“العامل السعيد”.. آلات بشرية تطحنها عقلية المجتمع الرأسمالي

في الصورة الظاهرة للعمال والموظفين في الشركات الرأسمالية الغربية، يبدو العمال سعداء يحصلون على كل ما يرغبون به في حياتهم جراء مواظبتهم وإخلاصهم للعمل فيها، لكن هل هذه الصورة الظاهرة حقيقية مطابقة للواقع، أم أن هناك صورة أخرى مسكوت عنها، أو لم يتطرق إليها إلا في حدود ضيقة؟

للإجابة على هذا السؤال الواسع الساعي إلى معرفة الصورة الحقيقية للواقع، يقترح الوثائقي الفنلندي “العامل السعيد” (The Happy Worker) دعوة عدد من الموظفين في دول صناعية ذات طابع إنتاجي رأسمالي، مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية وآسيوية مثل كوريا الجنوبية، وجمعهم في مكتب واحد ليتحدثوا عن تجاربهم الوظيفية، وكيف ينظرون إلى المؤسسات التي عملوا فيها بصراحة أمام بقية المشاركين.

وخلالها يقوم صانع الوثائقي “جون ويبستر” بنقل أقوالهم إلى خبراء اجتماعيين ونفسيين ليحللوا مضامينها، ويضعونها في إطارها الأوسع المتعلق بطبيعة الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية الحديثة، والبنى الهيكلية التي تؤسسها وفقا لمصالحها.

ضغط العمل وتعدد القرارات.. موظف يكلف بما لا يطيق

رغم اختلاف تخصصات الموظفين المشاركين في الوثائقي بين المحاماة والهندسة إلكترونية وتصاميم وإدارة المشاريع وغيرها، فإنهم يجمعون في بداية حديثهم على مشكلة رئيسة تتمثل في كثرة الاجتماعات وتعدد القرارات، وذلك بتعدد المديرين المسؤولين عنهم.

فالخطوة التي تحتاج إلى قرار مدير واحد تمر على ثلاثة مديرين غيره، وبعد اتخاذهم القرار يطلبون من الموظفين ترك ما بين أيديهم والالتحاق باجتماعات عاجلة يدعون إليها لشرح قراراتهم، وفي الغالب تركز أغلبها على تكليف العاملين بمهام جديدة تُضاف إلى مهامهم السابقة.

يتولد بسبب ضغط العمل شعور عند الموظفين والعمال بأنهم يعملون أكثر من طاقتهم، وخلال ساعات عمل أزيد عن المقرر بكثير دون مقابل، لأن المديرين صاروا في الزمن الحديث لا يحسبون الوقت المطلوب لإنجاز مهمة ما، بل هم يطلبون من العاملين عندهم فقط إتمامها وتقديمها إليهم في الموعد الذي يحددونه، ولا يهمهم عدد الساعات التي يقضيها الموظف لإتمامها، ولا يعيرون بالا للضغوطات النفسية التي يتحملها.

كل واحد من المشاركين يقدم أرقاما عن عدد الساعات التي يقضيها في العمل، وكلها تشير إلى تجاوزها ضعف عدد الساعات المقررة يوميا، وأكثر أحيانا.

التطور الصناعي.. دخول الآلات التي زادت الطين بلة

يحلل العالِم الأنثروبولوجي “ديفيد غرابير” كلام المشاركين في الوثائقي عن طول وقت العمل، من خلال مراجعة تاريخية تشير إلى أن التطور الصناعي وإدخال الآلات على عمليات الإنتاج لم يقلل ساعات العمل إلى 15 ساعة أسبوعيا كما توقع بعض الفلاسفة والاقتصاديين بداية العقد الثاني من القرن العشرين، ولم يحصل العمال على ما انتظروه من الآلة التي توقعوا أنهم بفضلها سيكون عندهم الكثير من وقت الراحة.

تكمن المفارقة التاريخية أيضا في أن التطور الصناعي ودخول الآلة لم يقللا العمل الإداري والمكتبي، بل على العكس من ذلك فقد زاد حجمه ليشمل حوالي 75% من الوظائف اليوم. رافق ذلك اختراع وظائف إدارية ومهنية جديدة، مثل إدارة العمل، ومسؤول العمل، والوسيط بين الإدارة والعمال.

جلسات مفاتشة تتحول بفضل الوثائقي إلى جلسات علاج نفسي

يؤكد العالِم بالأرقام أن 20% فقط من القوى العاملة في زمننا الحديث مُنتِجة، بينما يشكل غير المنتجين منها حوالي 61% في أنحاء العالم.

يتوقف أيضا عند جانب مهم يتعلق بمشاعر وأحاسيس العمال والموظفين داخل مصانعهم ومؤسساتهم، فنسبة المرتاحين منهم والسعداء بعملهم لا تتجاوز 20%، والبقية غير مرتاحة وغير متعاونة مع أصحاب العمل، وذلك لإحساسها بأنها مُستغلَة ومُطالبة بإنجاز أعمال لا تنتهي أبدا.

