا لأخيها “كيم جونغ أون”، لما تتمتع به من مواصفات شخصية، إلى جانب كونها من عائلة “كيم” الحاكمة التي شرعت في التمهيد منذ عقود لتكريس نظام حكم وراثي أشبه بالملكي، تنتقل السلطة بموجبه من وريث إلى آخر.

وثائقي المخرج والصحفي الفرنسي “بيير هاسكي” وعنوانه “الأميرة الحمراء” (Red Princess) يشير ضمنا -عبر وصفها بالأميرة- إلى مفارقة تاريخية متأتية من كون الشيوعيين الكوريين الشماليين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد حكموا البلد بأسلوب اتسم بالاستبداد والتفرد في اتخاذ القرارات الحاسمة والتحكم المطلق بإرادة الشعب.

لهذا كان واجبا على صانع الوثائقي الطامح لرسم بورتريه بصري جيد لها أن يؤطر شخصيتها، بمراجعة تاريخية وافية للسلطة ورجالاتها الذين هيمنوا على المشهد السياسي الكوري الشمالي لعقود، ويربطه بصراعاتهم وطموحاتهم السياسية الحالية في امتلاك ترسانة نووية، إلى جانب تبيانه لدور المرأة “الخفي” في كل ذلك.

“كيم يو جونغ”.. قائدة البلاد أثناء مرض الزعيم

ينطلق الوثائقي من اللحظة التي قدمت فيها “كيم يو جونغ” نفسها بشكل مؤثر أمام اللجنة المركزية لحزب العمال الكوري، بوصفها زعيمة سياسية حكمت البلد بنفسها، خلال الفترة التي أصيب فيها أخوها بمرض كورونا.

في خطابها أمام اللجنة التي تولت منذ فترة وجيزة منصب نائبة رئيسها اتضحت شخصيتها، فهي زعيمة سياسية قوية، لبقة وصارمة، لا تبيح بما تبطن، تعرف كيف تؤثر على الناس وتدفعهم للتعاطف مع كل ما تقوله.

لم تنسَ في خطابها إبراز دور شقيقها عبر تأكيدها بأنه رغم مرضه الشديد ظل يفكر بالشعب الكوري، وبالكيفية التي يستطيع بها مساعدته في تجاوز الوباء الذي أضر به كثيرا. قيادتها للبلد وحدها من دون وجود الزعيم الفعلي للبلد معها وخلال فترة عصيبة مر بها عزز مكانتها السياسية، وزاد من ثقة أخيها بها.

يعود صانع الوثائقي إلى السنوات التي سبقت خطابها، وكيف رسمت لنفسها مسارا محددا تمضي فيه بحذر شديد، وتقدم نفسها على الدوام كأخت صغيرة للزعيم، تقوم بكل ما يُعينه على قيادة البلد، وتضحي بكل شيء من أجله، فمنذ تولي أخيها وهو في منتصف العشرين من عمره زمام السلطة بعد وفاة والده “كيم جونغ إيل” بالسكتة القلبية ظلت قريبة منه، تدعمه وتقدم له النصيحة والمشورة الذكية.

حكم اليافعين المترفين.. انطباع أوّلي تكسره قيادة البلد

خلال السنوات العشر الأولى من حكم أخيها لم تظهر “كيم يو جونغ” للعلن، بل ظلت تقف خلفه، وفي المناسبات العامة القليلة التي ظهرت فيها حرصت على البقاء بعيدا عن الأضواء، وخلال ذلك لم تعد بالنسبة إليه الأخت الصغرى فحسب، بل يده اليمنى التي تساند دوره السياسي، وتقدر مكانته بوصفه ممثلا للجيل الثالث من سلالة عائلة “كيم”.

ولمراجعة المرحلة الأولى من استلام أخيها للسلطة ووقوفها إلى جانبه، يستعين صانع الوثائقي بشخصيات كورية كانت قريبة منهما، مثل الكاتبة “لي سونغ يون” التي ألّفت كتابا عن حياة “كيم جونغ أون”. تؤكد فيه أن قادة الحزب كانوا ينظرون إليهم بادئ الأمر بوصفهم “يافعين” تنقصهم الخبرة، وأن وجود أخته الصغيرة في المشهد لا يتعدى كونها فتاة مترفة نشأت في كنف عائلة حاكمة.

