“مثل جزيرة”.. غموض يلف نهرا يحارب الزحف العمراني في سويسرا

“الثقب هو مقياس لنسبية الأشياء. هناك ثقب فقط إذا نظرت من الأعلى، لكن أود أن أقترح الانزلاق إلى طيات الأرض وإجراء أبحاثنا من هناك”. هذه هي العبارة التي نقرأها على شاشة سوداء قبل أن يبدأ الفيلم، وهي عبارة مقتبسة من كتاب “الثقوب: البحث عن جغرافيا مألوفة” للكاتبة السويسرية “لويز باهو”.
الفيلم بعنوان “مثل جزيرة” (Like an Island)، وهو أول الأفلام الطويلة للمخرج السويسري “تيزيان بوشي” بعد عدد من الأفلام القصيرة، وهو يجمع بين القصصي والوثائقي في سياق خلّاب، فيستدرج المشاهد ويحتويه داخله، ويظل ينساب كما لو كان حلما، لذلك لا يتوقف الفيلم كثيرا ليقدم تفسيرات عملية محددة لما نشاهده.
ذهب النهر وحروب المخدرات.. غموض يلف الفيلم
إنه احتفال بالطبيعة وبالإنسان في أحضان الطبيعة، بالإنسان الفرد باعتباره كيانا خاصا، وبالتضامن الإنساني بين البشر بغض النظر عن اختلاف الثقافات والخلفيات العرقية، وهو يصور سكون الحياة، ويحاول أن يخترق فكرة التغيير الذي لا يأتي، والغربة التي تكمن وراءها أسبابها، ويجعل النهر رمزا كبيرا مستمرا للغموض، للمسار الأبدي الممتد، من وراء الإنسان ومن أمامه.
المكان منطقة ريفية أو بلدة صغيرة أقرب إلى جزيرة في ضواحي مدينة لوزان السويسرية في مقاطعة فافيرج، يعبرها نهر صغير هو نهر “فوشير”. والمشهد الأول يدور قرب النهر، حيث يتجمع عدد من الأطفال، يغسلون أقدامهم في مياه النهر، يتحدث أحدهم عن وجود الذهب في النهر، لكن الآخرين ينفون وجود أي معادن، ويتحدثون للكاميرا مباشرة (أي للمخرج) بأسلوب “سينما الحقيقة” عن سماعهم صوت إطلاق رصاص من منطقة قريبة، ويشيرون إلى ما يبدو أنها غالبا مشاجرة تتعلق بالمخدرات.
هذا الموضوع لن ينشغل به الفيلم كثيرا، فلسنا أمام فيلم تحقيق بوليسي، بل هو مدخل فقط للغموض الذي يصبغ الفيلم كله.
حارس النهر.. أسطورة العداء القديم بين الشرق والغرب
هناك رجل إفريقي ضخم الجسد واقف ينتظر، يشبه في منظره ديكتاتور أوغندا الراحل عيدي أمين، إلا أنه يختلف عنه تماما، فهو رجل طيب القلب ملائكي كطفل وديع. وهذا هو دانيال، يقترب منه شاب هو عمار عبد الكريم خلف، وهو عراقي، وعمار قادم لكي يستلم عمله حارسَ أمن في المنطقة، فيسلمه رئيسه دانيال أدوات العمل؛ شارة صفراء يربطها على ذراعه توضح طبيعة مهنته، وكشاف للضوء، وجهاز لاسلكي للاتصال مع دانيال وقت الحاجة.
أما المهمة المكلف بها كلاهما فليست التدخل في حياة الناس أو توقيفهم أو مطاردة الخارجين عن القانون، بل مراقبة المنطقة وما يجري فيها، ووضع شريط حول النهر لمنع الناس من الاقتراب منه.
سيظل هذا الأمر غامضا حتى النهاية، لكننا سنسمع قصة أسطورية ترويها إحدى النساء، فهي تقول إنه كان هناك عداء قديم بين منطقة تقع شرق هذه البلدة وأخرى غربها، وكان محظورا على أي شخص من المنطقة الغربية أن ينتقل للمنطقة الشرقية والعكس كذلك، لكن حدث أن وقع شاب من الغرب في حب فتاة من الشرق، ومع اعتراض الأهل وخوفا من مصير مماثل لمصير “روميو” و”جوليت”؛ فر الشاب والفتاة إلى النهر، ولم يعثر لهما فيما بعد على أثر.