روبوت الثورة الرقمية.. ضغوط تسحق عمال الشركات

يُقارب الوثائقي وضع العمال والعلاقة غير المريحة مع رؤسائهم، وهي تصل أحيانا إلى حد الكراهية، كما جاء في “كتاب التخريب” الذي قدّم فيه خبراء اقتصاديون من جبهة الحلفاء المعادية للنازيين أثناء الحرب العالمية الثانية؛ تعليماتٍ لأنصارهم بتخريب المؤسسات الصناعية والاقتصادية التي يعملون فيها داخل الدولة النازية، من خلال التشجيع على البيروقراطية، والإكثار من الاجتماعات، وإثقال كواهل العمال بعمل إضافي وغير منتج.

يصف الوثائقي حال العمال بين ما كان عليه الأمر في زمن الثورة الصناعية والوقت الحالي بالتالي: في المرحلة الأولى كان العامل “برغيا” في الآلة الصناعية، وفي زمن الثورة الرقمية والإلكترونية صار “روبوتا” ينفذ ما يطلبه منه مدير وحدته، كما أن المدير ينفذ ما يطلبه مسؤوله الأعلى منه، وهكذا تجري تراتبية الطاعة، وصولا إلى المديرين التنفيذيين الذي شكلوا -حسب الخبراء المشاركين- ظاهرة جديدة في هيكلية الشركات الرأسمالية الربحية الحديثة، وبشكل خاص العملاقة منها، لما يتمتعون به من امتيازات كبيرة وأجور عالية، وللمحافظة عليها فإنهم يسعون إلى زيادة مبيعات شركاتهم، ولا يهمهم سوى رفع أسهمها في بورصات المال، على حساب راحة موظفيهم وصحتهم.

المدير يأمر وما على الموظف سوى الطاعة

مكاشفات المشتركين في الوثائقي تُبيّن حجم الضغوطات النفسية التي يتعرضون لها، والتي أدت إلى مرض بعضهم بما يسمى “الاحتراق الوظيفي” بسبب ضغوطات العمل.

“أزمة السكوت على المرض”.. أثقال ينقلها العامل إلى المنزل

تشخص إحدى المحللات النفسيات الحالة التي يمر بها المشاركون، على اختلاف اختصاصاتهم وتنوع خلفياتهم الثقافية بـ”أزمة السكوت على المرض”، لأن الإصابة به لا تأتي فجأة، بل هي نتاج ضغوطات نفسية تتراكم بفعل العمل المتعب وتوتراته.

تتفاقم حالة المصاب بهذه الحالة حين يتجاهل أعراضها الأولية، ومن بين أكثرها شيوعا الشعور بالتعب وعدم القدرة على التركيز، ونقل مشكلات العمل إلى المنزل، مما يسبب في مخاصمات منزلية تسهم في تأزيم حالة المريض، حتى يجد نفسه غير راغب في الذهاب للعمل، بل إنه في أحيان كثيرة يريد التخلص منه.

السبب الإضافي الآخر نابع من إخفاء المريض لمرضه، وعدم مكاشفة العاملين معه أو المقربين منه بما يشعر. للاحتفاظ بوظيفته يعمد الموظف عادة إلى الظهور أمام زملائه بمظهر يوحي بأنه مرتاح في عمله، ولا يعاني من أي ضغوطات نفسية بسببه.

تربية العائلة.. مأساة البدايات وندم العواقب

تضيف إحدى المحللات الاجتماعيات أسبابا اجتماعية أخرى، من بينها التربية العائلية الحديثة التي تقرن نجاح الأبناء بالتفوق الدراسي والتخرج من جامعة مرموقة والحصول على وظيفة جيدة، إذ يبدأ تغذية هذه التوجهات للطفل منذ سنواته الأولى.

التربية العائلية في المجتعات الراسمالية تمهد الطريق أمام أطفال العصر الرأسمالي ليكونوا روبوتات داخل مكاتبه

ويعتبر العالِم الأنثروبولوجي هذا السلوك أول علامات الخروج عن المسار الإنساني السوي، فحرمان الطفل من خياراته الطبيعية يعني حرمانه من سعادة اختيار ما يحب أن يكون في المستقبل.

يقدم المشاركون شهادات حول طفولتهم، وكلها تتطابق مع وصف العلماء والمحللين لها، ويضيف بعضهم جوانب أخرى تتمثل في الخيبة التي يصابون بها جراء كل ما يقدمونه لمؤسساتهم وشركاتهم من إخلاص وتفان في العمل طيلة سنوات، من دون أن يقابل ذلك بثناء أو بضمانات أكيدة للبقاء في الوظيفة وعدم تسريحه منها.

