“لنا ذاكرتنا”.. عودة الثوار إلى تسجيلات الثورة الأولى في درعا

يلبي ثلاثة من الناشطين السوريين دعوة المخرج رامي فرح للمجيء إلى قاعة مسرح باريسي ومشاهدة خامات فيلمية (تسجيلات فيديو) تعرض أمامهم على شاشة عرض كبيرة.
من العرض يظهر أن أكثر التسجيلات هم من قام بتصويرها بأنفسهم خلال المرحلة الأولى من انطلاق الثورة السورية في مدينة درعا، وكانت جزءا من جهد إعلامي تطوعي، فقد عَرَّضوا حياتهم للخطر من أجل توثيق ما جرى، وحتى يطلع العالم على تفاصيل الأحداث التي رافقت الثورة السورية -كما يصرون على تسميتها- منذ انطلاقتها من المدينة قبل أكثر من عقد من الزمن.
المَشاهد المعروضة أمامهم عادت بذاكرتهم إلى الوراء، إلى البدايات التي حملت الكثير من أحلامهم وطموحاتهم بتغيير سياسي يحقق الحرية المنشودة، وينهي مرحلة طويلة من الحكم الاستبدادي.
“من يتحكم بالماضي يسيطر على المستقبل”.. ذاكرة الثورة
معظم التسجيلات الخام ملتقط بكاميرات هواتف محمولة أو بكاميرات فيديو بسيطة، وقد حُفظت وجُمعت في قرص خوفا من ضياعها، أي ضياع جزء مهم من الذاكرة الجمعية السورية معها، ثم سُلِّمت إلى صانع الوثائقي الذي قرر إعادة تشكيلها سينمائيا، واستنطاق شهودها من خلال إحضارهم معا ليشاهدوا ويتذكروا تفاصيل ما صوروه.
وكأنه بهذا الفعل يريد إبقاء جذوة ذكريات الثورة مشتعلة تحفظها ذاكرة المشاركين فيها وكاميراتهم التي تعاند النسيان، وتصر على أن تقول “لنا ذاكرتنا” كما هو عنوان الفيلم.
ذاكرة ثورة لا أحد باستطاعته محوها، هذا يتأكد من العبارة الأولى التي يثبتها الوثائقي في مفتتحه، والمأخوذة من رواية “1984” للكاتب البريطاني “جورج أورويل”، إذ يقول “من يتحكم بالماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على المستقبل يتحكم بالماضي”.
أبناء درعا.. شهود انطلاق الشرارة الأولى من الثورة
لتوفير أكبر قدر من المصداقية يُطلب من النشطاء تقديم أنفسهم للجمهور، فيظهر يدن دراجي متأثرا بوالدته التي هي مثاله الأعظم، وهو يحتذي بها وبكرمها الذي لا حد له، ويريد مثلها منح الآخرين كل ما يملك، يحب الكتب والمطالعة ويطمح إلى رؤية بقية العالم.
أما عدي الطلب فهو رياضي ولاعب كرة يد، وقد شارك في بطولات شبابية، وأحرز فريقه فيها عددا من الكؤوس. وأما راني المسالمة فهو طالب كلية الحقوق، وهو يكره الظلم ويقف مع أصحاب الحق.
كلهم من مدينة درعا، شهدوا انطلاق الثورة منها، وتسجيلاتهم لبدايتها يضعها الفيلم خلفية يبني عليها مسار الحراك العفوي، وجهدهم في رصد مظاهر تصاعده الذي أخاف النظام، فأسرع في مواجهته بالنار، وباعتقال المشاركين فيه وتعذيبهم في أقبية أجهزة أمنه القمعية.

