“الحلبة”.. بطولة الهجاء العربي تكشف سوداوية الواقع في لبنان

يتقدم المتنافسان بغضب نحو وسط الحلبة وكأنهما يستعدان لضرب بعضهما، بينما الجمهور قريب من المنصة التي تشبه حلبة ملاكمة، لدرجة أنه يكمن أن يسمع أنفاس المتسابقان، وأن يصله رذاذ أفواههما حين يصرخان، وعندما تنطلق المباراة يبدأ صنف من الشعر لم تعتده أسماعنا العصرية، بل بدا قريبا من شعر الهجاء العربي، لكنه يلبس اليوم ثوبا غربيا.
تنظم هذه المسابقة في لبنان، ويطلق عليها الحلبة، وهي حدث لا يعرفه أغلبنا، رغم أنها قد بدأت باكتساب شعبية متصاعدة في أوساط الشباب في بعض دول المشرق العربي قبل جائحة كورونا التي أوقفت المسابقة ووضعت مستقبلها في مهب الريح.
يستعيد الفيلمُ الوثائقي “الحلبة” (EL ARENA) للمخرج جاي بي جمال تاريخَ هذه المسابقة مع المؤسسين لها وأبرز المتنافسين فيها، ويحاول أن يستشرف مستقبلها وسط وضع شديد الصعوبة يضرب العاصمة اللبنانية بيروت؛ مكان ولادة هذه المسابقة، وحيث يعيش مؤسسييها.
“تشينو”.. مغني راب ينقلنا إلى فن الحلبة
يبدأ الفيلم بمشاهد تعريفية للمسابقة، منها لقطات في الشوارع، وفي الساحة الخلفية التي عاش فيها فن المشاركين، وتمر المشاهد الافتتاحية بالمشهد الجغرافي لهذا الفن عبر مشاهد تركز على فن الغرافيتي (رسومات الشارع)، وهو أحد الفنون الموازية لفن الراب.
والحال أن البطولة تستمد شرعيتها ومرجعيتها من فن الراب الموسيقي المعروف، خاصة أن المتبارين في المسابقة هم من مغني الراب المعروفين في المشرق العربي، الذين يؤلفون بأنفسهم الشعر الملقى، بيد أن المسابقة تتميز بخلوها من الموسيقى التي تميز فن الراب.
يقود التعريف بالمسابقة إلى أحد مؤسسيها المعروفين واسمه “تشينو”، وهو مغنٍّ معروف في لبنان، وله تأثيرات تصل إلى دول عربية مجاورة.
يخبرنا “تشينو” أن المسابقة بدأت في عام 2015، استجابةً لاتساع مشهد موسيقى الراب في لبنان والدول المجاورة خاصة الأردن، والرغبة بنقل نموذج للمسابقة يجري في دول غربية مثل الولايات المتحدة؛ إلى الشرق الأوسط.
سخرية الأغاني.. كلمات نابية لاستفزاز الخصوم
يقطع الحوار الطويل مع “تشينو” مشاهد أرشيفية من المسابقة، ومنها مشاهد لمباريات بدت حامية كثيرا، وتتضمن إهانات غير مسبوقة على الفن العربي.
يتبارى الكثير من المتنافسين باللغة الإنجليزية، وهناك من يختار العربية لنظم شعره، بل إن أحدهم بدأ “أوف” طويلة تشبه ما يبدأ به مغني العتابا اللبنانية، لكن هذا المتسابق سينتقل إلى اللغة الإنجليزية، ويعود ويشتم بكلمات قاسية كثيرا باللغة العربية.

