“عصابات”.. قتيل لا يجد قبرا في ليالي الدار البيضاء الحالكة
مهما قيل عن القسوة والجمود فإن هذه القشرة من التمسك بمفهوم “الرجولة” أو “الذكورية” تخفي تحتها ميلا فطريا نحو الجانب الروحاني، وفي أكثر أوقات العنف فظاظة تكمن الرغبة في التطهر ومسح أدران الجسد الآثم.
هذا المعنى وغيره من المعاني، يكمن في سياق فيلم “عصابات” (Les Meutes)، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج المغربي كمال لَزرق، وقد عُرض في مسابقة قسم “نظرة ما” بمهرجان كان السينمائي الماضي. ومثّل مفاجأة مدهشة بمستواه الفني الرفيع، وموضوعه المبتكر، على الرغم مما يمكن أن نلمح فيه من وجود مؤثرات سينمائية لا تفرض نفسها على الحبكة.
سينما المفارقات العبثية.. عمل ساخر من الثقافة الشعبية
يعتبر بعض النقاد أن الفيلم ينتمي إلى فئة “الفيلم- نوار”، أي فيلم الجريمة الذي يتسم بالغموض والتوتر المكتوم، ويوحي بالقدرية والتشاؤم، ويمتلئ بالظلال القاتمة والشخصيات الغامضة الدوافع. وهناك من اعتبره أقرب إلى تيار سينما “الواقعية الجديدة”، بشخصياته الأرضية الغارقة في قلب الواقع المضني الكئيب.
ولا ريب أن في الفيلم ملامح من هذا النوع أو ذاك التيار السينمائي، خصوصا مع تأثر مخرجه الواضح بالفيلم الكلاسيكي “لصوص الدراجات” (Ladri di Biciclette) لرائد الواقعية الإيطالية “فيتوريو دي سيكا”، بأسلوبه الواقعي الخشن الذي تكثفه الصور الليلية ذات الإضاءة الخافتة، والأماكن المختارة بعناية فائقة في ساحات مهجورة أو محطات وقود خاوية أو مرفأ بحري خالٍ، وشوارع خلفية تمتلئ بعصابات الأشرار والصعاليك والباحثين عن فرصة لاقتناص ما يمكن اقتناصه.
لكن الفيلم يميل أيضا إلى سينما المفارقات العبثية، فهو -على نحو ما- عمل ساخر يفيض بالتهكم والنقد اللاذع لثقافة عجزت عن انتشال الإنسان من أزمته، سواء تمثل هذا في بطلي الفيلم، أي في ثنائية الأب والابن، أو في تصوير رئيس العصابة الشرير الذي يبكي على كلب فقده في حلبة الصراع، لكنه لا يكترث لقتل إنسان بكل برود.
مأزق الفيلم.. سوداوية العوالم السفلية في الدار البيضاء
على الرغم من الجرعة الدرامية العالية التي تنتج عن مأزق البطلين، فإن المأزق يصبح في مرحلة ما أيضا مفجرا للكوميديا والضحك، بملامحه “السيزيفية” (نسبة إلى أسطورة سيزيف اليونانية)، كما أنه يحل روح العبث الكامن في أجواء مسرحية “في انتظار جودو” للكاتب “صمويل بيكيت”.
إن كل شخصيات هذا الفيلم هي ضحايا لواقع مرير آثم دفعهم إلى الهامش، إلى هامش الحياة في مدينة الدار البيضاء المغربية الصاخبة، وصورة هذه المدينة في فيلمنا هذا هي أبعد ما تكون عن الصورة السياحية الملونة لشواطئ أو فيلات وقصور شيدت للأثرياء والسياح، فهو يدور في القاع، أو العالم السفلي للمدينة كما لم نرها في السينما من قبل، ربما باستثناء الفيلم المغربي البديع “كازانيغرا” (Casanegra).
ومع كل ما يحيط الشخصيات من سياج خانق في صحراء الحياة، هناك لحظات من التأمل في تجاور الحياة والموت، جمال الطبيعة ورائحة الموت، والحقيقة والخيال، والعجز المتتالي عن الخروج من المأزق، على الرغم من ذلك التمسك بما يفرضه الموروث المقدس. وهذه الثنائيات تتجسد من خلال العلاقة المشدودة المتوترة بين الثنائي الدرامي في الفيلم “الأب والابن”، أو حسن وعصام.
