“فينا”.. مسيرة أم الأمة وحامية السكان الأصليين في نيوزيلندا
يمثل شعب الماوري السكان الأصليين في نيوزيلندا، ويرجّح المؤرخون أنهم استقروا هناك على موجات متتالية منذ القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثالث عشر. ويصفهم المؤرخ النيوزيلندي “مايكل كينغ” بكونهم “آخر مجتمع بشري كبير على وجه الأرض لم يمسه ولم يتأثر بالعالم الأوسع”.
لكن اليوم لا تتجاوز نسبتهم 17.4% من سكان الجزيرة، بعد أن استوطنها المستعمرون البيض، فقد أرسلت شركة الهند الشرقية الهولندية الملاح الهولندي “أبيل تسمان” لدخول الجزيرة أول مرّة عام 1642، لكنّه واجه مقاومة شرسة من قبل السكان الأصليين، ثمّ أخذ الأوروبيون يتسللون إليها بأشكال مختلفة بعدئذ. وأُطلق على من حاول الاندماج مع الماوريين “الباكها”، ونالوا مكانة بينهم لخبراتهم المستجلبة.
وفي عام 1840، وقّع التاج البريطاني على معاهدة “وايتانغي” مع عدد من الزعماء البلديين، ضُمت بمقتضاها نيوزيلندا إلى الإمبراطورية البريطانية، على أن ينال شعب الماوري الحقوق التي يتمتع بها المواطنون البريطانيون أنفسهم، لكن قراءة بنودها وترجمتها لاحقا حوّلتها إلى سبب للمستوطنين للاستيلاء على الجزيرة، فإذا بمعاهدة الانضمام تغدو استعمارا ينقل ملكية أغلب أراضي الأهالي من الماوري إلى الباكها. ضمن هذا الأفق يتنزّل فيلم “فينا”، ليقدّم لنا صفحات من تاريخ نيوزيلندا في شكل قصّ سينمائي متقن.
“فينا”.. سيرة امرأة متمرّدة من شعب ثائر
فيلم “فينا” (Whina) الذي أنتج عام 2022، هو فيلم سيرة ذاتية، أخرجه النيوزلنديان “جيمس نابير روبرتسون” و”باولا ويتو جونز”، ليعرضا حياة “فينا كوبر” (9 ديسمبر 1895 – 26 مارس 1994) المرأة الماورية الملقّبة بـ”أم الأمة”، بوصفها زوجة وأما ومناضلة حقوقية ماورية، وقد تزعمت حركات الاحتجاج ضد تهميش السكان الأصليين للبلاد، واغتصاب أراضيهم.
يقتبس الفيلم جوانب من حياتها الخاصة والعائلية، ويقدّم دورها في المجتمع، سواء عبر صدامها مع نزعته المحافظة التي تُقصي المرأة من الفعل السياسي والفضاء العام، أو تتحكم في اختياراتها الخاصة، وتقصيها من المجتمع باسم العار، أو عبر صدامها مع المستوطنين الذين استولوا على أرض أجدادها.
يجمع الفيلم بين التخييل الذي يبتكر الحكايات الشيقة، والتسجيل الذي يقتبس الوقائع التاريخية ويجعلها خلفية للقصص المتخيلة. وينخرط في موجة سينمائية باتت اليوم أكثر انتباها إلى محنة شعب الماوري وإلى حقوقه الثقافية.
من تلك الأفلام فيلم “صاحبة الجلالة” (Her Majesty) الذي أخرجه “مارك جيه جوردون” عام 2008، وقد استلهمه من جولة الملكة “إليزابيث” الثانية في عام 1953 في نيوزيلندا. فجعل الرحلة سببا لنشأة علاقة بين الشابة ذات الأصول الأوروبية “إليزابيث واكيفيل” والعجوز الماورية “هيرا ماتا”، وخلفيةً لعمل الذاكرة التي يعود بها إلى تاريخ نيوزيلندا، فتعرض معاناة شعبها جرّاء العنصرية وبشاعة الاستعمار.
