“تحرر”.. رحلة الأسود الذي تحرر من قبضة البيض في أمريكا

عاد “أنتوان فوكوا” في أحدث أفلامه إلى أحلك فترات أمريكا سوادا، من خلال تصفحه لورقة من كتب التاريخ المنسي، تلك التي دُوّنت فيها آلام ومآسي العبيد، وقد سلّط المخرج في هذا العمل الضوءَ على قصة واقعية مأساوية بطلُها رجل أسود مستعبد عاش في القرن السابع عشر، فما الذي مر به هذا الرجل الأسود حتى ينتج حوله فيلما؟

“أنتوان فوكوا”.. مخرج ينتصر للقضية السوداء والممثل الأسود

انتصر المخرج الأمريكي ذو البشرة السوداء “أنتوان فوكوا” (57 سنة) في معظم أفلامه إلى قضايا الرجل الأسود، وسلّط عليها أضواءه الكاشفة من عدة جهات وزوايا، كما تعدى الأمر المواضيع المتناولة إلى التعامل مع الممثلين السود، أهمهم النجم “دينزل واشنطن” الذي لعب أدوار البطولة في عدد من أفلامه، وربما أهمها فيلم “يوم التدريب” (Training Day) الذي أنتج سنة 2001، وحصل “دينزل واشطن” من خلاله على أوسكار أفضل ممثل، إضافة إلى عدد من الجوائز الأخرى.

يعود هذا المخرج هذه المرة بفيلم جديد حمل في طيّاته الأحزان والدموع والمآسي، بعد أن استعرض فيه صفحة دموية من الأفعال التي كان ولا يزال يقوم بها الرجل الأبيض اتجاه من يختلفون عنه في لون البشرة، خاصة منهم السود الذين أحضروهم من أفريقيا مقيدي الأيادي والأرجل، وباعوهم في أسواق النخاسة في أمريكا التي لها تاريخ حافل في هذه التجارة، وكل هذا من منظور عنصري بحت.

لم يكتف “أنتوان فوكوا” بحساسية الموضوع الذي تناوله في هذا العمل، بل أعطى دور البطولة فيه للممثل “ويل سميث” الذي بدأت تبتعد عنه الأضواء، أو سلّطت عليه بطريقة سلبية بعد الصفعة التي أعطاها لمقدم حفل جوائز الأوسكار “كريس روك” سنة 2022، وهي محاولة من المخرج لدعمه، وفي الوقت نفسه لكسب الأضواء التي سلّطت عليه لصالح الفيلم والدعاية له.

مركز تمديد السكك.. بداية الرحلة الخطرة إلى الحرية

“تحرر” (Emancipation) هو فيلم دراما وحركة (132 دقيقة) بدأ عرضه تجاريا مع نهاية 2022، وهي السنة التي أنتج فيها، وقد روى من خلاله المخرج “أنطوان فوكوا” قصة العبد “جوردون” المعروف بـ”بيتر ويبد” (الممثل ويل سميث) الذي تحرر بشكل رسمي سنة 1863.

هرب “بيتر” من مالكيه البيض بعد رحلة مطاردة شاقة وخطرة اجتاز من خلالها مستنقعات مليئة بالتماسيح الجائعة، بعد رحلة هرب من أحد مراكز العبيد التي كان يعمل فيها لفائدة جيش الشمال، حيث كان يعمل مع مئات العبيد على مد سكك الحديد، وقبلها أُخذ من بين أحضان عائلته في إحدى مزارع القطن، فترك وراءه زوجته وبناته تحت رحمة عمال بيض لا يرحمون.

لكن “بيتر” يملك شخصية عنيدة وشجاعة في الوقت نفسه، لهذا قرر الهرب بعد أيام من وصوله إلى مركز تمديد سكك القطار، فقد حدثت مواجهة مفتعلة، وهرب مع بضعة أشخاص بعد فترة قصيرة، لتنطلق خلفه مجموعة من الكلاب المدربة لهذا الغرض، يقودها شخص اسمه “جيم فسيل” (الممثل بين فوستر)، وهو كاره للعبيد وعنصري، ويعرف جيدا بأن أخطر شيء هو أن يحمل العبد فكرة، لهذا وجبت مطاردة “بيتر” بشراسة في الأحراش والمستنقعات المليئة بالخطر والمهالك.

آثار السياط.. قصة الألم المرسومة على ظهور العبيد

بعد أيام من الهرب والمطاردة استطاع “بيتر” أن يصل إلى الوجهة التي كان يبحث عنها، وهي منطقة “باتون روج”، حيث كان معسكر جيش الاتحاد، ليصل أخيرا إلى وجهته، لكن بدون من كان معه، بعد أن أكلتهم الكلاب، أو سقطوا برصاص المطارد “جيم” ومن كان معه، لكن “بيتر” انتصر عليهم جميعا، ووصل إلى هذا المعسكر، ليصبح جنديا في صفوف جيش الاتحاد، بعد أن استفاد من نداء “أبراهام لينكولن” في تحرير العبيد الذي أطلقه سنة 1861.

بيتر وعائلته في أحد مزارع القطن قبل أن يتم تفريقه وأخذه لسكك القطار

تبدأ بعد ذلك رحلة أخرى بعد أن كشف في المعسكر عن ظهره، حيث كان مغطى بندوب آثار السياط، وقد صُوّر في المخيم، ونشرت الصورة في إحدى المجلات، لتصبح تلك الصورة تميمة لكل العبيد ورافضي الاستعباد، خاصة أنها انتشرت بشكل رهيب ليس في أمريكا فقط، بل في كل بلدان العالم.