لكن سيظل السؤال هو لماذا لا يجب أن يقترب الناس من النهر، ناهيك عن السباحة في مياهه؟
دانيال وعمار.. أحاديث عن العائلة والوطن
لا يكشف الفيلم أبدا عن السر، كما لن نعرف أيضا ما إذا كان دانيال وعمار من قوة الشرطة الرسمية أو تابعين للبلدية، فالزي الذي يرتديانه ليس زي الشرطة، ولن يدخلنا الفيلم في أي وقت إلى مقر للشرطة، كما لا نرى أي سيارة من سياراتها، فعمار ودانيال يتجولان على أقدامهما، دانيال يعمل في دورية النهار، وعمار يعمل في دورية الليل، لكنهما يتقابلان أحيانا خلال اليوم في الخارج، يدردشان ويتبادلان الحديث عن أحوالهما وحياتهما قبل أن يأتيا إلى سويسرا. فهل كلفا أنفسهما بهذه المهمة الغامضة؟ أم من الذين كلفهما بها؟
خلال المناقشات التي تجري بينهما سنعرف أن دانيال خرج من أنغولا بسبب النزاع المسلح القديم، وانتقل في عدة بلدان أفريقية، ثم استقر لفترة في الكونغو قبل أن يهاجر إلى سويسرا. وهو يطلع عمار على صور لقطعة أرض اشتراها من مدخراته في بلده الأفريقي، والمنزل الذي شيده هناك، ويروي أن لديه زوجة وابنا، وأنه يمتلك سيارة وينفق أيضا على سائق خاص. وعندما يقول له عمار إنه لا بد أن يكون من الأثرياء، ينفي ذلك ويخبره بأن قطعة أرض من 20 دونما لا تعد مقياسا للثراء، كما أن السائق لا يتقاضى شهريا أكثر من 100 دولار، وهي لا تساوي شيئا في سويسرا.
أما عمار فسنعرف أنه كان يعيش في العراق مع والده منذ أن انفصل عن أمه، أي منذ أن كان في عامه الرابع. لكن هل هو على علاقة بوالديه؟ سنراه ذات مرة يستجيب لمكالمة جاءته من والده يريد أن يطمئن على أحواله، لكن المحادثة بينهما باللغة العربية لا تقول لنا الكثير. لكنه يروي لدانيال أنه لا يعلم مكان أمه، ووالده كان دائما يرفض الحديث عنها، ثم يتحدث عن وضع المرأة في العراق، وأن القانون يمنح الرجل حق حضانة أطفاله إلا لو تنازل عنها طواعية، وأن المرأة لا تتمتع بحقوق مثل الرجل.
عازفة الغيتار.. برتغالية تأسر عراقيا يشعر بالوحدة
هناك فتاة برتغالية تجلس قرب النهر، أي أنها اخترقت السياج الذي وضعه دانيال وعمار، وأخذت تعزف على الغيتار. يتبادل الاثنان الحديث معها، فدانيال هو الذي يدير الحديث، بينما يبدو على وجه عمار أنه أراد التقرب منها، وينتهي الأمر بأن يطلب منها دانيال المغادرة في أدب ولباقة، بعد أن يسمح لها بالاستمرار في ممارسة هوايتها لمدة 20 دقيقة أخرى، فهي لا تستطيع أن تعزف في شقتها الصغيرة حتى لا تزعج الجيران.

يلمح دانيال رغبة عمار في التقرب من الفتاة، لكن عمار يستبعد الأمر، ويخبره أنه كان يريد الزواج من فتاة في العراق لولا أن والده لم يوافق، لأنه كان يشك في أنها ليست عذراء.
تبدو الجولاتُ الليلية لعمار في بلدة شبه خالية لا يسمع فيها سوى حفيف الأشجار وخرير الماء في النهر، أشبهَ برحلة البحث عن شيء لا وجود له، ونحن لا نعرف أين يقيم عمار، وماذا يفعل في حياته الخاصة خارج العمل، كيف يقضي أشياءه ويدبر أموره، إنه يبدو وحيدا تماما في هذه البلدة الهادئة، منذ خروجه من بلده رغبة في الفرار من القيود العائلية والاجتماعية التي تقيده وتحد من حريته، وتريد صبه في قالب ما على غير ما يرغب، كما خبرنا في حواره مع دانيال.
هناك أيضا حوارات تدور بين صاحب المقهى الصغير ودانيال الذي يتردد عليه أحيانا لتناول القهوة، ومن الواضح أن الرجل برتغالي، مثل كثير من المهاجرين القادمين من البرتغال في هذه المنطقة المختلطة بين جنسيات مختلفة، وهو يقول إنه ولد في لواندا بأنغولا، وكان والده ضابطا في جيش الاحتلال.
