“إلفيس”.. المغني الأسير الذي غيّر وجه الثقافة الشعبية الأمريكية
“الصورة شيء والإنسان شيء آخر.. من الصعب جدا الارتقاء إلى مستوى الصورة، لذا دعها جانبا”. تكشف هذه المقولة كم حاول صاحبها الإفلات من أسر الصورة وإنكارها والعيش بريا كما نشأ وكما أراد، لكن أحدا لم يدعه يفلت منها، بل كان هناك من يسعى حثيثا لأسره فيها وفق هواه، هذا ما أثاره عن حياته الفيلمُ الصادر حديثا للمخرج الأسترالي “باز لورمان”، ويتناول سيرته الذاتية ويحمل اسمه “إلفيس” (Elvis).
نحن نتحدث عن “إلفيس بريسلي” المغني الأمريكي الشهير، ملك “الروك آند رول” كما يلقب، وهو المغني والراقص الأيقوني والكاريزماتي الأشهر، فرغم رحيله عام 1977 فإن اسمه ما زال يضج بالحياة إن ذكر، وما زالت ألبوماته في قائمة الأعلى مبيعا.
كتب المخرج “باز لورمان” الفيلم مع اثنين آخرين هما “سان بروميل” و”كريج بيرس”، وذلك بعد عدد من الأفلام الناجحة والشهيرة له مثل “مولان روج” عام 2001 و”روميو وجولييت” عام 1996.
حياة “ألفيس” وما حولها.. ثلاثة خطوط سردية تصنع الحبكة
سوف يفاجأ من يشاهد هذا الفيلم لـ”لورمان” بأنه لا يتعرف فقط على سيرة “إلفيس” ببريقها، بل سيرى وجها غالبا لم يعرفه أو يتخيله عن أمريكا قديما، وجه سيظنه لأحد بلداننا الشرقية، فسيرة “إلفيس” وأحداثها كشفت معها الكثير من الجوانب الاجتماعية والسياسية في فترة مبكرة من تاريخ أمريكا الحديث، وهو ما يجعله أكثر اتساعا وأثرى دراميا من حدود السيرة الذاتية لفيلم عن مغن محبوب ومهم وذائع الصيت.
تسير حبكة الفيلم في ثلاثة خطوط سردية، تندمج جميعها في خط رئيسي هو مسيرة حياة “إلفيس” بكل ما شكلها وأسهم فيها، وذلك في سرد تصاعدي إجمالي لحياة إلفيس من ميلاده وحتى ما بعد وفاته، مع كسر لهذا التصاعد مرحليا أحيانا، سواء بسرد متقدم (فلاش فوروورد) أو متأخر (فلاش باك)، لكنهما يسيران بنا نحو التصاعد واكتمال الصورة، في بنية متصلة بين بدء السرد ونهايته، من خلال راوي الفيلم العقيد “توم باركر” (الممثل توم هانكس).
يبدأ الفيلم بـ”باركر” ويعود إليه، ويشكل بزاوية سرده الشخصية لمسيرته مع “إلفيس” (الممثل أوستن باتلر) أحد خطوط السرد، بينما تشكل حياة “إلفيس” فنيا واجتماعيا ومشواره من زاوية “إلفيس” نفسه؛ خطا هيكليا للفيلم، وتمثل الأحداث المؤثرة في طريقه ونشأته خطا ثالثا، وهي تشكل بذاتها تاريخ أمريكا وظروفها السياسية والاجتماعية المعقدة في هذه الفترة.
“توم باركر”.. لؤم العقيد الذي استكشف الأسطورة
مسن بدين أصلع طريح على الأرض بجوار بطاقات تهنئة بالميلاد، على بعضها صورة “إلفيس”، تبدأ به مشاهد الفيلم، ليأتي صوته في المشهد اللاحق وهو على سرير مرض في المستشفى، يُعرّف نفسه متقلدا دور الراوي لقصته مع “إلفيس”، وهو مدخل يليق بشخصية نرجسية متطفلة، فيرى أن فضول المشاهد موجها له، ويُنصّب نفسه حارسا لبوابة حكاية “إلفيس”، إنه العقيد “توم باركر” كما يعرفنا بنفسه، ومن ينسب لنفسه فضل اكتشاف “إلفيس”.