“ويل سميث”.. ملامح تعكس آلام العبد الهارب

استطاع الممثل “ويل سميث” أن يتماهى مع شخصية “بيتر” لدرجة كبيرة، انطلاقا من الجهد النفسي الذي ظهر على قسمات وجهه، أو من خلال عكس ملامح الحزن والتعب والشقاء والفقد والخوف والهلع، وهي جملة من الأحاسيس والعواطف الجياشة تسكن قلب “بيتر” الذي تحاصره بنادق الحقد والكراهية أثناء المطاردة الشرسة، مدعومة بكلاب مدربة على اشتهاء لحم العبيد، إضافة إلى التماسيح الجائعة التي كانت منتشرة في المستنقع.

كلها معطيات نفسية وفيزيائية كان “ويل سميث” مطالبا أن يعكسها أو ينقل جزءا كبيرا منها في الشخصية التي أداها، خاصة أن الموضوع حساس جدا، ولا يمكن أن ينجح في ظل عدم أهلية الممثل لنقل تلك الأحاسيس للمتلقي، وقد نجح “ويل” إلى حد ما في هذا الأمر، لأنه يملك مرجعية قوية في التمثيل وخبرة معقولة، إضافة إلى أنه يحمل نفس لون البشرة التي كان يحملها “بيتر”، لهذا تطابق معه في الألم.

ديكور المكان.. إعادة تشكيل ملامح البؤس على الشاشة

فيلم “تحرر” من الأعمال السينمائية التي أظهرت مآسي العنصرية، وقد نجح المخرج “أنتوان فوكوا” في إظهار مآسي وسيرة “بيتر جوردون”، وقد استطاع هذا المخرج أن يخلق ديكورا مثاليا، أعاد فيه تمثيل الأحداث وفقا لسياقها التاريخي والإنساني.

فاختار مكانا عكس فيه روح القصة وتفاصيلها، إضافة إلى ألبسة الممثلين والمكياج الذي أعاد تشكيل ورسم ملامح البؤس والشقاء والألم التي كانت مرتسمة على وجوه العبيد، مما خلق جسرا معنويا يمكن أن يوصل إلى المتلقي بسهولة تامة، وأعطى للفيلم نوعا من المصداقية.

معسكرات العبيد التي كان يعمل فيها بيتر مع رفاقه السود

من الناحية الفنية أو المعالجة الإخراجية لم يكن هذا الفيلم أبرز أعمال “أنتوان”، لأنه لم يعطه الزخم المطلوب، ولم يعكس فيه تلك اللغة السينمائية التي أظهرها في أفلامه الأخرى، بمعنى أنه قدّم فيلما بقوالب كلاسيكية، انطلاقا من المطاردة وتصاعد الأحداث والبناء الدرامي الذي اعتمده، لهذا جاءت معظم الأحداث متوقعة، لم يكسر فيها أفق توقع الجمهور.

أداء البطل واحترافية التصوير.. رهان الجماليات

من جهة أخرى أظهر الفيلم جماليات متعددة، أهمها تمثيل “ويل سميث” الذي عكس الشخصية وتقمصها بمقدرة كبيرة، إضافة إلى التصوير الذي أعطى إحساسا بأن معظم العمل صُوّر بلقطة واحدة دون قطع، وهي خاصية جمالية تتطلب جهدا كبيرا لتنفيذها.

وقد قام بهذا الأمر مدير التصوير “روبرت ريتشاردسون” الذي يملك تجربة وخبرة كبيرين، مما جعل “أنتوان” يعتمد عليه، خاصة أن الفيلم يميل إلى الأبيض والأسود، وهو خيار جمالي رفعه المخرج من أجل إعطاء مصداقية للفيلم، وهي مخاطرة كبيرة منه، لكن بفضل التصوير الاحترافي والمعالجة فقد نجح في هذه الخطوة.

قلعة الحرية.. عنصرية ترسم وجه أمريكا الآخر

عكست القصة وتشابكها العميق مع الألم أهمية الفيلم، لأنه ساهم في إبراز وجه أمريكا الذي تحاول أن تخفيه عن العالم، خاصة أن آلام العنصرية وأوجاعها لم تنتهِ إلى هذا اليوم، وذلك ما تطالعنا به الوسائل الإعلامية بشكل يومي تقريبا من خلال الحوادث التي يقوم بها البيض ضد السود في شوارع أمريكا، وربما آخرها وليس الأخير صورة الفيديو الذي انتشر قبل شهور قليلة، ويظهر عنف الشرطة الأمريكية اتجاه امرأة سوداء مريضة عقليا، وقبلها ما حدث لـ”جورج فلويد”.

كثيرة هي الأمثلة لا تعد ولا تحصى في أمريكا تجاه السود، وهو ما يثبت بأن العبودية انتهت، لكن العنصرية لا تزال تنخر المجتمع الأمريكي الأبيض إلى غاية اليوم، رغم محاولة الإعلام وحتى السينما ومن خلفهما رجال السياسة، تصويرَ أمريكا على أنها قلعة من قلاع حقوق الإنسان والعدالة.


إعلان