مسيرة الأرض.. رحلة لكشف احتيال الرجل الأبيض
يجعل الفيلم وصول المسيرة البرية “أرض الماوري” في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1975 إلى البرلمان في ولنغتون حدثا تاريخيا، وهي الخيط الناظم الذي يشدّ مختلف الأحداث على كثرتها، فقد رأى شبان من السكّان الأصليين الرافضين للتمييز الممارس ضدّهم في “فينا كوبر” قيمةً رمزية، بصفتها “أم الأمة” القادرة على تجميع كل القوى الماورية، ونزولا عند رغبتهم تقبل “فينا كوبر” قيادة المسيرة، وتتحدى في سبيل ذلك متاعبها الصحية وتقدّم السّن.
وتهدف مسيرتهم إلى استعادة أراضي الماوري المصادرة من قبل البيض، وإجبار الحكومة المنحازة على احترام معاهدة “وايتانغي” الموقعة عام 1840 مع التّاج البريطاني، مع أن هذه المسيرة لم تكن في حقيقة الأمر إلا سياقا اعتمده المخرجان، لعرض السمات المميزة من هدوء ورصانة وحكمة وفصاحة لهذه الزعيمة القادرة على استقطاب مختلف الأطراف، وحشدها لصالح قضية شعب الماوري.
ومن وجوه حكمتها رفضها للعنف، واختيارها النضال السلمي سبيلا للمطالبة بحقوق شعبها، فالمقاومة العنيفة تظل خيارا مشروعا لمقاومة المستعمر وللدفاع عن النفس، لكن ضريبتها ثقيلة وتخلّف مآسي بشرية.
لذلك اعتمد بعض الساسة خيار عدم العنف، ضمن فلسفة تحاول أن تتسامى عن نزعة الطبيعة البشرية فطريا نحو العنف، وتراهن على البعد الخيّر والمسالم من الإنسان، لتحقيق الأهداف الكبرى بفرض الاستقلال أو العدالة دون إراقة الدماء. فتلح “فينا” على الاحتجاج السلمي، وإقناع الحكومة بالخطابات العامة والعرائض والبيانات، أو بالضغط المباشر عبر التحركات الجماهيرية الكبرى، حتى تجعلها تسلم بالأمر الواقع وتتخلّى عن غطرستها.
وجع الذاكرة.. دوافع عميقة تقدح شرارة الوعي الوطني
لأحداث الفيلم موارد أخرى غير حدث المسيرة، فأثناء الرحلة ظلت ذاكرة “فينا” تعود إلى الماضي باستمرار، وظل الفيلم يورد ومضات متلاحقة نفهم عبرها حياة “فينا” الماضية، ودوافعها العميقة لقيادة المسيرة الراهنة، والدفاع عن حقوق شعب الماوري.
يبدأ هذا الماضي بنزاع على الأرض مع مزارع من “الباكها” يدّعي ملكيته لأرض أجدادها، وتتواطأ معه الشرطة فتعتقل “فينا”، ولا يطلق سراحها إلا بعد تدخّل الكاهن الكاثوليكي الأب “مولدر”، وقد شفع لها لكون والدها “هيرميا تي ويك” هو من بنى كنيسة البلدة التي يشرف هو عليها.
ستمثّل هذه الإهانة الحدث القادح لوعيها الوطني، ومبعث جرح نرجسي سيجعلها تتعلق بالأرض بوصفها هوية ووجودا، فتنخرط مع زوجها “ريتشارد جيلبرت” في مخطط حكومي يقوده عضو البرلمان الماوري “أبيرانا نغاتا”، ويشجع المخطط الماوريين على الحفاظ على ثقافتهم.
استطاعت “فينا” تطوير مزرعتهما، وحولتها إلى عمل تجاري ناجح، لكن منعرجا حاسما يعصف باستقرارها في القرية بعد موت والدها، ومرض زوجها بالسرطان.