ليأخذ المُشاهد فكرة عن جغرافية المنطقة، يضع صانع الفيلم أمام الحاضرين على خشبة المسرح مخططا توضيحيا بحجم الشاشة للمدينة عشية انطلاق المظاهرات منها، وقد تصاعدت سريعا، لتشمل كل المناطق والقرى المحيطة بها.
إحراق الجماهير لتمثال الأسد.. حلاوة اللحظات الأولى
يتوقف المتحدثون طويلا عند إسقاط الجماهير لتمثال بشار الأسد المنصوب في وسط ساحة المدينة وحرقه، لأن ذلك الفعل شكل انعطافا حادا في مسار الحراك الشعبي، وكسر حاجز الخوف عند الناس، وزادهم ثقة بأنفسهم.
على نفس المخطط يؤشرون إلى موقع اتخذه قناص كان يقوم بقتل المتظاهرين بدم بارد، وقد أسموه “القناص حازم”. ورغم افتراقهم عن بعضهم سنوات طويلة، فهم يتذكرون نشاطهم المشترك لتوثيق ثورة آمنوا بها وبأهدافها السلمية، لهذا كانوا حريصين على إبعاد كل تشويه متعمد يطالها، من خلال إعادة عرض مجرياتها التي وثقوها بكل صدق وبأدوات فنية بسيطة تعلموها بالممارسة.
ولأنهم لم يكونوا إعلاميين أو صحفيين محترفين، فقد وجدوا في الكاميرات وما تسجله عدساتها قدرة هائلة على نقل الحقيقة، وتكذيب الدعاية الرسمية التي تحاول وصمهم بالإرهاب، في محاولة منها لتبرير ما تقوم به السلطات من أفعال شنيعة، تفاصيلها الدقيقة تُثبت عبر التسجيلات التي تعرض حقائق جديدة، ربما لم يعرفها العالم بذلك الوضوح الذي يقدم بها في “لنا ذاكرتنا”، وهي حقائق حرص على تسجيلها شبان طموحون، ومن خلالها أضحوا شهودا على تجربة ذاقوا حلاوة لحظاتها الأولى، كما ذاقوا بعد حين مراراتها وعذابها.
عدسات الثوار.. عين درعا التي تنقل المشهد للعالم
لا يضع المخرج فصولا للفيلم، بل يترك المشاركين فيه يتذكرون تفاصيل الأحداث بعفوية، وأحيانا يتوقفون عند أحداث ووقائع معينة بتأثير أسئلة المخرج وتعليقاته الشخصية، إذ كانت تضفي جانبا مشوقا على مساره المشحون بأوجاع مخلوطة بآمال كبار لشعب كان حلم بتغيير منشود طال انتظاره.

هذا الأسلوب السردي الحر والعفوي وفر تصاعدا دراميا صادقا، تخللته توقفات بسبب حدة المشاعر التي كانت تنتاب المشاركين فيه بعد كل مشهد مؤثر يذكرهم بفقدان عزيز، أو خسارة قريب، أو رؤيتهم لبيت لهم تهدم بفعل القصف.
عملهم سوية يقود الوثائقي إلى عرض جانب إعلامي متعلق ببروز ظاهرة “المراسل الصحفي غير المحترف”، ففي سوريا أَمست كاميرا هاتف المراسل عينا يرى من خلالها العالم ما يجري في درعا، عشية انطلاق الثورة منها في شهر مارس/آذار من عام 2011.
خطاب الرئيس.. إعلان الحرب على الشعب
“من يتحكم بالماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على المستقبل يتحكم بالماضي”.
أحاديث النشطاء وذكرياتهم تدفع الوثائقي لتثبيت تفاصيل الحراك الجماهيري وتأكيد سِلميته، مشاركتهم فيه وصدق وصف مشاعرهم لحظة انطلاقه تؤكد عفوية حراكهم، لكن المدهش هو كثرة المتوفر من التسجيلات ووضوح تفاصيلها، رغم أن مَنْ صورها لم يكن محترفا.
يعترف المشاركون أمام صانع الفيلم بأنهم قاموا بتسجيل ما شاهدوه بدافع تصديقه، لم يخطر ببالهم أن الحراك سيتسع بتلك الدرجة التي اتسع بها، ولم يتوقعوا أن يمارس النظام أبشع الأساليب لدحره.
يثبت الوثائقي خطاب الرئيس السوري الذي أعلن فيه حربا على شعبه عقب انطلاق المظاهرات، كلامهم عن تصعيد النظام لقمع المتظاهرين يقود إلى توثيق تفاصيل دقيقة تبدأ من محاصرة الحارات في درعا واقتحام الجيش لها، مرورا بالحالة الهستيرية التي انتابت أجهزته الأمنية، ودفعتها لاعتقال الناس ومهاجمتهم بوحشية، فلم يسلم منهم حتى الأطفال.