مصارعة الكلاب.. لعبة عنيفة تُفجّر عقدة الفيلم
يفتتح الفيلم بمشهد مصارعة الكلاب، وينتهي المشهد بفقدان زعيم العصابة القاسي ديب (الممثل عبد اللطيف البكيري) كلبَه الأثير، حين يتغلب عليه كلب خصمه زعيم عصابة أخرى ويقتله. وهو ما لا يبدو مقبولا عند ديب، فيعد مقتل كلبه اعتداء عليه شخصيا، فتشتعل عنده الرغبة في الانتقام من خصمه.
يقرر ديب خطف الرجل وتلقينه درسا، ويكلف بذلك رجلا بائسا شريدا فقيرا هو حسن (الممثل عبد اللطيف مستوري)، وكان من الواضح أنه ينتظر بكل لهفة للحصول على أي فرصة لجني بعض المال، ولكن لا يمكنه أن يقوم بالمهمة منفردا، فيضغط على ابنه الشاب عصام (الممثل أيوب العيد) لكي يذهب معه للقيام بتلك العملية.
مصارعة الكلاب رمز واضح للصراع الشرس الذي يدور بين العصابات، ونرى كثيرا من ملامحه في الفيلم، كما أن المخرج يجرد الصورة، بحيث يجعل قاع المدينة يبدو ساحة عراك وتنافس واشتباك شبيهة بعراك الكلاب. إنها صورة قاتمة مرعبة ترصد خلالها الكاميرا وجوها مشوهة أضناها الصراع من أجل المال.
يبدو عصام مترددا يخشى العاقبة ويهاب العملية، أما أبوه حسن فيبدو من سمات وجهه قاتلا محترفا لا يهاب الدماء، لكن الحقيقة أنه رجل بائس مسكين، ومع هذا فإن عصام لا يمكنه أن يعصي والده طبقا للتقاليد الأبوية المتوارثة في هذه البيئة البدوية، بل سيطيعه ويذهب معه، ولكن عملية الخطف تنتهي بكارثة، حين يموت الرجل مختنقا في الصندوق الخلفي للسيارة، ويصبح من الضروري دفن الجثة قبل مطلع النهار.
مجيد.. بحث عن الخلاص عند رجل العصابات التائب
تجري المشاهد الأساسية في الفيلم خلال الليل، ويتصاعد التوتر، وعندما يعود الاثنان بالخبر السيئ إلى الزعيم ديب يغضب، ويطالبهما بالتخلص من الجثة بمساعدة رجل كان يعتمد عليه في مثل هذه المهام في الماضي، وهو مجيد (الممثل عبد الحق صالح).
لكن عصام لا يشعر بالارتياح، لدرجة أنه يقترح على أبيه إبلاغ الشرطة، لأن الأمر يمكن أن يتطور وتسوء العاقبة. ولكن هل هذا تصرف الرجال؟ هذا هو السؤال الاستنكاري الذي يصفعه به أبوه. فمفهوم الرجولة يرتبط بالقوة والعنف والاستعداد للمغامرة وللمقامرة بحياة المرء أيضا.
حين يصل الثنائي إلى مجيد في منطقة نائية خالية، يعتذر عن القيام بالمهمة بدعوى أنه تاب عن مثل هذه الأفعال، ويمنحهما بدلا من ذلك كمية معتبرة من ثمار التين الذي يزرعه. لكن هذا لا يحل المشكلة، فهناك الآن جثة رجل ضخم ترقد في الصندوق الخلفي للسيارة، وكان إدخال الرجل قبل أن يفارق الحياة أمرا شاقا بسبب ثقل جسده. فما العمل الآن؟
حفر القبر.. رعب وأشباح وهواجس في الصحراء
يقترح مجيد على حسن وعصام دفن القتيل في منطقة خالية في الصحراء، وفي مشهد مدهش على ضوء مصابيح السيارة في الليل، يحاول الاثنان حفر قبر لدفن الرجل، لكن الأرض الحجرية تستعصي على الحفر، ثم تقترب الكلاب النابحة، ثم يظهر شبح رجل بعيد في ظلام الليل، فيبدو أن من الضروري حينئذ مغادرة المكان بأسرع ما يمكن.
يصبح الفيلم فيلما من أفلام الطريق، فيقطع البطلان رحلة عبثية في منتصف الليل، تختلط فيها الهواجس السحرية بالحقيقة الثقيلة على القلب، تتراءى أشباح وتختفي، تنبح كلاب وتنعق غربان، ثم يوقفهما رجل شرطة يشتبه في هيئتهما، لكن عينيه تقعان على ثمرات التين، فيصبح أكثر اهتماما بالاستيلاء على كمية التين أكثر من اهتمامه بفحص محتويات السيارة، وحين ينال نصيبه من الغنيمة يكتفي بها ويتركهما يواصلان السير.