يتجاوز بعض الشعر الملقى حدود اللياقة والعرف الاجتماعي، فأحد المتسابقين يهزئ باسم السوداني لمنافسه، ويضعه في صورة نمطية مقيتة عندما يذكره بأن الكثير من بوابي بنايات لبنان هم من السودان. بيد أن هذه اللغة والأوصاف القاسية كثيرا هي جزء من اللعبة، غرضها دفع المنافس إلى الموازنة بين أقصى درجات الغضب، وأيضا الحلم والتحكم بالمشاعر والجمهور على حد سواء، من أجل استمرار المباراة، فالذي يفقد أعصابه يهزم في المسابقة.
“ماغي”.. أجنبية عادت إلى بلد الآباء ووقعت في حبه
من المؤسسين الذين سيتحدثون عبر زمن الفيلم عن المسابقة وتاريخها “ماغي”، وهي أجنبية ذات أصول لبنانية، وقد عادت إلى بلد الآباء ووقعت في حبه، واختارت البقاء فيه رغم ظروف البلد الصعبة.
توفر “ماغي” نافذة مختلفة عن “تشينو”، فهي بحكم مهماتها التنظيمية تستعيد الصعوبات التي تواجه المسابقة، وكيف نمت في بيئة تختلف كثيرا عن البيئة الغربية التي ينتعش فيها هذه النوع من المسابقات. مرت المسابقة بتحديات كبيرة، خاصة أنها ولدت وازدهرت بدون أي دعم رسمي، واعتمدت بالكامل على موارد شخصية، قبل أن تصبح ربحية في العام الأخير قبل وباء كورونا.
يقابل الفيلم “ماغي” في باحة بناية خارجية وصلها الدمار اللبناني، ومن تلك الباحة التي تغطيها الأنقاض ونقش على جدرانها رسومات الشارع؛ تتذكر “ماغي” كيف أن هذه الساحة بالتحديد كانت مكانا للقاء مغني الراب، وكانت تجرى فيها بشكل عفوي مباريات للغناء والشعر.
قسوة الأغاني.. صراع الشتائم وقضايا اللاجئين
يفرد الفيلم مساحة مهمة للمشاهد الأرشيفية التي تنقل مباريات من بطولات السنوات السابقة، وفيها يتركز الانطباع عن القسوة التي يتعامل بها المتبارون مع بعضهم، فهي تنسجم مع طبيعة المسابقة الهجائية ومراجعها في عالم موسيقى الراب العنيفة بشكل عام.

بيد أن القسوة التي يظهرها الفيلم تظل غريبة على المشاهد العربي، حتى أنها قد تفاجئ بعض المتبارين أنفسهم، فعندما يشتم لبناني أم منافسه الأردني، يغضب الأردني ويكاد يضرب زميله اللبناني، وتتوقف المباراة لدقائق.
كما يتناول الشعر الملقى الوضع اللبناني الخاص، وأحيانا الوضع العربي، فقضية اللاجئين ستكون حاضرة في مباراة بين سوري ولبناني، فكان السوري يدافع فيها عن وضع السوريين اللاجئين في لبنان، وأثرهم الجيد في الاقتصاد اللبناني الذي يكاد يضيع وسط الصور النمطية السيئة التي تغلف اللاجئين السوريين في لبنان.
شعر الحلبة.. قاموس لغوي خاص وهجاء سياسي
يقترب الشعر الملقى في مباريات الحلبة من كلام الناس القاسي والمتداول في المجالس الخاصة، وما يميز هذا الشعر هو القافية التي تأتي -كما تظهر في الفيلم- دون جهد كبير، إذ يتنقل المتبارين بين الفصحى والعامية واللغة الإنجليزية، كما يتسع القاموس اللغوي عندهم ليشمل كلمات نابية غير متداولة في الشعر.
يذكر “تشينو” بأن شيوع غناء الراب في لبنان جاء ردا على الوضع العام في البلد، وأن مغني الراب يوجهون نقدهم لأنفسهم وواقعهم قبل أن يوجهوا النقد للآخرين.

