“أرض الانتقام”.. خيانات متتالية ورغبة تنهش صاحبها

تثير فكرة الانتقام كثيرا من التساؤلات، وغالبا ما تتناولها السينما، لما تعِد به من تنوع وغنى في المعالجة السينمائية، عبر التوغل في المشاعر والسلوك والأفكار التي يضمرها من ينويها ومن يدفع إليها، وما يمكن أن تطرحه من تعقيدات الفرد النفسية، وكيفية تعامله مع شعور ينهش صاحبه، ولا يدعه يعيش في سلام مع نفسه أو مع الآخرين.
فيلم “أرض الانتقام” (2024) هو فيلم جزائري من إخراج أنيس جعاد وكتابته أيضا، ويتعامل مع هذه الفكرة بأسلوب هادئ، يدعو للتأمل في خفايا ومظاهر شعور الانتقام.
يختار الفيلم التقشف في الحوار، والاهتمام بتفاصيل الشخصية وتعابيرها، من غير إسهاب في الكلام والشرح، تاركا للمشاهد محاولة التنبؤ بردود أفعال شخصياته، مع إتاحة أدوات له بين الحين والآخر، لتساعده على إدراك نفسياتهم ودوافعهم.
شارك هذا الفيلم، في المسابقة الرسمية من مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي، الذي عقدت دورته الـ12 ما بين 4-10 أكتوبر/ تشرين الأول، وتوج بطله سمير الحكيم بجائزة أفضل ممثل في المهرجان الذي يعود بعد 6 سنوات من الغياب، إلى هذه المدينة الساحلية الباهية، كما يطلق عليها.
عُرض “أرض الانتقام” في المسابقة الرئيسية للأفلام الروائية الطويلة مع 11 فيلما عربيا، متنافسا مع فيلم آخر من الجزائر، وأفلام من العراق وموريتانيا والأردن والسعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة ولبنان واليمن وتونس.
كان الفيلمان الجزائريان مع 3 أفلام أخرى (السعودي واليمني والمصري) إنتاجات محلية لم تشترك دول أخرى في إنتاجها، وتلك مسألة تستحق النقاش فيما بعد، في مجال غير هذا.
مشاهد البداية.. بطل بائس تثقله الموسيقى الجنائزية
ينتمي الفيلم لسينما المؤلف التي عرفت بها السينما الجزائرية، وينبئ منذ لقطاته الأولى بأسلوبه الإخراجي، الذي يتكئ على جمالية صورة تعتمد لقطات طويلة ثابتة، ومؤثرات صوتية تلجأ إلى الموسيقى لا سيما “قداس الموتى” لـ”موزارت”.
في موقف للحافلات، يقف رجل من بعيد يراقب حركة سائق ينظّم الحقائب، يسأله بخجل -قبل أن ينطلق- هل يستطيع حمله من غير أجرة.

تسير الحافلة حاملة أبطالها البؤساء، وأولهم جمال (الممثل سمير الحكيم)، ترافقها في سيرها موسيقى جنائزية، ستنبعث مرة أخرى في مشاهد لاحقة.
وسترافق تلك الموسيقى البطل وكأنها نبوءة، فتمنح الفيلم نغمة حزينة مقلقة، لكنها مؤثرة بجمالها، وتظهر الرجل وكأنه يعيش حالة من القلق والتوتر وهو يواجه العالم الخارجي.
كلّ شيء يشي بالفقر، فنراه في المنطقة والحافلة والبرد الذي تعكسه المعاطف والوجوه الشاحبة والإضاءة البيضاء.
هروب الزوجة.. أولى خيبات الأمل بعد الخروج من السجن
تبدأ خيبات جمال عند اكتشافه أن زوجته وابنه ليسا في المنزل، وأن القفل مغيّر، وسيكشف حواره المقتصد مع أخته جزءا من حكاية البطل شيئا فشيئا.
فالسيناريو لا يعتمد الكشف الصريح والمباشر عن خفايا بطله وحكايته، كأن أهميتها ثانوية مقابل ما يبديه من مشاعر وسلوك، كأنه سيبقى على حاله مهما حصل له من أحداث، وكأنه سيوقع نفسه دائما في نفس المطبات.

