“كرة سيالكوت”.. فخر الصناعة الباكستانية يصنع الانتصارات ويسعد الشعوب
سيالكوت مدينة باكستانية صغيرة، ربما لم تسمع بها من قبل، لكنك على الأغلب شاهدت آثارها، فهي تُقدّم للعالم 60 مليون كرة قدم تُستخدم في مباريات كأس العالم والدوريات العالمية، رغم أن سكانها لا يلعبون الكرة.
يقودنا فيلم “كرة سيالكوت” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- في رحلة إلى مدينة سيالكوت، لنتعرف على صناعة كرة القدم لأشهر العلامات التجارية العالمية، ويعود تاريخ تلك الصناعة إلى ما يقارب القرن، أي قبيل انفصال باكستان عن الهند وإعلان استقلالها.
كرة الاحتلال الممزقة.. رزق قادم إلى أيادي الإسكافيين
بدأ الأمر في فترة الاحتلال البريطاني، فقد أحضر كرات قدم لإقامة المباريات في البلدة، لكن بعضها تمزق، فكان من الصعب إعادتها إلى بريطانيا لإصلاحها، فأرسلوها إلى مستوطن في المدينة لا يعرف أحد اسمه، لكنه كان ذكيا جدا؛ إذ لم يكتف بإصلاح الكرة، بل صنع نسخة منها تبدو مماثلة للكرة الأصلية تماما.
يقول حسن راترا المدير التنفيذي لمصنع “راترا” لصناعة كرة القدم، إن الإسكافيين هم الذين بدأوا في إنتاج هذه الكرات بعد أن اتضحت لهم فكرة صناعتها. أما حسن مسعود خواجا المدير التنفيذي لمصنع “فوروارد” لصناعة كرة القدم، فيشير إلى أن الإسكافيين طوّروا مهاراتهم بمرور الوقت، وبدأوا في استيراد المواد الخام لصناعة الكرات في البلدة.
وقد استمر ذلك عدة سنوات، وأصبحت سيالكوت المدينة الوحيدة في شبه القارة الهندية التي تُصنّع فيها الكرات من الجلد النباتي المدبوغ، إذ كانت خياطة الكرة يدوية، وقصها وطباعتها كذلك، وكانت تُصنّع بالكامل يدويا.
تجارة الجلود الخام.. مصانع المدينة تصدر خياطتها إلى العالم
بدأ أول مصنع مسجل رسميا في التصدير من مدينة سيالكوت عام 1935، واستخدم الجلد للطبقة الخارجية للكرة، وتدريجيا بدأ الناس يطورون مهاراتهم أكثر فأكثر في هذا المجال.
يقول حسن راترا إن جده الأكبر بدأ في تجارة الجلود الخام، وكان من أوائل الأشخاص الذين أنتجوا كرة القدم في باكستان، وهو الذي أنشأ هذه الشركة عام 1956، والعمل مستمر منذ ذلك الحين، وكان الإنتاج في البداية من الجلد الطبيعي، وعقدا بعد عقد تحول إلى إنتاج من مواد مختلفة.
ويضيف أن هناك أنواعا مختلفة من الكرات، لكن الكرات المخيّطة يدويا هي الأفضل، وقد تعلم القرويون في الريف مهارة خياطة الكرة منذ عقود.
“عندما وُلدنا رأينا والدينا يصنعان كرة القدم”
يقول صانع الكرات اليدوية محمد عباس إنه تعلم حرفة صناعة الكرة في قرية مجاورة يذهب إليها كل من يريد تعلم هذه الحرفة حتى أصبحت جميع القرى تتقنها، وهي مهنة تشاركه فيها زوجته وابنته، فالجميع في هذه القرى يعمل ليكسب قوت يومه، خصوصا أن صنعتهم تدر عليهم دخلا جيدا.
تقول زوجته مازحة: إن من يجلس معهم يومين اثنين يصبح قادرا على صنع كرة القدم. وتعبّر عن سعادتها، فهي تعمل من منزلها، بينما يحيط بها أبناؤها، وترعى الحيوانات أيضا.