ورغم التشابه الكبير في التشخيص الفيزيائي له مع الشخصية الحقيقية، فإن “لورمان” أعطاه إيحاء إضافيا خافتا بجعل أنفه معقوفا بوضوح، مع صوت به خنف ومبتلع للداخل، بشكل يوحي بخبث أملس، وتلك إحالة مرجعية غير صريحة لصورة التاجر اليهودي المستغل بنمطه المتجذر في الذاكرة الشعبية العامة، كمدخل يميل لخلق ظل أسطوري يميل له “لورمان” عموما، يبرزه بتضخيم وتنميط يعدان بذاتهما تشويها كاريكاتوريا.
يكتمل هذا الميل لدى “لورمان” بافتتاحية درامية نرى فيها الرجل في سياق سريالي يتميع فيه الزمن، حيث يمزج بين الذاكرة الزمنية والنفسية، وهو يسير من سرير المستشفى وبثيابها متمشيا في كازينو قمار، يدير بفرحة عجلة “الروليت” الخاصة بالحظ في ألعاب القمار، وذلك في رمزية بصرية لشخصية مقامر أو صاحب كازينو قمار، يبدأ بشغف لعبته الجديدة، ويستعد لصيده القادم “إلفيس”، مما يستدعي في ذاكرتنا مشاهد فيلم “مولان روج” بتقديمه لشخصياته المصبوغة بالغرابة ضمن عالم سفلي غامض ومشوه، ليذكرنا “باركر” بشخصية الدوق صاحب كازينو “مولان روج” الذي يريد الاسئثار بماسته “ساتين”، و”هارولد زيدلر” مدير الملهى، وشخصية عارض فتيات الكازينو المحتكر لهن، وهو يشبه ما فعله “باركر” مع “إلفيس” من استحواذ وتسليع استنزافي، ممارسا عليه فنون الاحتيال التي تعلمها في الملاهي خلال نشأته، حتى يتضح أنه زائف الهوية كما نعرف لاحقا.
يحاول “باركر” مزاحمة “إلفيس” في سيرته، فيقدمه “لورمان” بشكل موفق بوصفه راويا يستحوذ حتى على السرد، متطفلا على “إلفيس” من جديد ولو بحجة الدفاع عن نفسه، لتوضح محاولته هذه بذاتها دراميا ما مارسه على حياة “إلفيس” من تطفل واستغلال، دون أن يرى فيه إلا سلعة ثمينة يجب اعتصارها حتى آخرها.
متاهة المرايا.. حين يتربص الصيّاد بالفريسة التائهة
يمثل “باركر” وجها للرأسمالية قاسيا لا يرحم، نراه وقد صنع من “إلفيس” دمى وتماثيل وصورا لتوزع سلعا ترويجية، ووضع صوره على منتجات تجارية، مستغلا قلة خبرة “إلفيس” وعدم درايته الكافية بإدارة نفسه ماديا، مع نزعة طبيعية للنجومية في سنه، لتكون علاقتهما وهذا الارتباط بؤرة لصراع مؤلم، خاصة حين نرى فشل كل محاولات “إلفيس” فيما بعد للفكاك منه.
يقدم الفيلم لظهور “إلفيس” من خلال لقطات تمثل ومضات مستقبلية من زاوية “باركر”، فنشاهد كيفية تعرف “باركر” عليه، ومراقبته له كصياد يتربص بفريسته، نراه في مشهد يتسلل خلفه بعصا يمسكها، مرسوم على رأسها رأس مهرج، ويقف بمحاذاته من الخلف قائلا “إما هو أو لا شيء”، ويكاد يطاله بعصاه كالخطاف، لكن “إلفيس” يتحرك مفلتا دون أن يدري به، لنرى بعدها ومضات فلاشية من الآتي بينهما.
