“جنة بين الأطلال”.. منجم حديد استحوذت عليه الطبيعة فصار كنزا بيئيا

في هذه الأعماق لا يزال الأمل في العثور على آثار منجم لاخيونا، فهذه الآثار دليل حي على المئات من الرجال والنساء والأطفال الذين عانوا قسوة العمل بالديناميت والفؤوس لاستخراج الحديد المدفون في جوفه الصخري.

في هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية نتعرف على هذا المنجم في جنوب غرب شبه الجزيرة الإيبيرية، وقد بدأ استغلاله في أواخر القرن التاسع عشر، وبلغ أوج نشاطه إبان الحرب العالمية الأولى، مع تصاعد الطلب بشكل كبير على الحديد، لكن مع عودة الهدوء إلى المنطقة وصل الطلب عليه إلى أدنى مستوى ليغلق نهائيا في العام 1921.

بعدها خيم الصمت على هذا الوادي العملاق الذي تبلغ مساحته 800 ألف متر مربع على امتداد لا يتجاوز كيلومترا واحدا، وعمق يصل إلى 100 متر، وفي غضون سنوات قليلة أعادت أيدي البشر لهذه المنطقة سيرتها الأولى التي كانت عليها قبل آلاف السنين، حينما كانت الأرض مجرد تكوينات صخرية عارية هائمة في فضاء الكون، لكن شيئا ما بدأ يتغير في لاخيونا.

لاخيونا.. جرح غائر أحدثه الإنسان في جسد الكوكب

في هذه البقعة المفقودة من العالم، حيث تسود الصخور والظلمة؛ تظهر دلائل على تراخي قبضة الشتاء، وتخلد الخفافيش إلى سباتها في هذا المخبأ طوال الشتاء مغلفة أجسامها بأجنحتها، منتظرة الربيع، لكن مع الأسف -كما هي سنة الكون- سيموت بعضها قبل أن يدركه الفرح بالحياة التي تستعيد رونقها بالخارج.

تبدأ خيوط الحياة بالتسلل إلى أوصال هذا المنجم وتوقظه من لذة الأمن، حيث يتوارى لاخيونا عن العيون بين بساتين الزيتون وأشجار البلوط وغيرها من النباتات المميزة لغابات البحر الأبيض المتوسط التي تغطي هذه المنطقة.

يبدو المنجم كما لو كان جرحا غائرا أحدثه البشر، ولكنه يخفي في ثناياه كنزا طبيعيا نفيسا، ويتحول إلى فردوس يفيض بالحياة النباتية والحيوانية.

يبدو المنجم كما لو كان جرحا غائرا أحدثه البشر، ولكنه يخفي في ثناياه كنزا طبيعيا نفيسا

هذا البعث المدهش جعل هذا المنجم المهجور يستحيل إلى نظام بيئي فريد، فما بدا أنه سيكون صحراء جرداء تحت الأرض بات جنة تنبض بالحياة، نسمات الرياح وقبلات المطر على وجنات المنجم المهترئ حلت محل ضجيج العمال الذين كانوا أسباب هذا التحول المذهل الذي لا يزال قائما.

وكر البومة.. موسم التكاثر لساكن الكويكب الصغير

يمكننا اعتبار لاخيونا كويكبا صغيرا داخل كوكبنا الذي يشهد عمليات مماثلة منذ ملايين من السنين، كثمرة لنواميس الكيمياء والفيزياء، فانبعاث الحياة فيه كما كان الحال على الأرض.

استفاد المنجم من النظام البيئي الذي خيم عليه، وأدى إلى تشكل مناخ خاص داخله يتميز برطوبة عالية وحرارة معتدلة مستقرة، إضافة إلى تعرض بشكل محدود لأشعة الشمس، وعلى سبيل المثال فإن شجر الميس عادة لا يعيش هنا، لكن الظروف الخاصة في هذا المكان تجعله واحة لهذه الأشجار الشبيهة بشجر الدردار.

أما البقايا التي تغطي قاعدة الشجرة فتعود إلى ساكن آخر في لاخيونا، إنها البومة السوداء، ذلك الطائر الجارح الخجول الذي تصعب رؤيته باعتباره مخلوق ليليا، لكنه الآن في منتصف موسم التكاثر، ويتعين عليه تمديد ساعات العمل لتوفير الطعام.

هنا تتابع كاميرا الفيلم، واحدة من عمليات الصيد الدقيقة التي تقوم بها هذه البومة السمراء، لتحظى في النهاية على وجبة شهية لها ولصغارها الذي ينتظرون عودتها بفارغ الصبر.