ويشير عباس بفخر إلى إنتاجه من الكرات، متحديا قدرة الآلة على تنسيق ألوانها بهذه الحرفية العالية. ويقول بحب: إذا لم نصنع كرة القدم لا نستطيع النوم. أصبحت أيادينا قوية بفضل صناعة كرة القدم، لقد أدمنّا صناعتها، إذا صنعناها شعرنا بالهدوء والراحة، وإذا لم نفعل فلا راحة.
أما ابنتهما اليافعة، فتقول: عندما وُلدنا رأينا والدينا يصنعان كرة القدم، وكنا ننام وهما يعملان، ثم رغبنا تدريجيا في مساعدتهما، ليس اضطرارا، بل حبا.
وبعد يوم عمل شاق، تتجمع الأسرة مع بعض الزائرين، يحكون مغامراتهم في صناعة الكرة ويتسامرون ويغنون، ولا ضير من بعض الحلوى تُذهب عنهم مشقة العمل.
آلام المهنة.. مقاساة الجلد والخيوط لكسب الرزق
يحكي محمد أشرف قصته مع صناعة الكرات، فقد تُوفي والده فجأة، وكان مضطرا لتحمل المسؤولية، فتعلم هذه الحرفة من صديقه عباس، ورغم تقدمه في العمر فإنه ما زال يعمل ولديه العزم على الاستمرار. ويؤكد أن صناعة كرات القدم خلقت رباطا بين أبناء القرية يشعر به الجميع.
وتقول زوجته إنها تبدأ بالعمل أيضا بعد أن تُنهي واجباتها المنزلية في العاشرة صباحا وتستمر مع زوجها حتى الحادية عشر ليلا، ويضعان كل ما يحصلان عليه من نقود في مصروف البيت، حتى يتغلبا على مشاكل المعيشة.
وفي حين يمدهم أخوه خالد بالمواد الأولية لصناعتهم من خيوط وجلود، فإنه يأخذ الكرات بعد صناعتها لتوريدها. يقول خالد: عملُنا في صناعة الكرة جيد، لكنه مرهق جدا، ويواجه العاملون في هذا المجال مشقة، لأنهم يشعرون بآلام شديدة في الظهر والقدمين، جراء طول الجلوس وكثرة استخدام أيديهم في شد الخيط.
ورغم هذه الآلام، تُعبّر زوجته عن سعادتها، فالعمل يُمكّنهم من جني المال الذي به يشترون حاجياتهم.
مراحل الصناعة.. ألف كرة أسبوعيا تشبع ملاعب العالم
يشرح خالد مراحل العمل بدءا من تجميع أجزاء الكرة ثم صنع ثقوب في الجلد باستخدام آلة بسيطة، ثم خياطة الأجزاء معا، ولا يغفل الإشارة إلى بعض المهام التي تساعده بها زوجته، حتى يتمكنا من إنتاج كرة واحدة في نحو ساعة ونصف.
وبعد الانتهاء من صناعة الكرة يعيدها إلى التاجر الذي سلّمه مكوناتها، ثم تُرسل الكرات إلى المدينة لتنظيفها وتغليفها وإرسالها خارج البلاد.
يقول خالد إنه يصنع 7 كرات يوميا بمفرده، وينتج مع أسرته نحو 15 كرة يوميا، ويقول إن قريته تجهز أسبوعيا ما بين ألف و1200 كرة. ويقول عباس: أكثر ما يسعدنا أننا نعمل بأيدينا، ثم نأكل مما نكسب، ولا نطلب من أحد أن يعيننا. نجلس في بيوتنا بهدوء ونعمل، لا نؤذي أحدا، فقط نعمل وأجورنا تأتينا إلى البيت.
ويقول جميل أحمد: عندما نشاهد المباريات نكون سعداء جدا، لأن الكرات التي تصنعها شركاتنا منتشرة، وتستخدم في النوادي والمباريات.
ويستمتع بعض شباب القرية الأصغر سنا بلعب الكرة، وهي متعة تفوق متعة قرنائهم حول العالم، فهؤلاء يلعبون بكرات أنتجوها، ولا يريدون إلا أن يشتهر اسمهم عالميا، فهم ينتجون أفضل كرة قدم كما يقولون.