هذا ما كان باديا في شعر مطربي الراب اللبنانيين الذين يتناولون بقسوة كبيرة الوضع السياسي اللبناني، ويوجهون أقذع الهجاء لساسة بلدهم. وحتى في المباريات التي تجمعهم مع عرب من دول أخرى، فإنهم يدافعون فقط عن قيم لبنانية بعيدة عن السياسة والوضع الحالي.
دمار بيروت.. أوجاع تقطر دما بين الكلمات
تتعثر شخصيات الفيلم بالأحداث اللبنانية التي بدأت باحتجاجات سلمية ضد تدهور الوضع الاقتصادي في البلد. وينقل الفيلم في هذا الخصوص مشاهد لشخصيات في الفيلم وهي تشارك في احتجاجات في بيروت، وقد بدأت مبشرة كثيرا، قبل أن تسقط في فخاخ الانتماءات والأحزاب اللبنانية التي ستكون قاتلة.
بيد أن الحدث العاصف الذي سيهز المدينة كلها ومشهد الراب هو انفجار الميناء المدمر الذي سيصل بتأثيراته لبيوت كثير من شخصيات الفيلم.
ينقل الفيلم مشاهد للدمار الذي لحق ببيوت وشوارع، ومنها أمكنة كانت معروفة بتجمع مغني الراب، كما ينقل في مشاهد جهود الشباب لتنظيف بعض من الدمار الذي أصاب قلب المدينة، خاصة الأحياء القريبة من الميناء اللبناني.
نقل المسابقة.. هواجس الهجرة عن الوطن المدمر
يسجل الفيلم حيرة فريق التنظيم أمام المستقبل في بيروت، وفي ظل الظروف الجديدة يكشف “تشينو” أنه يفكر بنقل المسابقة إلى بلد عربي مجاور. كما سجل الفيلم مباراة على سطح بناية عالية في بيروت، وذلك للالتفاف على قوانين كورونا ومنع التجمع العام، ولإرضاء المعجبين المخلصين للمسابقة الذين يمكنهم متابعة المباراة عبر شبكة الإنترنت.

بيد أن هذه الخطوات تأتي في زمن شديد الصعوبة على المشاركين ومغني الراب، مثلما يذكر المهندس الشاب اللبناني المثقف الذي وصف الصعوبات التي يواجهها، وبأنه أحيانا يكون مشغولا بتدبير مكان لغسل نفسه مع الخدمات السيئة في المدينة، وكما أن الهجرة هي هاجس يلوح فوق رؤوس مغني الراب، حالهم حال الكثير من شباب لبنان.
يتميز الجزء الأخير من الفيلم بسوداويته الكبيرة، فالشخصيات تجوب في شوارع مدمرة، حتى أن وسط البلد الذي بني بعد تدميره في الحرب اللبنانية تحول إلى منطقة مهجورة، حيث غطيت الكثير من المحلات هناك بجدران لتحميها مما يجري في الشارع.
المهندس نفسه سيجول في واحدة من البنايات المهدمة، ويذهب إلى الشارع وكأنه يودع المكان من حوله، وهو مكان الذي كان ينبض بالحياة قبل أشهر قليلة فقط.
أغنية “تشينو”.. موسيقى بديلة تلامس هموم الشباب العربي
يجسد الفيلم أيضا منصة تعريفية بالموسيقى البديلة، أو تلك التي تعيش وتنمو بعيدا عن الإعلام الرسمي. إذ تنقل الكاميرا مقاطع من حفلات موسيقية حضرها جمهور كبير جدا، وقد بدا الجمهور في تلك الحفلات قريبا بانسجامه الذي يصل إلى الذوبان في الموسيقى في صور ومشاهد لحفلات أساطير الطرب الشرقي في مصر وغيرها.
في عالم موازٍ للعالم الإعلامي الذي نعرفه، يعيش ويكبر مشهد الموسيقى البديلة التي تبدو أنها قريبة فعلا بكلماتها وهواجسها من هموم الشباب العربي.
يفرد الفيلم مساحة في نهايته لأغنية طويلة لـ”تشينو”، وهي تمر بحزن كبير على أزمته وأزمة أبناء جيله، وينسج صورا شعرية مؤثرة كثيرا في أغنية أريد لها أن تختصر علاقته بالمدينة والبلد والأفق المسدود.
يخبرنا الفيلم في نهايته بمصائر الشخصيات التي مرت عبر زمن الفيلم، فقد تفرقوا اليوم في دول عدة، وخاصة في أوروبا.
لم يتوصل الفيلم لمعرفة الأمكنة الحالية لبعض الشخصيات، ليعلمنا أن بعضهم اختفت أخباره في طريقه إلى وجهات هجرة غير شرعية جديدة، وأن “وضعه الحالي” غير معروف، وهو أمر يشبه البلد الذي أتوا منه، إذ ينتظر بدوره معجزة تخرجه من اللجة العميقة التي يقبع فيها اليوم.