يتسم البوم بشراهته الكبيرة، ورغم أنه طائر ليلي فقد يواصل الصيد حتى في النهار، وبعد خمسة أسابيع من ولادتها تغادر صغار البوم العش، معتمدة على نفسها في تأمين غذائها.

فئران لاخيونا.. ملاذ آمن للتزاوج وسط المنجم

في لاخيونا تجد الفئران موئلا لها، ورغم تعرضها لخطر محدق دائما من المفترسات، فإنها تغامر بسبب وفرة الغذاء وكثرة الزوايا والشقوق التي تتخذها جحورا لتخزين طعامها وولادة صغارها.

الوقت الآن موسم تكاثر الفئران، مما يعني حياة ترحال محمومة للذكور الذين يتخذون عدة زوجات، ويقطعون مسافات شاسعة للبحث عن أكبر عدد ممكن من الإناث للتزاوج، وبمجرد تحقيق مرادهم يغادرون للبحث عن فرص أخرى، وفي المقابل تستعد الإناث لدخول طور الأم التي تستقبل بالحب كل وافد جديد إلى عالمها، وفي جحرها الذي فرشته بالأعشاب والأوراق الجافة، قد ترعى الفأرة 7 صغار في عام واحد.

نزع لاخيونا حلته الخضراء، وهو الآن يتزين بثوب جديد من الألوان مع تفتح الزهور، وهنا يتجلى سحره بأزهار الأروكيد بتنوعها ووفرتها، وهو أمر استثنائي بالنسبة لموقعه الجغرافي، كمٌّ كبير من الزهور التي تقدم نفسها قربانا لجميع أنواع الحشرات لتلقحها مقابل الغذاء، كلهم من هذه الكائنات الدقيقة هو تجسيد للطاقة الحيوية التي حولت المنجم إلى حقيقة واقعة.

وتتجدد ديمومة الحياة، حتى في جسم هذه البومة الصغيرة، فقد حل موسم التزاوج كما يتضح في النداءات المستمرة للذكور، مما يغري الإناث بالاقتراب بحميمية متزايدة إلى أن يكتمل التزاوج، ويحصل دون أي اكتراث من قاطني المنجم الآخرين.

سمنة الصخور الزرقاء.. طائر خجول يجد ضالته في المنجم

هنا في لاخيونا يظهر طائر آخر، إنه “سمنة الصخور الزرقاء”، بالنسبة لهذه الطيور الخجولة التي تتوارى عن الأنظار في الشقوق الصخرية، فإن عالم لاخيونا يهبها قائمة طعامها المفضلة من فواكه وحشرات إلى جانب مواقع التعشيش المثالية.

يتميز الذكر بريشه الأزرق الداكن، ولا تقتصر مهامه على تغذية فراخه، بل يترتب عليه عمل أساسي آخر للحفاظ على صحتها وسلامتها، فهو يزيل الفضلات الذي ينتجها صغاره، وهذا لا يجنبه المشاكل الصحية فحسب، بل يضمن عدم قدوم المفترسات إليها بفعل رائحته.

تواصل طيور صخور السمنة الزرقاء عملها دون كلل أو ملل، وتبنى هذه الطيور أعشاشها في الأماكن المخفية حيث يصعب الوصول إليها.

عادة تضع الأنثى بيضتين إلى خمس، وإذا نالت تغذية جيدة من والديها تصبح الفراخ مستعدة لمغادرة العش بعد أسبوعين فقط من فقسها.

عنكبوت الذئب والهدهد.. أساليب الصيد والتعشيش

هناك ساكن آخر في لاخيونا خرج أيضا للصيد وهو مجهز لذلك، إنه عنكبوت الذئب الذي يستقبل الاهتزازات الناتجة عن أي فريسة محتملة من خلال الشعيرات على أرجله، بالإضافة إلى رؤيته الفائقة من خلال 8 أعين يوجهها باتجاهات مختلفة.

إنه أحد أكبر عناكب أوروبا، وعلى هذا الجندب الذي يمر بجواره أن يأخذ أقصى درجات الحذر، لكنه لا يملك أي فرصة للنجاة، فليس على العنكبوت الآن سوى امتصاص الحياة من عروقه.