“كيم يو جونغ” هي الذراع اليمنى لأخيها الزعيم “كيم جونغ أون”

هذا الانطباع لم يدم طويلا، فقد أخذ الزعيم الشاب يلعب دوره حاكما فعليا للبلد، كما أنها أخذت بفضل الثقة المطلقة التي يمنحها لها بالصعود السياسي السريع، ونالت بفضله أرفع المناصب خلال فترة قصيرة.

وبوصفه زعيما سياسيا ديكتاتوريا فرديا لم يكن بمستطاعه إدارة وتنفيذ كل مهام السلطة بنفسه، لهذا أوكل لأخته مسؤولية الكثير منها. مكانتها كامرأة، وكثرة المهام المكلفة بها جعلتها حالة نادرة، وخروجا عن التقاليد الذكورية الموروثة في قيادة البلد.

أيام الدراسة في سويسرا.. بداية التقارب العميق في بلاد الغرب

يُحيل البحث والتقصي عن أسباب توفر الثقة بين الأخوين إلى عدة عوامل، من بينها أنهما من نفس الأم، فوالدهما الزعيم السابق “كيم جونغ إيل” تزوج ثلاث نساء، له منهن خمسة أطفال، فقد أنجبت زوجته “كوي جونغ هي” التي أحبها كثيرا ثلاثةَ أطفال، وكان من المفترض أن يتولى ابنها الأكبر السلطة بعد وفاة زوجها، لكن الاختيار وقع على الابن الأصغر “كيم جونغ أون” بدلا منه، نظرا لكون العائلة ترى عدم قدرة الابن الأكبر على لعب هذا الدور.

العامل الآخر المؤثر هو دراستهما معا في سويسرا، حيث يكشف الوثائقي عن معلومة غير معروفة على نطاق واسع تشير إلى سفرهما بين الأعوام 1996-2001 للدراسة في المدارس السويسرية، فخلال السنوات التي أمضياها فيها كسبا معارف غربية، وتجولا في عدة دول أوروبية، وتعرفا على أنماط الحياة فيها.

في تلك الفترة عاشا صديقين مقربين، وهذا التقارب يفسر موافقتها ومشاركتها له في كل الجرائم السياسية التي ارتكبها، ومن أكثرها بشاعةً اغتيالُ أخيه غير الشقيق “كيم جونغ نام” عام 2017 في مطار كوالالمبور، كما وافقته على تصفية وزير الدفاع بعد أن صار يشكل تهديدا لهما.

دورة الألعاب الشتوية.. سياسة الانفتاح السلمي مع الجيران والغرب

ثقة الزعيم الكبيرة بأخته توّجها بإرسالها ممثلةً له في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 2018، ولأول مرة منذ الحرب الباردة سار الجانبان الشمالي والجنوبي بوفد رياضي موحد، ويحملون علما واحدا يمثل شبه الجزيرة الكورية.

هذا الحدث التاريخي استغلته “كيم يو جونغ” أفضل استغلال، فقد قدمت نفسها خلاله سيدةً وزعيمة سياسية مرموقة، تمثل بلدها وتتصرف بحذر شديد يجنبها الوقوع في الأخطاء، حتى انبهر الجنوبيون بمظهرها وقوة شخصيتها، وغطت وسائل الإعلام تفاصيل زيارتها، واعتبرها سياسيو الجنوب ممثلة لاتجاه جديد في الشمال ينشد نهج سياسة سلمية معهم.

لقد نسبوا الزيارات التي تبادلها رئيسا البلدين إلى دورها وترتيبها لها خلف الكواليس، وفي الغرب أحال سياسيوها التقارب الحاصل مع الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس “ترامب” ومرافقتها لأخيها أثناء زيارته لها إلى دورها النشط في إقناعه بأهمية ذلك الانفتاح لبلدها الذي يعاني من عزلة شديدة.

