“لصوص البنوك”.. فلسفة الفنان الذي خطط لأعظم سطو في تاريخ الأرجنتين

ينتصب على الكرسي ويتكلّم بعد تفكير طويل وبإيقاع بطيء، ليقول: القيم هي مجمل السلوكيات التي تحكم المجتمعات، والأخلاق هي السلوكيات التي يحكمها الضمير. وكل شخص يرسم انطلاقا من البيئة التي تنشأ فيها حدود، ويقدّر أنّ هذه الناحية جيدة، أما تلك فسيئة، وفي لحظة اقترابنا من تلك الحدود يرتبك كلّ شيء وينهار.

هكذا بمشهد أخلاقي لـ”فرناندو أراخو” (40-45 عاما) يبدأ الفيلم الوثائقي “لصوص البنوك.. آخر السرقات الكبرى” (Bank Robbers: The Last Great Heist) الذي أخرجه المكسيكي “ماتياس غايلبورت” (2022).

نحن بحضرة درس في فلسفة الأخلاق إذن. والأستاذ الواقف أمامنا يعرض مادته بمهارة وحكمة. وحالما نجهّز أنفسنا لهذا الدّرس ونستعدّ ذهنيا لتقبّله، يفاجئنا تسلسل كلامه بانعطاف لم نكن نتوقّعه: لماذا سرقتُ مصرفا؟ هذا السؤال طرحته على نفسي مرارا، وأظن أن الإجابة الأكثر منطقية تتمثل في رهبة الموت وجلاله. ولكن ما الصلة بين مقاومة الموت بحثا عن الخلود وسرقة بنك؟ يبدو الأمر مثيرا حقّا.

يسترسل “فرناندو أراخو” الفنّان التشكيلي ومدبّر فكرة السرقة في تأملاته، فيقول: نقاوم الموت فنخلّد ذكرنا بكتاب نؤلفه أو بناء عظيم نشيده أو سرقة بأسلوب فنّي مبتكر.

سطو القرن.. تبخر اللصوص والغنائم في الهواء

يأخذنا الفيلم إلى لقطات متسارعة من نشرات الأخبار التي واكبت عملية السطو على بنك ريو في أكاسوسو بمقاطعة “بوينس آيرس” في الأرجنتين، فترِد بصياغات مختلفة وتكون متضاربة يناقض بعضها بعضا، فلا تكاد تشترك في غير منسوب الإثارة والتشويق.

فقد اختار المخرج أن يعود بالمتفرّج إلى حرارة اللحظة وتوهجها وأن يعرضها أمامه وكأنه يعيشها من جديد، بداية من دخول المصرف واحتجاز الرهائن، إلى التوتر الشديد الذي يسود المنطقة بعد تدخل الأمن ومحاصرته لمحيط البنك، إلى حصيلة عملية السطو المذهلة؛ وهي تحرير جميع الرهائن دون أي أضرار، ونهب اللصوص لمحتوى 143 صندوق ودائع تحتوي على مبلغ 95 مليون دولار.

لكنّ المفاجأة الأكبر أنهم تبخروا، فلم يجد لهم الأمنُ الذي يحاصر البنك من جميع الجهات وينشر القناصة على الأسطح أيَّ أثر. أين ذهبوا؟ كيف استطاعوا أن يغالطوا الشرطة؟ هل ابتلعتهم الأرض أم تحوّلوا إلى أشباح؟

ذلك هو الأسلوب الفنّي المبتكر للسرقة الذي يبحث عنه “فرناندو أراخو” لتخليد اسمه بين العباقرة العظماء، وقد استطاع فعلا أن ينتزع الإعجاب، فتغدق وسائل الإعلام المديح على ما أقدم عليه بدل إدانته، فهي سرقة “مدهشة” أو “أفضل عملية سطو في تاريخ الأرجنتين” و”عملية سطو القرن”.