الحكايات خارج المنجم مختلفة، فهناك يرعى الهدهد صغاره في مكان ملائم جدا، فهو صاحب ذوق خاص في أماكن تعشيشه، إذ يفضل الشقوق المفتوحة داخل المنحدرات، وليس غريبا أن يبني عشه في شقوق داخل المباني والجدران.

في لاخيونا تجد الفئران موئلا لها بسبب وفرة الغذاء

ويعتبر منقاره الطويل وسيلة فاعلة للبحث عن العشب واختراق الشقوق الأرضية التي تعد مخبأ للحشرات واليرقات والديدان والزواحف الصغيرة، وكلها أطباق مفضلة لديه، وبمجرد أن تختار الأنثى مكانا تقوم بتنظيفه جيدا قبل وضعها بيضها واحتضانه.

ها هنا مشكلة في عش الهدهد، فقد حان وقت مغادرة الفرخ الكبير للعش لكنه لا يريد أن يخرج، يتظاهر الوالدان بأنهما يطعمان أخاه الأصغر، وأنهما لا يهتمان به، يصيب هذا التصرف الفرخ البائس بإحباط شديد، فضلا عن الخطر الذي سيواجهه في الخارج لكنه يقرر الخروج، وعند محاولته العودة للعش من جديد تبوء محاولته بالفشل، فلم يعد أمامه سوى القيام بأول رحلة لتبدأ معها حياته الجديدة.

البومة القرناء.. أشرس الجوارح الليلية تكسر هدوء الظلام

ترخي مملكة الظلال سدولها على لاخيونا ليخرج صيادو الليل باحثين عن فرائسهم، زعيمة هذه العصبة بلا منازع هي البومة القرناء، أشرس الجوارح الليلية الأوروبية، ونعيقها الحزين يشق خيوط الظلام التي تغلف أجواء المنجم.

يعرف قاطنو المكان معنى ذلك، فلقد خرج المفترس الأكبر للصيد، ولم يعد أحد آمنا حتى الصيادين الآخرين، لكن هذا النعيق مريح لصغار البومة، فهي إشارة لها بقرب عودة والديها حاملين الطعام.

لا تأبه البومة القرناء كثيرا بمكان ولادة أفراخها، رغم أن إيجاد البقعة الملائمة ليس أمرا هينا على الإطلاق، فليالي لاخيونا الحالكة تحمل في عتمتها أخطارا جمة لفراخ البومة القرناء، التي تعد وجبة شهية لكثير من طراق الليل، خصوصا سمور الزان.

نعيق البومة الحزين يشق خيوط الظلام التي تغلف أجواء المنجم.

مع بزوغ الشمس تنتهي ليله الصيد للبومة القرناء، لتقضي وقتها في حراسة عشها وصغارها، ولا يمكنها التخلي عن ذلك، لأن صيادا آخر يتربص بالجوار، إنه الرباح، وعلى الرغم من أنه حيوان لاحم فإن ثمار شجرة التين تغريه وتشغله عن ملاحقة طرائده من صغار طائر البوم.

يتقاسم هذا الحيون مع شجرة التين بأنهما ليسا أصيلين في المكان، فقد قدم أسلافه من شمال أفريقيا إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، أما شجرة التين فجاءت أصولها من شرق البحر المتوسط.

أسد النمل.. صانع الفخاخ المفترس يفسد نشاط النمل

في أروقة المنجم المهجور يذرع النمل العامل المسافات جيئة وذهابا حاملا الطعام إلى تل النمل، لكن نشاطه هذا ينبه مفترسا مرعبا له هو أسد النمل أو ليث عث الريم، ورغم أن اسمه قد يوحي بذلك فإن هذا الحيوان لا ينتمي لفصيلة النمل، بل هو نوع من الحشرات الشبكية الأجنحة التي تتغذى على النمل.

ومن أجل اصطيادها يتحول أسد النمل إلى عامل منجم، فيبدأ العمل بالتمرغ على الأرض، متخذا بطنه محراثا لرسم حفر دائرية تشكل فخاخا للنمل.

عندما ينتهي أسد النمل من الحفر يدفن نفسه في قلب المصيدة منتظرا فريسته، وما تلبث أن تسقط إحدى النملات في المصيدة، وما أن تصبح تحت فكه حتى يبث سمه فيها فيشل جسدها، ويكون مصيرها الهلاك.