معظم المشاركين لم يحقق العمل لهم أحلامهم في شراء منزل أو الزواج وإنجاب أطفال بضمانات مستقبلية كافية. يظهر الندم على وجوه بعضهم، لأنهم لم يعطوا لعوائلهم وأطفالهم الوقت الذي أعطوه للشركات التي عملوا فيها، أما السعادة فهي آخر ما يشعرون به خلال عملهم.

إشراك العمال.. حلول التشجيع والعدالة التي تشرح النفوس

يتساءل الوثائقي هل ينبغي أن يستمر الوضع المحزن والمقلق على ما هو عليه اليوم، ويظل الموظف يتحمل لوحده أعباء مشاريع الشركات التي يعملون فيها، والتي لا تكف عن البحث في أكثر الطرق وأسرعها جلبا للأرباح، عبر تشديد اشتراطات تنفيذها على كواهلهم، مما يؤدي إلى مرض بعضهم بسببها، وقسم آخر يجد نفسه هاملا لعائلته وأطفاله لتكريس جُلّ وقته للعمل على إتمامها، وكل ذلك من دون ضمانات تكفل الاحتفاظ بوظيفته.

للإجابة على الأسئلة يستعين الوثائقي بخبراء اجتماعيين ومختصين بشؤون العمل، يقومون أولا بتحديد أبرز المشاكل، وعلى ضوئها يقترحون أنجع الحلول ملائمة لها، ففي موضوع كثرة العمل وساعاته بسبب إضافة مشاريع جديدة تُضاف إلى القديمة المتراكمة من دون إشعار أو مشاركة العمال بآرائهم حولها، يجد الخبراء الحل في وضع إدارة الشركات خططا بعيدة المدى يجري الالتزام بها، وحال انتهائها يشرعون بالمشاريع الجديدة المقترح العمل بها، وينبغي أن يعرف العمال جوانبها قبل الشروع بتنفيذها.

على الموظف العودة إلى الهوايات الشخصية المحببة للتخفيف من ضغط العمل

إلى جانب هذا ينبغي أيضا أن يناقش الموظف في إمكانية تنفيذه للمهمة المكلف بها، وأن يسمح له باقتراح الأسلوب الملائم لإنجازها. كما أن الثناء والشكر على العمل الجيد من بين العوامل المحفزة لزيادة الإنتاج، إذ تُشعر الموظف بأنه مشارك فعّال، ويقوم بعمل نافع للشركة التي يعمل بها.

يضاف إلى ذلك مبدأ العمل الجماعي، فهو يشكل -حسب رأيهم- واحدا من العوامل المخففة لضغوطات العمل، فالمشاركة الجماعية لإنجاز عمل محدد تُشعر الجميع بأنهم فريق عمل حقيقي يساعد بعضهم بعضا. وكذلك مبدأ تحقيق العدالة الوظيفية، وضرورة الأخذ به داخل وحدات عمل الشركات وأقسامها، فحين يُثمن ويُرفع موظف يقوم بنفس العمل الذي يقوم به زميل له، بينما يُقابل الآخر بإهمال أو تجاهل، فإن ذلك يخلق إحساسا لديه بعدم العدالة، ويترك هذا أثرا نفسيا سيئا في داخله.

وفيما يتعلق بـ”مرض الاحتراق الوظيفي” فمن أجل تجنبه، يوصي الخبراء الموظفين بالحديث مع زملائهم حول الأعراض التي تنتابهم حال ظهورها، ومن المهم أن ينقل الذين لهم تجارب سابقة في هذا الجانب خبرتهم للبقية، حتى يجنبوا الوقوع في نفس الأخطاء.

“السعادة”.. مفهوم لم يعد موجودا في نظام العمل الرأسمالي

“السعادة” في العمل يبدو من خلال كلام الموظفين المشاركين أنها لا وجود لها في ظل نظام عمل رأسمالي شديد القسوة، لكن الغريب أن شعورا بالراحة انتابهم جميعا بعد الكشف والبوح أمام الآخرين، ولأول مرة عن مشاعرهم الحقيقية وأحزانهم المدفونة داخلهم منذ دخولهم معترك العمل.

لقد تحولت ساعات تسجيل الوثائقي معهم إلى جلسات علاج نفسي، دفعت بعضهم لشكر صُنّاعه، لأنهم وفروا لهم فرصة إعادة النظر في موقفهم من العمل، وبناء عليه قرروا التوقف عن نقل مشكلاته إلى بيوتهم، والسعي إلى تكريس وقت أكثر لعوائلهم وأطفالهم، إلى جانب اهتمامهم مجددا بهواياتهم الشخصية التي أهملوها، بسبب ضغوط العمل وكثرة ساعاته.

في الجلسات الأخيرة من التصوير يؤكد الخبراء المشاركون في الوثائقي أن السعادة الحقيقية لا تأتي فقط من العمل، فالحياة أوسع من ذلك، وفيها كثير مما يستحق الاهتمام به وتكريس الوقت الكافي له.


إعلان