إجازة العام.. خطة لرسم لوحة تشغل الرأي العام

يقدّم لنا الفيلم شيئا من الإجابة، فيعيد تشخيص ما عرف في الأرجنتين منذ 2006 بسرقة القرن، حين جنّد الفنان التشكيلي ومدرب فنون القتال “فرناندو أراخو” رفاقا من صفوة المجتمع لهذه المهمّة، فسطوا على البنك.

ملصق الفيلم الذي تظهر فيه العصابة

يعود “أراخو” إلى نحو عشرين سنة خلت عندما منح نفسه إجازة بسنة كاملة ليرسم لوحات فنية عبقرية، وفي مرحلة الاستعداد الذهني والروحي لإنجاز عمل فني مبتكر، كان يقضي عامة يومه بين الألوان وكتب النقد الفنيّ. وفجأة ينبثق الإلهام العظيم: فلمَ لا يرسم لوحته بجسده وعبر الحركة في فضاء المدينة وزمنها، بدل أن يرسم بالألوان والفرشاة على المساحة المسطحة؟

لن يستحق العمل أن يوصف بأنه فني ما لم يدر إليه الرّقاب ويشغل الرأي العامّ. إذن سيسطو على بنك، وستأخذ الفكرة بجماع قلبه وفكره. فيذكر أنه كان عام 2003 أسعد رجل في العالم بعد أن أصبح له “هدف نبيل” في هذه الحياة، ثم ينصرف مباشرة إلى الإعداد، فيحدّد المصرفَ الهدفَ بدقة، ويدرس موقعه ونقاط تحصينه، ولا يبقى له إلا أن يقرر طريقة التنفيذ.

وفي أساليب السّطو على البنوك طريقتان:

اقتحامها حين تكون مفتوحة، ولا تنجح العملية إلا باستعمال السّلاح النّاري، فحالما يبدأ اللصوص عملية الاقتحام، تُشغّل أجهزة الإنذار ويُحاصر اللصوص، فيُلقى عليهم القبض أو يخوضون مواجهة مباشرة مع رجال الشرطة. فكيف بالأمر و”أراخو” فنان مرهف الحسّ ينبذ العنف، ولا يحسن استعمال السلاح. التسلل إليها عندما تكون مغلقة عبر حفر نفق. وهنا لا بدّ من ملابس مقاومة لأجهزة استشعار الحركة التي تجهز بها البنوك، وتستعمل عند إغلاقها لحمايتها من اللصوص.

بدأ “أراخو” يميل إلى الحلّ الثاني، فرسم الخرائط المساعدة وصمّم الملابس المناسبة بنفسه، لكنه واجه معضلة حقيقية حول كيفية الوصول إلى الخزينة وفتحها، فلا بد من عارف بها من أعوان البنك أنفسهم. وهذا مطلب مستحيل يكاد ينسف مشروعه من أسسه.

بيتزا الاستسلام.. حيلة لإلهاء الشرطة وطمس الآثار

الإلهام نبع لا ينضب، فبعد حالة الإحباط التي بات يعانيها، تلتمع في ذهنه فكرة عبقرية وهو في حالة استرخاء في حوض السباحة: ماذا لو دمج الخطتين معا؛ أن يقتحم البنك نهارا، فيسخّر أعوان البنك أنفسهم لإيصاله إلى الخزينة والقيام بفتحها؟

نجحت العصابة في حفر نفق يقودهم لبر الأمان

وبعد أن يحاصر في البنك يستعمل النفق السري الذي يكون قد قام بحفره، فلا يستعمله للنفاذ إلى المقرّ كالعادة في خطط سرقات البنوك الكلاسيكية، بل للخروج منه بينما ترابط الشرطة في الخارج حذر أن يصيب مكروه المحتجزين، ولا بد للنّفق أن ينتهي إلى جدار البنك، ليكسر بعد عملية الاقتحام.

استغرق التنفيذ أكثر من سنتين، جنّد خلالها “أراخو” مجموعة من المساعدين بصفات حرفية مختارة، ونفذ عملية الاقتحام بدقّة لا متناهية، بعد أن أخذوا الأموال وألهوا الشرطة بإعلانهم الرغبة في تسليم أنفسهم، ولكن بعد أن تجلب لهم بيتزا لأكلها، فلا شكّ أنهم سيظلون رهن الإيقاف لفترة طويلة ويقعون فريسة للجوع.