مجالس النساء.. يوميات روتينية في القرية الهادئة
في مشهد يعد من أطول مشاهد الفيلم يصور المخرج حلقة من النساء يجلسن في حديقة، وتستمر جلستهن من النهار حتى الليل، وهن ينتمين جميعا إلى بلدان أخرى هاجروا منها واستقروا في هذه المنطقة التي لا نعرف ما الذي يجذبهن إليها، فهي لا تبدو منطقة تتيح فرص عمل شأن المدن الأوروبية الكبيرة، ويدور الحديث بينهن عن الأسباب والظروف التي دفعتهن إلى ترك بلادهن الأصلية إسبانيا وكولومبيا وأفريقيا، ومنهن من تقول إنها جاءت في عطلة كانت تظن أنها لن تستمر أكثر من ثلاثة أشهر، ثم استمرت لسنوات.
إننا أمام فيلم غريب في تكوينه وبنائه، يسير في إيقاع متمهل بطيء هو إيقاع القصيدة، لا يمكنك أن تفرق بين التمثيل أو إعادة تمثيل الحياة اليومية، وبين ما هو مصور مباشرة على أرض الواقع.

هناك مجموعة من الأطفال يشعلون النار في إحدى الألعاب النارية قرب النهر، ثم يفرون قبل أن يراهم أحد، ويتحدثون عن الشرطة التي لا نرى لها وجودا، وهناك عجائز متقاعدون من الرجال والنساء يطلون من النوافذ، وامرأة وزوجها لا يربطهما بالعالم سوى التطلع من شرفة منزلهما، ولا شيء يبدو أنه يتغير في هذه البلدة كما تقول، وهي تحمد الله على ذلك لأنها تكره التغيير.
وهناك امرأة أخرى تقيم هنا منذ 25 عاما تبدي ارتياحها لعدم زحف المباني على الطبيعة، وبقاء كل شيء على ما كان عليه، خلافا لبلدات أخرى قريبة تقول إنها كانت تشهد وجود النهر، لكن النهر اختفى الآن.
أوروبا المعاصرة.. قصيدة مرئية تحصد جائزة أفضل فيلم
يبدو أن أهم عنصر في هذا الفيلم هو العلاقة بين الإنسان والطبيعة، فمن دون الطبيعة بأشجارها وأنهارها وحيواناتها البرية يصبح العالم كئيبا، ويمنحها الدفءَ أطفالُها الذين يعبثون بمجموعة من البالونات، يثقبونها ثم يحرصون على تنظيف المكان بعد أن ينتهوا من اللعب.
لكن ماذا سيحدث لدانيال وعمار؟ ستتوطد العلاقة بينهما أكثر فأكثر، ويصبحان أكثر انفتاحا على بعضهما، وتصبح العلاقة بينهما أشبه بعلاقة بين الأب والابن. وستظل هناك امرأة تطل من نافذتها وتسأل دانيال عن ما يفعل هنا، فهي لا تستطيع أن تفهم طبيعة عمله، وستظل هناك تساؤلات كثيرة حول إغلاق النهر ومنع الوصول إليه، ورغم كل هذا تستمر الحياة في وتيرتها المعتادة الممتدة التي لا يغيرها شيء، والناس لا يكترثون ولا يسألون كثيرا ولا يحتجون.
سكون الحياة ورتابتها، الوحدة والعزلة والغربة والاغتراب، حديث النساء والحارسين، الحنين إلى الوطن، المرأة والطبيعة، والنهر الغامض؛ كلها مفردات يصنع منها المخرج “تيزيان بوشي” قصيدةَ شعر مرئية تحلق بنا في آفاق الحياة نفسها بتعدد مستوياتها وأجناسها وثقافاتها.
جدير بالذكر أن لجنة تحكيم مهرجان سينما الواقع الفرنسي منحت جائزتها لأفضل فيلم إلى هذا الفيلم الغريب، وقالت في بيان منح الجائزة: إن الجزيرة الحضرية الصغيرة ترمز لأوروبا المعاصرة، وتذوب في صورة عميقة حول عبثية الحدود والقواعد والأسوار والحواجز. إنها صورة مدهشة وتجوال مدهش يعيد كتابة وتنسيق المساحات الجغرافية، ويكسبها معاني إنسانية.