عصر الآلة.. راحة في اللعب وزيادة في إنتاج المصانع
بدأت خياطة الكرات اليدوية في سيالكوت، ولكن مثلها مثل أي منتج في العالم، فإن لها دورة حياة تتوقف، ثم تحل تقنيات جديدة أخرى. يقول حسن مسعود خواجا المدير التنفيذي لمصنع “فوروارد” لصناعة كرة القدم: بدأنا في عام 1991 مصنعا لخياطة الكرة يدويا، ومع مرور الوقت بدأنا تطوير المزيد من المواد والتقنيات، وبحلول عام 2005 طوّرنا تقنية جديدة تُعرف باللصق الحراري، وهنا لا نحتاج إلى غرز لربط الألواح معا، واستبدلنا الخياطة بالغراء.
ويرى “خواجا” أن إنتاج الكرات آليا حسب المعايير المحددة أفضل؛ إذ يتيح ذلك أن تكون الكرات كلها متطابقة، على عكس الخياطة اليدوية التي حالت دون إنتاج كرات متطابقة، لأن قوة العامل في خياطة الكرة تضعف مساء مقارنة بالصباح.
ويتفق والده مع ذلك والده مسعود خواجا مؤسس المصنع، ويرى أن الخياطة اليدوية لكرة القدم أمر عفا عليه الزمن، لأنه يُصنّع عددا قليلا من الكرات بهذه الطريقة، كما أن الكرات المخيطة آليا مرنة جدا، وإمكانية اللعب بها مذهلة، فتكون الكرة مرنة عند ضربها بالرأس مثلا، ولذلك فمن يلعب بهذه الكرات تصعب عليه العودة للعب بالكرات المخيطة يدويا.. فالتكنولوجيا الجديدة تمنحك الراحة في اللعب، والعودة للوراء تكاد تكون مستحيلة.
وهنا يقول حسن خواجا إنهم أكسبوا العاملين في إنتاج الكرات يدويا مهارات جديدة. فالعامل ملك ناظر الذي بدأ حياته في خياطة الكرات يدويا، أصبح الآن مراقب جودة في أحد المصانع، يراقب عن كثب جودة الكرات المُنتجة ومطابقتها للمواصفات.
“صناعة كرات كأس العالم هي دائما لحظة فخر لأي مصنع”
يحدث التحول من التكنولوجيا القديمة إلى التكنولوجيا الحديثة عبر البحث والتطوير، ولإنتاج كرات كأس العالم 2014 كان على مصانع مدينة سيالكوت تطوير الآلات المختلفة، كان عملا شاقا للغاية، لكنه عمل جماعي شارك فيه المهندسون جميعا في مناوبات على مدار الساعة.
يقول عارف شاه مصمم كرات القدم إن شركة “أديداس” اشترطت عليهم عند صناعة الكرة الرسمية لبطولة كأس العالم 2014 في البرازيل أن يضعوا علامة “برازوكا” (اسم الكرة) على كل رقعة من رقعها التي يبلغ عددها 32، ورغم صعوبة الأمر، فقد نجحوا في ذلك، وخرجت الكرة بصورة جميلة.
ويتحدث حسن خواجا باعتزاز عن أن مساهمتهم في إنتاج كرات لكأس العالم 2014 كانت لحظة مهمة لهم، ويقول: منذ ذلك الحين نقوم بصناعة الكرات الأيقونية الهامة، بما في ذلك كرات كأس العالم ونهائي دوري الأبطال. صناعة كرات كأس العالم هي دائما لحظة فخر لأي مصنع.
ويعود عارف شاه للقول إنهم في كأس العالم 2018 في روسيا استخدموا الألوان التي يحبها الناس في الكرات المصنعة، وهي الأسود والرمادي والفضي، مما جعلها مقبولة بشكل كبير من الجمهور، ويقول: نحن دائما نبحث عن ما يحبه أهل المناطق التي نرسل إليها الكرات، لتحقيق رغبات الزبائن.