وقد استفادوا من تلك الهدنة للهروب، بعد أن سحبوا خزانة لإخفاء ثقب الجدار، ثم مروا من النفق إلى مصرف المياه المستعملة الممتدّ تحت الأرض، معتمدين الزوارق، متجهين إلى سيارة ثقبوها من الأسفل، ليصعدوا إليها محملين بالغنيمة من فتحة بالوعة.

دراسة القانون.. القطعة الأخيرة لتحقيق المجد

كان “أراخو” يريد أن يحقّق مجدا حقيقيا، فدرس القانون جيّدا ليكفل أدنى العقوبات في حال الإيقاع بالفريق، وقد انتهى إلى ثغرة تخدمهم، فالمشرّع الأرجنتيني لم يتعامل مع استعمال الأسلحة المزيفة بنفس القسوة التي يظهرها عندما يهدّد المرءُ غيرَه بسلاح ناري حقيقي، إذ يجد في الحالة الثّانية مؤشرا على نية القتل، لذا صمّم أسلحة مزيّفة لتعتمد أثناء عملية السّطو.

ونظرا لحظّ الجماعة العاثر فقد طرأ حادث يحمل من الحماقة بقدر ما يحمل التخطيط من العبقرية، فالشريك “روبن دي لاتوري” استقبلهم ذات لقاء ترتيبي بصحبة زوجته ووضعهم أمام الأمر الواقع، وهكذا أضحت المرأة شريكة لزوجها في حفظ السرّ.

وبعد أن اقتسم الجماعة الغنيمة وذهب كل في سبيله انقطعت الصلة بينهم، ولكن أزمة غيرة بين الزوجين وخلافا حول اقتسام الأموال؛ دفعا الزوجة إلى الانتقام، فكشفت أمر العصابة للشرطة، وألقي القبض على جميع أفرادها، وصدرت أحكام مخفّفة بحقهم، مستفيدين من لعبة الأسلحة المزيفة.

تمجيد السرقة.. خيلاء الأبطال أمام العدسة الوثائقية

عبر هذه الأحداث المتشابكة يأخذنا الفيلم إلى مغامرة مثيرة، ولكن يأخذنا أيضا إلى أسئلة كثيرة، وربما يكون أولها على علاقة بمغزى الفيلم، فمعلوم أنّ النّمط الوثائقي يبلّغ رسالة معينة، ويعبّر عن وجهة نظر جمالية أو فكرية. وهذا ما يجعله نضالا ثقافيا بشكل ما.

لكن فيلم “لصوص البنوك.. آخر السرقات الكبرى” بدا مدحا لهذه السّرقة واحتفاء بها، وتكشف ذلك طريقة تجسيده للخطط وهي تلمع في ذهن “أراخو”، وزوايا تصويره وهو في حالة استرخاء في المسبح حين ينبثق إلهامه فجأة تحت مفعول مخدّر القنب الهندي.

فضلا عن ذلك كان حضور أفراد العصابة أمام الكاميرا مفعما بالفخر، وكانت حركاتهم ترشح خيلاء وهم يعرضون تفاصيل مغامرتهم المثيرة. فما المغزى التربوي أو الأخلاقي أو الفكري أو الجمالي من مدح عملية سطو رغم التخطيط لها بإتقان؟ وفيمَ يكمن البعد النضالي من الفيلم؟ نرى أن طريقة صياغة الفيلم لا تخلو من تسرّع وافتقار للوعي بوظائف السينما الوثائقية.

“غلغامش” الأرجنتين.. شقاء اللص الباحث عن الخلود

يقول “فرناندو أراخو” في درسه الفلسفي الذي استهل به الفيلم شارحا ما يقصد بـ”السرقة بأسلوب فني مبتكر”: لقد أدركت البشرية في مرحلة ما من تاريخها أنّ الحياة محدودة جدّا، لأننا نرحل عنها فجأة ولا نخلف شيئا وراءنا، لذلك أرى أنّ مقاومة الموت تكون بأحد الأمرين؛ البنون أو الفنون. هذا ما يهزم الموت.