السلمندر.. بيئة مثالية لكائن برماوي ثقيل الحركة

يعتبر الماء المكون الأساسي لهذا الفردوس الدفين، وتتشكل منه برك صغيرة متفرقة في أعماق المنجم، هناك تزدهر أنواع مختلف من البرمائيات مثل السلمندر. إنه ثقيل الخطوات لا يملك درعا يحميه من المفترسات، لكن جلده يتميز ببقع صفراء، كأنه يقول عن نفسه إنه كريه المذاق ولا يصلح للأكل.

التنفس السريع ووضعية الانتصاب هما إشارتان إلى أن السلمندر مستعد لمرحلة التزاوج، ومع أنه يقضي حياته على اليابسة فإنه يولد في الماء، حيث تضع الإناث اليرقات بعد تشكلها.

زعامة هذا المكان تجعل الذكر أكثر جاذبية وإثارة، لكن مع وجود ذكر آخر لا بد له أن يقاتل حتى يحصل على شريكته، صراع قصير مرير ينتهي بإقرار الذكر الأضعف بهزيمته وانسحابه من ساحة المعركة، ليتباهى خصمه ببطولاته.

وفي المنجم، تزدهر أكبر أنواع السلمندر الأوروبية في أكثر الأماكن رطوبة، إذ يمضي سلمندر الماء الإيبيري المضلع وقته بين اليابسة والماء، ويتشابه مع السلمندر في امتلاك وسائل قليلة للدفاع عن نفسه.

تتوافق البقع الملونة مع ضلوع سلمندر الماء الإيبيري، وعندما يستشعر خطرا يهدده، فإنه يبرزها مفرزا مادة سامة تهيج الأغشية المخاطية لأي حيوان يحاول غافلا أن يلتهمه، لكن وسيلته المثلى هي اللجوء إلى قاع البركة.

عالم الخفافيش.. مستعمرات الكائنات الثديية المجنحة

تشكل تجاويف الأرض سكنا مثاليا لهذه الثدييات المجنحة المسالمة، ورغم سمعتها السيئة فإن الخفافيش مفيدة، لأنها تتغذى على الحشرات واللافقاريات، وغالبا ما تتشارك مجموعة الحيز نفسه.

يضم لاخيونا 8 أنواع من الخفافيش، منها خفاش الحدوة الصغير وخفاش حدوة مهيلي والخفاش الرمادي طويل الأذن.

تشكل الإناث مستعمرات تكاثر كبيرة يستبعد منها الذكر، وخلال الأسابيع الأولى من حياتها لا تترك الصغار أمهاتها، إلى أن تتمكن من الطيران خارج الكهف لتبحث عن طعامها بنفسها، وتعد الخفافيش مثالا على التنوع البيولوجي الذي انبعث من أنقاض المنجم المهجور.

يجد الهدهد في المنجم ملاذا آمنا بسبب توفر المأكل

تسبق الأذن العين أحيانا، وهذا ينطبق على كائن آخر في هذا المكان، فهنا يتردد هديل الحمام الجبلي عبر الأروقة التي تعشش فيها حتى يغمر صداه كل شيء، كثيرا ما يتزاوج الحمام الجبلي مع الحمام الداجن، لذا يصعب التمييز بينهما، لكن حمام لاخيونا يأبى حياة الأسر.

يرقة الفراشة.. كفاح في موطن الكائنات الأسطورية

يضم هذا المكان الخفي بين جنباته حيوانات كثيرة غير متوقعة، فهو كنز طبيعي سري وموطن لمخلوقات مثيره تبدو من نسج القصص الخيالية مثل يرقة الفراشة خطافية الذيل التي تعيش مرحلة نموها الثانية.

تمثل هذه المرحلة نهاية تطور اليرقة، وتلجأ فيها لاكتساب اللون المموه لردع المهاجمين، لكن حتى في حال تعرضها لهجوم بعضها، فإن لديها هياكل خاصة في مقدمة رأسها تطلق من خلالها مواد كيميائية تنفر النمل والذباب وتطردها، لكن هذه الإفرازات لا تكفي لإبعاد الطيور، عدوها الأول.

وبعد ذلك، وفي منطقة يخفيها الغطاء النباتي يستعد أحد الساكنين لتحول جذري في دورة حياته، فاليرقة تستعد لتحولها النهائي، إذ تثبت نفسها إلى الغصن المختار بحبل متين من نسجها للجزء السفلي من جسمها.

وبمجرد أن تثبت نفسها بإحكام، فإنها تستغرق يوما أو يومين للخضوع لتغييرها النهائي، إنها تحرر نفسها من زيها الزاهي، مكملة تحولها من يرقة إلى شرنقة، في داخلها تجري واحدة من أعاجيب الخلق.