ترك البلد.. اصطدام بالعادات يمزق أواصر القبيلة
تصطدم حماسة “فينا” مع قادة قبيلة “تي راراوا إيوي”، فعاداتهم لا تسمح للمرأة بأن تخطب في الرّجال، أو تعبّر عن رأيها في الفضاء العام، ثم تتضاعف الأزمة بعد اعترافها على رؤوس الملأ -بعد موت زوجها- بأنها حامل من “ويليام كوبر” مسؤول تجميع الأراضي، ونتيجة لذلك، تضطر إلى ترك البلد والهجرة إلى “أوتيريا”، حيث تزوجت “ويليام”، وبدأت معه حياة جديدة.
أثناء الحرب العالمية الثانية، تلتقي “فينا” قريبها “غابرييل” في مخيّم لتجهيز المقاتلين الماوريين، فتعلم أنّ البلدة تُهَجر وأنّ الأرض تُهمل، وبدافع شعورها بالمسؤولية تجاه شعبها، تقرر العودة إلى “بانجورو”، وتتصالح مع أقاربها، وتعمل على النهوض بالبلدة مجدّدا، وإحياء ثقافتها، وبناء قاعة للاجتماعات حتى يستطيع الجميع التعبير عن رأيهم بحرية.
لكن علاقتها مع الأب “مولدر” توترت عندما استنكر إحضارها لمنحوتات الماوري الخشبية التقليدية من زاوية دينية، فقد رأى فيها اعتداء على الثقافة الأوروبية المهيمنة، فدبّر حادثة حرق قاعة الاجتماعات، وبسببها أصيب “ويليام” بنوبة قلبية.
سلمية النضال.. سير على آثار أساطير الكفاح ضد المحتل
اضطرت “فينا” إلى مغادرة البلدة من جديد، واتجهت إلى “بونسونبي” في عام 1949. وهناك عملت على مؤازرة المهاجرين الماوريين الذين يتعرضون للتمييز، فلا يحصلون على السكن أو العمل، وانضمت إلى رابطة رعاية المرأة الماورية، التي تسعى إلى مكافحة تشرد الأهالي، وبطالتهم، وإدمان رجالهم على الكحول، بسبب تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
يجمع المخرجان ببراعة بين خطي الأحداث، وذلك عن طريق نجاح المسيرة، وتبليغ الصوت الماوري عاليا، وعودة “فينا” إلى بلدتها من جديد. فيعرض الفيلم صورا أرشيفية لها مع طفلة صغيرة وهما تقطعان مسلكا فلاحيا طويلا، عندها فقط نفهم سر تكرّر لقطات شبيهة بها على مدار المسيرة، فقد أراد المخرجان أن تكون اللقطة رسالة تعبّر عن تواصل مسيرة النضال، من أجل انتزاع المساواة التامة بين كل الأعراق في الدولة النيوزيلندية دون عنف أو دماء.
فيدرجان سيرة “فينا” ضمن النضال السلمي، ويرتقيان بصورتها إلى رتبة “المهاتما غاندي” الذي قاد نضال الشعب الهندي ضد المستعمر البريطاني، وحقّق عبره غايته في الحصول على الاستقلال، وكذلك القس “مارتن لوثر كينغ” الذي قاد نضالات السود ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة.
قصة الفيلم.. مسيرة ذاتية ترسم تاريخ شعب كامل
ينتهي المتفرّج إلى أنّ الفيلم في حقيقة الأمر سيرتان في الآن نفسه، أولهما سيرة “فينا”، فهو يعرض حياتها منذ ولادتها إلى شبابها ومراحل نضالها حتى عُزلتها بالبلدة، ويمرّر من خلالها قيمة التمسك بالعادات والتقاليد والوفاء، والدفاع عن حقوق السكان الأصليين بأشكال مختلفة، ويجعلها تتمرد على صورة المرأة التقليدية الخاضعة، فكان هاجسها الأول هو كيفية استصلاح الأراضي والرّفع من إنتاجيتها.
وثانيهما سيرة “شعب الماوري”، فيحيل الفيلم إلى تاريخهم القديم، حين كانوا يمتلكون كلّ الأراضي قبل قدوم المستوطنين الأوروبيين واستيلائهم عليها.