انقلاب السلوك.. نهاية شهر العسل تصدم العالم الخارجي

فجأة ظهر أن شهر العسل مع الجارة الجنوبية والتقارب مع العدو الأمريكي لم يدم طويلا، فبعد أشهر قليلة من الزيارات والترحيب الإعلامي الذي ارتفع بسببه منسوب الأمل بانفراج قريب، خرجت بنفسها لتنسف كل ذلك، من خلال مهاجمتها للجارة الجنوبية ونعتها بأشد النعوت قسوة.

وبعد ما كان يظنه “ترامب” نجاحا محققا له، بإيقاف البرنامج النووي الكوري بشكل نهائي؛ اكتشف خذلان ما ظن، فقد رفعت كوريا الشمالية على العكس من ذلك وتيرةَ تجاربها النووية، وطورت صواريخها الباليستية بعيدة المدى.

وفي الواجهة وقفت السياسية الشابة وقدمت نفسها للداخل الكوري بصورة مختلفة تماما عن تلك التي قدمتها للغرب أثناء زياراتها السابقة، فقد تعمدت للظهور كسياسية متشددة تنتمي إلى نفس المدرسة الاستبدادية الكورية القديمة.

سلوكها السياسي يطرح على المشاركين في الوثائقي سؤالا مهما: لماذا فعلت كل ذلك؟

وهم التخلي عن النووي.. خطة المرأة التي خدعت الغرب

يعتبر بعض المشاركين فيه -وجُلّهم من المختصين بالشأن الكوري- أن ما فعلته “كيم يو جونغ” كان عبارة عن خدعة نجحت بها بإيهام خصومها بجدية نيات كوريا في التخلي عن طموحاتها. وكانت غايتها من الوجود على أرض “العدو” هي معرفة الموقف الغربي من بلدها عن قرب، وأيضا لتوصيل انطباعاتها الميدانية عن قادتها وطريقة تفكيرهم ونقاط قوتهم صراحة إلى أخيها من دون خوف، على عكس بقية السياسيين والدبلوماسيين الذين يتجنبون نقل الحقيقة الكاملة له.

أوهام الصلة الروحية بجبل بايكتو المقدس، وأنه سبب انتصار الزعيم “كيم إيل سونغ” في كفاحه ضد اليابان

ستستغل ما توصلت إليه لتحديد موقفها بدقة من خصومها ومهاجمتهم بقوة، تعزيزا لمكانتها السياسية في الداخل، ولتقديم نفسها أمام شعبها بوصفها سياسية تسير في نفس الطريق الذي سار عليه أسلافها.

بلباقتها المعهودة وقسوتها المعبرة عنها صرامة ظاهرة تعجز ابتسامها الخفيفة عن إخفائها؛ راحت تُصعد من لهجماتها الكلامية. بها ضمنت حضورا قويا لها في الداخل، وكرستها كوريثة أكيدة للسلطة من بعد أخيها.

جبل بايكتو المقدس.. صلة روحية تصنع النصر وتحمي الورثة

يستخلص الوثائقي من مسار البحث التاريخي للحكم في كوريا الشمالية أن تقاليد التوريث قد ترسخت فيه منذ عقود، وما عاد للحزب دور في اختيار قادة البلد، وهي تقاليد رسخها الجيل الأول والثاني من عائلة “كيم”، من خلال نشرهم أوهاما حول صلتهم الروحية بجبل بايكتو المقدس، فقد منحوا لأنفسهم قدسية من خلال ربط انتصارات الزعيم “كيم إيل سونغ” في كفاحه ضد الاحتلال الياباني بمباركة الجبل المقدس له، وقد وقف مع ابنه من بعده، وها هو يدعم ممثل الجيل الثالث من “سلالة بايكتور” كما يدّعون.

هذا الربط -حسب المحللين- بين السلطة الاستبدادية والمقدس عند الناس يفيد في تعزيز مكانتهم السياسية، وضمان توارث أبنائهم لها، وبعد العرض الدقيق للمشهد الكوري يستنتج الوثائقي أن توارث حكم يمكن تصديق حدوثه في حال تأكد الأنباء المُسربة حول سوء الحالة الصحية لزعيم البلد وتفاقمها بعد إصابته بفيروس كورونا، وذلك ما يمهد الطريق لتصبح “كيم يو جونغ”، أو “الأميرة الحمراء” مستقبلا أول امرأة من سلالة “كيم” تحكم كوريا الشمالية بيد من حديد.