فالحيوان الذي كان قبل أيام آلة معدة بشكل لا يصدق لالتهام الطعام، يتخلص من جسمه ويعيد بناءه من جديد، ويستحيل كائنا مذهلا كامل الاختلاف، ولا يبقى إلا أن يتدفق الدم الشفاف عبر أنسجة جناحيها ليملأها، أمام الفراشة كاملة النضوج الآن بضع أسابيع لتطير وتعثر على شريك مناسب تتزاوج معه.

عالم الرخويات.. كائنات ثنائية الجنس تبحث عن شريك

تروق الرطوبة العالية في المكان للرخويات ثنائية الجنس التي تنتج حيوانات منوية وبويضات، لكنها يجب أن تتزاوج مع شريك، لأنها لا تستطيع تخصيب نفسها، وبإمكانها التحرك إلى الأمام عن طريق تقليص وإطالة أجسامها بالكامل، بمساعدة المخاط الذي يجنبها الاحتكاك، كما يمكنها من تجاوز المنحدرات.

ويعتبر هذا المخاط أيضا منظما لدرجة حرارة جسدها، كما يحرسها من البكتيريا والفطريات، ويصد عنها الحشرات الخطيرة، ويساعدها على إزالة المعادن الثقيلة من أجسامها، ويمكنها من الوصول إلى نباتات الترمس خارج المنجم.

صقر الحدأة وعقاب السبر.. منافسة بين جوارح السماء

تواصل الكاميرا عرض مزيد من عجائب هذا المكان، فقد جفت النباتات الشائكة وانقضت عليها عصافير الخضير بحثا عن البذور، لكن مع هبوب الرياح تتناثر هذه البذور، ولا يبقى على الطيور سوى استخراجها من غلافها الخارجي، معتمدة على مناقيرها القوية، لكن بمجرد دخول عصافير الخضير إلى منطقه البومة الصغيرة، تصبح هدفا لها وطعاما لصغارها.

بوصول صقر الحدأة، يدب الرعب في قلوب الجميع، ورغم أنه من آكلات الجيف فإنه صياد مقدام لا يفلت من مخالبه أحد، وعلى الجميع الاختباء، وهنا تلتقط كاميرا الفيلم دخول لاعب جديد إلى مشهد الحياة أو الموت، إنه عقاب السبر الذي يركز أنظاره على إحدى الحمامات الجبلية التي أفقدها الظمأ صوابها، وأضحت فريسة له.

ظل صقر الحدأة يراقب، ولكن لا يقلقه ذلك كثيرا، فكلاهما يعرف الفائز في هذه المعركة، وهو يدرك أن التفكير بانتزاع الغنيمة من العقاب أمرا يفتقر إلى الحكمة، وبعد أن تناول فريسته يغادر عقاب السبر المنطقة، ويتنفس سكان الجرف الصعداء، لكن النزاعات المحلية تبقى كثيرة في الوادي.

طيور الحسون.. كارثة تبيد العائلة في أعشاشها

على أحد أشجار التين الوفيرة في لاخيونا، يربي أحد طيور الحسون صغاره، وتتيح الظروف الملائمة في المنجم القديم لهذه الطيور بالتكاثر مرتين أو ثلاثة في الموسم، فالمكان المرتفع يمنع المفترسات من الوصول إلى العش، كما أن البيئة تقيه سوء الأحوال الجوية لا سيما أشعة الشمس الحارقة.

لكن سطوة صيف شبه الجزيرة الإيبيرية وأيامها القاسية اللاهبة لا ترحم أحدا، فقد وصلت أشعة الشمس إلى أولئك الذين ظنوا أنهم في مأمن منها، تعود طيور الحسون إلى أعشاشها لحماية فراخها بأقصى ما تستطيع، وتتناوب عليها بتغطيتها بأجنحتها لمقاومة أشعة الشمس إلى أن تعجز عن احتمالها، فتضرب الكارثة عائلة الحسون بلا رحمة، هكذا هي الحياة في لاخيونا بكل آمالها وآلامها.

في مكان مفعم بالحياة بقعة مذهلة بحق، قدر لهذا المكان أن يكون كتلة من الصخور الجرداء والركام المهجور بعد انتهاء عهده كمنجم للحديد، ومع ذلك خرج ظافرا من معركته ليكون انتصارا للطبيعة في هذا الصرح البيئي، فهو كنز يضج بالطاقة والحيوية في أعماق الأرض.