ثم يتوجهان إلى رجل سكير يدعى العربي (الممثل لحسن زيموزن)، يقضي معظم وقته في حانة مليئة بالأوغاد، لكنه يمتلك قارب صيد صغير، وهما يريدانه أن يتخلص من الجثة بإلقائها في وسط البحر، لكن المحاولة تنتهي بفشل ذريع، إذ يتركهما ويبحر بعيدا بعد أن تنزلق الجثة من القارب دون أن يكترث، أو ربما لا يرى في الليل. إنها قمة العبث!
عبثية الأحداث.. مفارقات كوميدية من رحم المأساة
لقد وصلنا الآن إلى مرحلة الكوميديا والضحك الذي ينبع من المأساة، والسخرية التي تشي بها المواقف العبثية، خصوصا بعد أن يستقر الأمر على دفن الرجل بالطريقة المعتادة، وهنا يصر حسن على ضرورة غسل جثة المتوفى وتكفينه، ثم الصلاة عليه في المسجد حسبما تقضي الشريعة الإسلامية.
لا يقتنع عصام بهذا، بل يخشى أن يطلع النهار قبل دفن الجثة، ويشعر بأن والده قد أصبح عاجزا عن التصرف، فيقرر أن يتولى الأمر بنفسه. لقد فشل الأب، وتبادل الاثنان الأدوار الآن، وعصام يسعى للعثور على مكان لدفن الجثة بعد تكفينها، لكنه يقع في حبائل رجل يستدرجه إلى منزله، بدعوى أنه يمكن أن يدفن القتيل في حديقة المنزل، ولكن الواضح أن الرجل شاذ جنسيا، ويريد أن يقضي وطره معه فيفر مرعوبا.
يتجسد في الفيلم الصراع بين الأب والابن مع تباين الفكر، فالابن لا يفهم تمسك الأب بالتقاليد، وهو ما يعطل التخلص من الجثة، ولكن ما باليد حيلة، والحيرة تستبد بالاثنين، وتخلق من المواقف ما يستعصي على الحل، لينتهي الأمر من دون إنجاز المهمة.
صناعة الفيلم.. أداء مبهر يحصد جائزة لجنة التحكيم
يطغى اللون الأصفر القاني على المشاهد الليلية مع الخلفية القاتمة، ويضفي استخدام الإضاءة الطبيعية على الصورة جمالا من دون أن يشتت المتفرج، وتساهم حركة الكاميرا المحمولة المهتزة المتأرجحة في إضفاء الشعور بالتوتر وهي تحاول سبر أغوار الشخصيات، والتحديق في وجوههم وحصرها في لقطات ضيقة، تشي بالانحباس داخل عالم ضيق لن يسهل الخروج منه.
ولا شك أن مدير التصوير أمين براده، نجح في خلق أجواء كابوسية، وجعل بإضاءته الأماكن الواقعية المدهشة أماكن تجعلنا نشعر بأنها تنتمي لعالم تسكنه الأشباح، على الرغم من واقعيتها.
وعلى العكس مما هو معروف، فإن اعتماد المخرج كمال لَزرق على ممثلين غير محترفين في الدورين الرئيسيين، قد ساهم في تأكيد مصداقية الصورة والشخصيات، فلا أحد يمكنه أن ينسى مثلا تضاريس وجه عبد اللطيف مستوري الذي يقوم بدور “حسن”، وهو في الأصل بائع متجول فقير، اختاره المخرج وأعده لأداء الدور. أما “أيوب العيد” فقد جاء أيضا من خارج عالم التمثيل، ليقوم بدور “عصام”، ويمثل براءة وجهه وتردده وحيرته وتشككه فيما يدور، لكنه تدريجيا ينضج على نار التجربة المريرة القاسية.
وعلى الرغم من كل الهنات، أو ما يبدو من ثقل في الإيقاع، وإطالة في مشهد أو اثنين، فإن هذا الروائي الطويل الأول للمخرج كمال لَزرق، يظل عملا مدهشا بدقته وقدرته على دفع المتفرج إلى المتابعة، وتأمل هذا العالم الغريب المحزن في شغف حتى النهاية. وليس غريبا أن ينال الفيلم جائزة لجنة التحكيم في مسابقة نظرة ما” بمهرجان كان السينمائي.