تعود فيما بعد لتأخذ مكانها الطبيعي من السرد، ويظهر “باركر” كالحاوي المتقن لكل الألعاب، ويعبر عن حصاره لـ”إلفيس” مشهد داخل الملاهي في متاهة المرايا، حيث يشعره فيه بضياعه إزاء معرفته وحده بمكان المخرج، مقدما نفسه له بوصفه قائدا منقذا، وواضعا “إلفيس” في موقع الضائع التابع.
“كان مثل قضمة من الثمرة المحرمة”
يبدأ ظهور “إلفيس” من زاوية “باركر” من خلال مشهد يستمع فيه “باركر” للحديث عن “إلفيس” بعد ازدياد صيت أغنيته الأولى “لا بأس يا أمي” (That’s all right mama)، ثم نرى “إلفيس” بعين “باركر” قلقا يستعد لحفلته الأولى.
ثم يبدأ سرد آخر توثيقي وأكثر حيادية لحياته بدءا من نشأته، وهو ما أُعد في السيناريو بشكل جيد جدا به دراسة وافية لحياة “إلفيس” وتفاصيلها، باستخدام سرد متنوع الأساليب كالرسومات المتحركة التي تصوره طفلا وُلد بينما يضيء القمر المكتمل السماء، ثم سرد يعود لطفولة “إلفيس” وصباه بعد سجن والده لتحريره شيكا بدون رصيد، وانتقاله مع أسرته إلى حي الزنوج في ولاية ممفيس.
مثل حي الزنوج بداية تشكيل “إلفيس” الصبي صاحب الخيال، من كان يرى نفسه “كابتن مارفل” البطل العظيم في إحدى مجلات الخيال المصورة، يحرر أباه ويطير به لصخرة الأبدية، وهو مكان في هذه القصص الخيالية في نهاية نفق، ويعد مصدر قوة الشخصيات الخيرة التي تصل إليه كحلم صعب منشود، ثم نعود لأولى أغنياته، مع عودات متقطعة للطفولة أثناء السرد المتصاعد، كل ذلك بإيقاع سريع شديد الحيوية وكثير القفزات طوال الفيلم.
جاء أول ظهور حقيقي لـ”إلفيس” كبيرا بزاوية موضوعية، من خلال استعداده لأولى أغنياته ورقصاته بعد ذيوع صيته، فقد كان مرتبكا قبل البدء متعرضا لتنمر من الرجال لنعومة مظهره من وجهة نظرهم، لكنه ما إن بدأ أغنيته ورقصه حتى تحول لشيء آخر، لحالة تضخ الحياة لا يقوى على مقاومتها أحد، فكل جسده يصدر طاقة واهتزازا كبيرين، ليفاجأ بصرخات الفتيات المأخوذات والمنبهرات بجاذبيته المفرطة، فيصفه “باركر” معلقا “كان مثل قضمة من الثمرة المحرمة”، لكننا نرى “إلفيس” يسأل بعض العازفين خلفه “لماذا يصرخن؟”.
“كانت نجوم شارع بيل تطل من عينيه”
هناك موقف حقيقي في حياة “إلفيس” حرص الفيلم على تقديمه، يؤكد أنه لم يكن متعمدا الإثارة، فهو فقط كان يعبر عن نفسه كما يشعر، وهو ما يعيدنا للمشهد السابق للحفل حين كان صغيرا، حيث نشأ وسط الزنوج في ممفيس في ولاية تينيسي بشارع بيل، بطبيعتهم البرية وفطرتهم الحرة التي لم تخضع للترويض بعد، فقد رأيناه صبيا يتلصص مع رفاقه على حانة يعزف فيها مغني البلوز الزنجي “آرثر كرودوب” ممسكا بالغيتار مغنيا أغنية “لا بأس يا أمي”، وكانت فيما بعد أولى أغنيات “إلفيس”، بينما يرقص رجل وامرأة رقصا غريزيا، يراقبهم مأخوذا بشعور مركب لنشوة الفن الممتزجة بحرية تعبير مطلقة.