تحضر الشعارات والأغاني والدبكات التي رافقت التظاهرات كدلالات على سلمية وعفوية المشاركين فيها، وتعبيرا عن لحظة انتشاء بحلم قارب التحقيق، أو هكذا بدا لهم لحظتها.
“الشعب يريد إسقاط النظام”.. مراسيم دفن تلهب الثورة
توثيق عملية دفن المتظاهرين الذين سقطوا برصاص الجيش وأجهزة الأمن السورية له دلالاته الكبيرة أيضا، لأنه تحول من مجرد مراسيم دفن إلى دعوة لاستمرار الثورة واستنهاض الشعب السوري بأسره. يتدخل المُخرِج بصوته ليسجل ذكرياته في دمشق وتأثير أصداء ما يجري في درعا حينها، عليه وعلى بقية أبناء الوطن.
لقد ألهبت المظاهرات مشاعر السوريين وشجعتهم على المشاركة فيها، وتوسيع شعاراتها وهتافاتها من “الشعب يريد إسقاط التمثال” إلى آخر أشمل وأكثر دلالة “الشعب يريد إسقاط النظام”. وفي الوقت نفسه لا يتجاهل الوثائقي النقاشات التي تثيرها المشاهد المصورة، إذ يظهر فيها بعض المعارضين وهم يحملون سلاحا بسيطا في وجه النظام.
بكلام صريح أمام الكاميرا يحيلون أسباب حمل السلاح إلى موقف المنظمات الدولية السلبي من حراكهم، وسكوت العالم عن جرائم النظام، ودعم بعض الدول ووقفها عسكريا إلى جانبه، ومع مرور الوقت لم يبق أمام السوريين خيار سوى الدفاع عن أنفسهم بالوسائل الممكنة.
“أبو نمر”.. مراسل يلجأ للتمويه لأجل التوثيق
رغم أهمية دورهم الدعائي، لم يتجاهل النشطاء الثلاثة نشطاء زملاء لهم لعبوا نفس دورهم في توثيق تفاصيل التجربة، فهم يتذكرون بألم وحزن الدورَ الذي لعبه صديقهم وزميلهم ابن درعا المراسل الحر محمد الحوراني الملقب أبو نمر.

فقد حاول ببساطة ودون معرفة أكاديمية نقل وقائع ما يجري عبر تقارير يسجلها بنفسه، ثم يقوم بإرسالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خوفا على حياته وحياة عائلته كان في البداية يبدل نبرة صوته، ويلجأ لوضع شعر صناعي فوق رأسه للتمويه عن شكله الحقيقي.
وفي مرحلة متقدمة، ومع تصعيد النظام لوسائل قمعه لتشمل كل المعارضين لسياسته؛ قرر أبو نمر الكشف عن وجهه، فقد كشفت تقاريره عن موهبة صحفية فطرية تطورت عبر اشتراكه في دورات إعلامية سريعة، فقد كانت تقاريره تثير غضب رجال السلطة، لذلك قرروا تصفيته.
حزن النهايات.. رصاصة قناص تكتب المشهد الأخير
كانت النهايات الشخصية حزينة، إذ يعبر المشاركون عن حزنهم لترك بلدهم، وبعضهم عاد إليه، مثل عدي الذي نُقل للعلاج إلى ألمانيا بعد إصابة ساقه بطلق ناري أدى إلى عطبه. إصابته وعودته تأخذ الوثائقي إلى مساحة أخرى تظهر فيها الصعاب التي كانت تواجه المعارضين، وبشكل خاص نقص الخدمات الطبية وصعوبة التنقل والاختفاء عن أعين أجهزة المخابرات.
لكن بالرغم من قسوتها نجح النشطاء الإعلاميون في توثيق أشد اللحظات دموية، مثل تلك التي تُبيّن لحظة استشهاد المحتجين برصاص القناصة، أو سقوط قنابل المدفعية على الأحياء السكنية، وأكثرها بشاعة إسقاط الطائرات براميل البارود على البيوت وساكنيها، وصولا إلى اللحظة التي يظهر فيها أبو نمر حاملا كاميرته محاولا عبور شارع يسيطر عليه قناص هرولة.
لكنه لم يصل إلى طرفه الآمن، بل اخترقت الرصاصة جسده وأردته قتيلا، لم يرغب زملاؤه برؤية مشاهد التسجيل لوقعه الثقيل على نفوسهم، لكن المخرج أراد أن يبقيه لأنه أراد أن يعرف العالم حقيقة ما جرى في سوريا، وأيضا حتى تبقى ذاكرة الثورة متوقدة لا يطالها النسيان.
فيلم “لنا ذاكرتنا” بسيط جماليا، لكنه غني في مضمونه وصادق فيما يعرضه عن البدايات أو الحلم.