وجد السارقون صعوبات لتنفيذ خطتهم

وليس للمرء هنا إلا أن يستحضر مغامرة “غلغامش” السومرية وهو يكتشف النسخة الأرجنتينية من ملحمة مقاومة الموت، فكلتاهما تربط الخلود بالتحدّي أولا واللّصوصية ثانيا. ذلك أنّ “غلغامش” في النسخة السومرية كان يبحث عن سرّ الحياة الأبدية، إثر إعدام الآلهة عشتار لصديقه إنكيدو، وبعد لأي يبوح له الحكيم “أوتونابشتيم” بسر النّبتة التي تكفل ذلك، وهي توجد في المياه العميقة، فلا يصل إليها إلاّ بعد عناء ومكابدة.

وعند اغتساله في بحيرة المياه الباردة ليصيب شيئا من الرّاحة تتسلل حية وتأكل النبتة، فتستولي على جهده وتفوز دونه بالخلود، ولذلك فإن الحيّات تغير أثوابها كل سنة لتبعث شابة من جديد. و”أراخو” كان مأخوذا بالاستيلاء على الأموال بحثا عن الخلود، ويتخذ من المياه العميقة في المصارف الصحية سبيله، ولكن وجه الشبه البعيد بين اللّصين قد فات المخرج، وضاعت معه دلالات كثيرة كان يمكن أن تكشف الوعي الإنساني الشقي، وأن تمنح الفيلم عمقا ومغزى.

سرقة لمقاومة الضّجر.. بعد نفسي واجتماعي غائب عن الفيلم

أفراد العصابة هم “فرناندو أراخو” الفنان التشكيلي ومدرب الرياضات القتالية، و”سيباستيان غارسيا بولستر” التقني المختص في إصلاح الدرّاجات المائية بعد دراسة وجيزة في الهندسة الميكانيكية، و”روبن دي لاتوري” الذي تلقى تعليمه بالمدرسة الكاثوليكية وعمل مساعدا للكاهن، و”سان خوزيه دي مايو” الأرستقراطي الأورغوياني. والمشترك بينهم جميعا انتماؤهم الاجتماعي الذي يكفيهم الحاجة إلى السّرقة.

ولئن منح “أراخو” لفعل السرقة بعدا وجوديا فإن “روبن دي لاتوري” و”سان خوزيه دي مايو” برراها بالحاجة إلى ملء الفراغ ومقاومة الضجر، فسرقة البنك مثلت بالنسبة إليهما ضربا من التّسلية والمتعة التي هي أشبه بمقامرة مرضية تتحوّل فيها المخاطرة إلى غاية في حدّ ذاتها، أكثر من كونها بحثا عن ربح المال.

يتطابق البناء النفسي لأفراد العصابة تماما مع نظيره لدى المقامر، ومداره -وفق “سيغموند فرويد”- على وهم القدرة المطلقة، والاعتقاد بالتّحكم في الأقدار، وجنون العظمة والغرور والزهو، والبحث عن درجات عليا من الإثارة، لذلك يشتكي “روبن دي لاتوري” و”سان خوزيه دي مايو” من الضجر والفراغ قبل الانخراط في الإعداد لعملية السّطو.

ويصف “أراخو” سنة التخطيط بكونها أسعد سنوات حياته. ولكن هذه المقاربة غابت أيضا من الفيلم رغم بداهتها، لنجد أنفسنا أمام فيلم يستهدف التسلية وعرض المغامرات الطريفة، فينخرط في توجّه استهلاكي لسينما التّوثيق فرضته منصّات العرض على الإنترنت، تلبيةً لتطلعات جمهور تصنع فيديوهات التكتوك والإنستغرام ذائقته.

لقد خسرت سينما المؤلف معركتها في النمط الروائي، ويبدو أنها بصدد خسارتها على مستوى النّمط الوثائقي أيضا.


إعلان