بالجوار تكمن خيمة حرص “لورمان” على إظهارها بالقرب لإظهار تمازج المتناقضات في نشأته، ويوجد فيها “مارتن لوثر كينغ” القس والمناضل المسيحي المعروف، مؤديا الصلوات والخطب الدينية يعقبها احتفال راقص، مزيج يحضر جنبا إلى جنب دون شعور بالإثم أو التناقض، ترصد الكاميرا بجوار الخيمة اسما لها “إحياء” (Revival)، فكأنه نشأ في مناخ إحيائي يهدم ما بدا ثوابت قديمة ببناء جديد متحرر، فهو ينتمي لهذه الثقافة السمراء البرية غير المروضة في ذلك الوقت، أكثر من انتمائه لثقافة البيض السائدة التي يفترض انتماؤه لها.
من هنا نشأت نظرة الفن عند “إلفيس” حُرة فطرية التعبير حتى جسديا، فقد تأثر بموسيقى الزنوج “ريذم آند بلوز”، أو الموسيقى الأفريقية الأمريكية، ودمج بينه وبين أسلوب “الكانتري” للبيض، وهي الموسيقى الشعبية أو الريفية الأمريكية البسيطة، متأثرا بشخصياته ومغنيه مثل “آرثر بيغ بوي كرودوب” و”ماهاليا جاكسون” و”بي بي كينغ” و”ليتل ريتشارد”، والمغنية السمراء “ماهاليا جاكسون”، فنسمع وصف “باركر” عنه قائلا “كانت نجوم شارع بيل تطل من عينيه”.
“هزّاز الحوض”.. هجوم المحافظين على جاذب الفتيات
كانت أكبر عقبات “إلفيس” في مساره وخاصة في البداية هو المجتمع الأمريكي المحافظ والعنصري معا في ذلك الوقت، فنفاجأ بمشاهد لم تخطر لأكثرنا أن تكون حدثت يوما في بلد كأمريكا، فقد شُن هجوم على “إلفيس” من المحافظين و”جماعة نيويورك” كما يسميها، باعتبارها العاصمة السياسية والثقافية، وذلك بسبب جرأة حركاته على المسرح كما يرونها، وجاذبيته المفرطة للفتيات، فكانوا يسمونه “هزاز الحوض”، حتى قرروا عدم السماح بحفلاته إلا إن توقف عن ذلك.
نرى في حفلة له حضور شرطة الآداب، وضباطا يحذرونه من أي هز لأي جزء من جسده، حتى إذا تحداهم “إلفيس” وسخر منهم على المسرح قاموا بإنزاله عنوة وتكسير المسرح، وذلك في مشهد فوضوي عنيف وسط مقاومته هو وجمهوره، بينما يرى “إلفيس” أنه لا يعرف الغناء إلا كذلك، ويتعرض لصراع بين ما يعبر به عن نفسه بشكل طبيعي وما يضطر له.
في الوقت نفسه نتبين من خلال الأحداث الحالة العنصرية الشديدة في أمريكا آنذاك، بدءا من استنكار استخدام “إلفيس” لطريقة الزنوج في الغناء وأسلوبهم الموسيقي “ريذم آند بلو”، واستنكار صداقاته وصوره مع أصدقائه السود من شارع بيل، وحتى أزيائه وطريقتها، واتهامه بتحديه لقوانين الفصل العنصري، ونرى الحواجز التي تمنع السود من حضور حفلاته رغما عنه، ثم نرى فراره حين يتعب من محيطه الخانق إلى شارعه وحيّه القديم، وسط رفاقه الزنوج الذين يرحبون به ويسعد معهم، فنراه عفويا بسيطا غير معقد التعامل، ولا يحب ذلك.