وفي منتصف مدته، وبوفاة زوج “فينا” الأول “ريتشارد”، يتحوّل اهتمام المرأة إلى القضايا الوطنية، فتعتني بالماوريين ضحايا الكحول والفقر، ضمن رابطة رعاية المرأة الماورية، ثم تشارك في مسيرة الأرض.
وفي الوقت نفسه، يحدث تحوّل عميق في وعي الماوريين، فيطالبون بالمساواة التامة واستعادة الأرض المسلوبة، ويحشدون التعاطف مع قضاياهم، ويعملون على تبليغ أصواتهم إلى الحكومة المركزية، دفاعا عن مصالحهم وعن هويتهم الثقافية.
ولا تكاد السيرتان تنفصلان، فبين رموزها تواصل وتكامل، فالمرأة تتحوّل إلى رمز للوطن وللقبيلة والأرض، والأرضُ تغدو امرأة على نحو ما، فترمز إلى العزة والشرف والخصوبة. ويحاك هذا النسيج بكثير من المكر الفنيّ، فيشدّنا الفيلم إلى أحداثه بتشويق يخلو من الفظاظة والتكلف، ويوجّه تعاطفنا مع قضايا الماوريين دون نبرة ميلودرامية تحد من قيمته الفنية، أو تأخذه إلى ما يجافي المنطق.
ويُحسن الفيلم تأثيث الأحداث وترتيبها على خطّ الزمن، فيجعلنا نتوهم أنّ التماثيل الخشبية مثلا أُحرقت في قاعة الاجتماعات، ويخلق في أذهاننا فكرة تعرّض الماوريين لتطهير ثقافي من قبل الأب “مولدر”.
وفي نهاية الفيلم مع نهاية المسيرة تُقدّم هذه التحف إلى “فينا”، فنكتشف أنّ شخصا ما أنقذها من داخل المحل ولم تُحرق، فتكون التماثيل جائزة لـ”فينا” لمثابرتها، ثم تتخذ بُعدا رمزيا يتجاوز التّحف ذاتها، للتعبير عن نجاح هذه الثقافة والهوية في المقاومة والصّمود في زمن هيمنة الثقافة الغربية على بقية الثقافات وإعدامها، ليظل التصور الغربي للحياة هو الأوحد.
أفلام السيرة الذاتية.. خيط رفيع بين التسجيل والتخييل
مثل أغلب أفلام السيرة الذاتية التي تُعرض على الشاشة الكبيرة، يثير فيلم “فينا” عددا من الإشكالات الفنيّة، فأصل السيرة الذاتية قصّ استعادي يتولاه شخص واقعي، يعلمنا بتفاصيل وجوده الخاصّ، ويركّز على حياته الفرديّة، وعلى تاريخ شخصيته تحديدا، وفق الكاتب المتخصص في السير الذاتية “فيليب ليجين”.
ولا يخلو هذا القص من فكرة توثيق الحقيقة، ومن تفاعل صاحب السيرة مع السياق الموضوعي، لذلك يتحوّل الصّدق -وهو قيمة أخلاقية في الأصل- إلى قيمة جمالية، فيحدّ الإخلال به من القيمة الفنية للنص، لكن عبور هذا الجنس الأدبي إلى السينما حوّل دلالته، بعد أن بات المبدع طرفا خارجا عن الحكاية، وأصبحت عناصر الفرجة ومهارة الإخراج في خلق الحكاية البديعة عاملين ضاغطين.
فيُطرح السؤال هنا حول حدود التسجيل والتخييل في الفيلم، وحول مشروعية التصرّف في الوقائع التاريخية -ولا سيما مع الشخصيات المعاصرة- في ظلّ تقبّل المتفرّج للفيلم، بوصفه تأريخا محضا.
وتتضاعف حدّة السؤال في هذا الفيلم بالذّات، فهو لا يخلو من نضال مأتاه الرغبة في التعريف بالقضية الماورية، وبشخصية فذّة آمنت بها. ولن يستطيع المتفرّج البعيد عن الثقافة الماورية غالبا أن يفصل بين الحقيقة والخيال من وقائعها.