“حينما تكون الأمور أخطر من أن تُقال فغنّوا”
يمر السرد بأحداث تاريخية نراها بوقعها على “إلفيس”، فنرى حزنه الكبير لمقتل “مارتن لوثر كينغ” المناضل الثوري الزنجي، ويتذكر جملته التي قالها يوما “حينما تكون الأمور أخطر من أن تُقال فغنّوا”.
يمر به أيضا حدث مقتل “روبرت كينيدي”، ونرى خطابا نازيا للفصل العنصري من مجلس الشيوخ في نفس وقت إذاعة حفلته في مكان قريب منه، كان هذا العرض للحياة العامة حول “إلفيس”، وموقفه منها مثريا للدراما وموفقا من قبل “لورمان”.
نرى حياة “إلفيس” الاجتماعية، فنلمس حبه لوالديه، وتعلقه الشديد بأمه مدبرة حياة الأسرة، وأباه المسالم المهزوم إثر سجنه الماضي لضائقة مادية، حيث كان يسعى لتعويضهم بكل طاقته، مرورا بتجنيده في ألمانيا وزواجه من “بريسيلا” وإنجابه ابنة، وحتى طلاقهما الذي كان بسبب إدمان “إلفيس” للحبوب المخدرة، وهو ما أشار له الفيلم بشكل سريع في أحد المشاهد المبكرة، بإعطاء “باركر” له حبة دواء لإزالة صداعه، دون جزم أو تأكيد قاطع بأنه من وراء ذلك، لكنها لقطة تشير لشك قائم.
“أنت يا مصاص الدماء من أنت؟”.. أسر في قفص العقيد
نشعر بأسر “إلفيس” في قبضة “باركر” مهما حاول التمرد، مرة بالسيطرة وأخرى بالتخويف أو التهديد، ومرة بالغواية، حتى أنه اخترع تهديدا لحياة “إلفيس”، وأخذ في إخافته من السفر، فقد كان يخشى فراره من قبضته، كما يريد حبسه معه، لأن “باركر” في الحقيقة لم يكن يستطيع السفر، فنعرف مؤخرا أنه لا يحمل هوية أمريكية.
كان “باركر” بارعا في الحيلة يستطيع جعل “إلفيس” مدينا له إن أراد، فيهدده إن حاول تركه، أو يغويه بفرص يزينها له كعقد احتكار ورّطه فيه مع فندق عالمي، غالبا ما يناديه إن تحدث عنه بكلمة “فتاي” بما فيها من ملكية، ويتكلم عن نجاح “إلفيس” بصيغة الجمع، فهو يقتات على نجاحه ويمتلكه حصريا، ويحتل حياته بحجة إدارة أعماله وقيادته للنجاح، حتى أنه حاول أخذ المكانة العاطفية لأم “إلفيس” عنده بعد وفاتها، وإشعار والده بالمزيد من ضعفه كي يتاح له إحكام قبضته أكثر على “إلفيس”.
نشعر بمعاناة “إلفيس” وهجومه عليه وهو في حالة سكر، فيقول له ذات مرة “أنت يا مصاص الدماء من أنت؟”، فيكون رد “باركر” “أنا أنت وأنت أنا”، فنشعر تدريجيا بمدى التعاسة التي تسللت لـ”إلفيس”، وذلك بالتزامن مع مبالغة بدأت تبدو في ثيابه مرورا ببدانة أصابته في سنواته الأخيرة، حتى يصلنا خبر وفاته وهو ابن 42 عاما عبر الإذاعة، بينما نشاهد طائرته يغيبها السحاب، وصوت الرئيس “كارتر” يقول عنه إنه غيّر وجه الثقافة الشعبية الأمريكية.
وكما بدأ سرد قصته بالقمر مكتملا في مولده، ينتهي سردها بأفول نجم في السماء حتى الظلام.
“باز لورمان”.. توظيف ذكي لخبايا حياة البطل
على المستوى الأسلوبي للفيلم، اتسم السرد بحيوية كبيرة وإيقاع سريع، مع قفزات بصرية للأماكن والزمن، خاصة في افتتاحية الفيلم ومشاهده الأولى، واتسم بتصوير ماهر في مواقع مفتوحة تتيح مدى أكبر لحركة الشخصيات وزوايا مختلفة للمشهد الواحد، وذلك بتكوين عدة طبقات وأبعاد له، مما يعطي إيقاعا بصريا متدفقا لصورة بانورامية في الأغلب، واختيارات لها دلالاتها الدرامية، كاختيار الملاهي والكازينو كنقطة حكي لـ”باركر” وللقائه مع “إلفيس”، وكوجودهما في أرجوحة معلقة بهما مرة، وغرفة مرايا لا فكاك منها مرة أخرى، وتكرار لقطة سقوط “إلفيس” بين أيدي الجماهير المحيطة به تماما كلقطة له وهو يغني ويرقص صغيرا في حي الزنوج.
هذا ما أجاد المخرج “باز لورمان” توظيفه، كما قام بمزج ناعم بين لقطات حقيقية مسجلة وبين مشاهدها الممثلة، مع استخدام أسلوب البث الإذاعي للإشارة لأحداث ما، ورغم تفوق “لورمان” في الإلمام المتدفق بحياته بكافة جوانبها وأهم مراحلها ومشاعرها في ساعتين ونصف بإيقاع متدفق، فإنه كان عدوا لأي لحظات صمت تعطي تمهلا في تلقي الأحداث، أو تتيح نفاذا أكبر لأعماق “إلفيس”، مع إسراف في تنويعات وسائل التعبير والعرض والتنقل السريع بينها، مما يعطي شعورا بزحام سمعي وبصري.
إضافة لغرابة الاعتماد على سرد “باركر” لسنوات “إلفيس” الأخيرة، وسرد مقتطفات منها بعد إعلان وفاته، وهو ما كان سيكون أكثر اتساقا لو قدم في مكانه السردي قبل الوفاة، وهذا ما جعل الجزء الأخير فيه تخبط في السرد، مع تفهم يقظة “لورمان” لأن ينهي “باركر” السرد كما بدأه راويا، معيدا استخدام حيله لتبرئة نفسه أمام الجمهور، مُلقيا بسبب موت “إلفيس” في وجه الجمهور بدلا منه، مرجعا سبب موته إلى حبه لهم الذي قتله، لنعرف أن محاولات استحواذ “باركر” طالت حتى تركة “إلفيس”، لولا ملاحقته بالدعاوى حتى أفلسه القمار.
أبطال الفيلم.. أداء مبهر لشخصيات ثقيلة
الفيلم به جهد كبير واضح أشرنا له، مع وجود ثقلين تمثيليين كبيرين، سواء “توم هانكس” في أدائه المختلف لدور العقيد “باركر”، فهو دور شديد الاختلاف بالنسبة لأدواره، وهو ما استدعى مكياجا كاملا ظاهريا بثقل جسدي ليعطيه مظهر العجوز البدين، ورسما نفسيا للشخصية بدا بشكل كبير في نظرات عينيه التي تعكس دهاء ومكرا، مع صوت يلائم تركيبة هذه الشخصية.
أما أداء “أوستن باتلر” لدور “إلفيس” فجاء شديد الجودة والتميز، نظرا لما يتطلبه من مهارة حركية وتقمصية، سواء لروح الشخصية أو طبيعتها الفيزيائية والحركية.
في النهاية يمكن أن نتبين -رغم ميلنا لعرض موضوعي متوازن لحياته- ما كان يمثله “إلفيس” وإن كان لا شعوريا للمخرج “باز لورمان” وربما للكثيرين، فما زال شيء طاغي الحياة جارف الجاذبية يشعر به محبوه.