سنعرف لاحقا -من غير تفاصيل كثيرة- أنه حمل وزر صاحب العمل وسُجن بدلا عنه، وأن زوجته، تركته واختفت مع الابن خلال سجنه، بعد أن كتب كل ما يملكه باسمها، وها هو ذا وحيد مع خيباته وفشله.
العودة إلى القرية.. رجل منحوس تلتهمه نيران رغبة الانتقام
حين عجز جمال عن استعادة حقوقه من ربّ العمل السابق، يقرر العودة إلى قريته بمساعدة أخته، حيث جذوره وبيت والديه، لكي يسترجع قوته على مواجهة الحياة، ويترك المدينة التي أصابته بحالة من الإحباط.
لكن هذا النوع من الشخصيات يبدو وكأنه منحوس، فلا يزال يقوده حظه السيئ وأسلوب تعامله مع الأمور والناس من فشل إلى آخر، بل إن نحسه يصيب من يقترب منه، ولا سيما عائلة قريبه الشاب الذي كان يعيش سعيدا قبل وصوله.

وأمام خداع البعض له تسيطر عليه فكرة الانتقام، وتلك الفكرة كلما بدأت مع إنسان تسللت بعمق حتى تغمر محيطه، وتصبح أمرا لا مفر منه، يشغل من وجد نفسه فيه، ويدفعه -في كثير من الأحيان- للوقوع في فخ المشاعر الحادة، والرغبة في الثأر.يصعب التعاطف مع جمال على ما أصابه، فهو منفر عدواني عنيف، وكأنه قرر أن لا سبيل آخر، فهو مستمر على طريق الخطأ بتصميم لا يلين.
إنها شخصية مدروسة بعمق، لا يوحي الفيلم بمكنونها إلا تدريجيا، بل إنه يخدع مشاهده حتى يتوقع لها سبيلا آخر في اللحظة التي قررت فيها الاستقرار في القرية.
تطور الشخصيات.. مفاجآت تطبخ على نار هادئة
يأخذ المخرج وقته في الفيلم، فنرى شخصياته تتطور بثبات وعلى مهل، ويكون الاعتماد على الممثلين أكثر من الحدث، ويصبح التبدل الذي يلحق بالشخصيات مفاجئا في كل مرة، وأحيانا محيرا مثيرا للتأمل، لا سيما تبدل البطل وقريبه.
فجميع هؤلاء يحيطهم الغموض، وهم يبدون تدريجيا على طبيعتهم كما في الحياة الواقعية، فتكتفي بعض المشاهد بحركة الممثل بين مكان وآخر، من غير أن يرافق ذلك حدث ما مهم، وكأنها معايشة لواقعه البطيء الباعث على الملل والخيبة.

بعد آمال عقدها جمال وقريبه على استثمار أرض في القرية، يبدو وكأن كل شيء ينهار مع مواجهة الماضي، فنكتشف رويدا رويدا علاقات متوترة بين أفراد في البلدة، ورغبات قديمة في الثأر تنبعث من مرقدها، وزواجا إجباريا قضى على حبّ، وزوجا (جمال) لم تحبه زوجته يوما، وكانت قد أجبرت عليه، فتخلت عنه عند أول فرصة.
إنها حكايات البلدات الصغيرة والناس التي تعرف بعضها، تلك التي تحمل في دواخلها مشاعر متناقضة من حب وكره ورغبة بالانتقام.
إنهم أناس عاديون يعيشون حياتهم الصغيرة بتفاصيلها اليومية، وردود أفعالهم الغامضة في أحيان كثيرة، وكل هذا يحيل مشروع جمال إلى هباء، وهو لا يريد أن ينسى، ويسعى لاسترداد ابنه، فيخسر كل شيء مرة أخرى.
أنيس جعاد.. نزعة للمدرسة الواقعية في حكايات الأرياف
كان دور جمال في الفيلم أول بطولة للممثل سمير الحكيم، وقد استطاع التعامل مع الدور بتوازن، من غير مبالغة في إبداء المشاعر، حتى عند الغضب، وتمكن من إيصال الغموض الذي يحيط بالشخصية.
أما مخرج الفيلم وكاتبه أنيس جعاد، فهو أيضا صحفي وروائي، وقد أخرج 4 أفلام قصيرة، وفيلما روائيا طويلا واحدا عام 2021، ألا وهو “الحياة ما بعد”، ويدور حول قصة هاجر وابنها اللذين يحاولان إعادة بناء حياتهما ونفسيهما، بعد اغتيال الزوج على يد جماعة إرهابية.

هذا الوضع الاجتماعي الجديد، وحالة الأرملة المتواضعة في قريتها النائية غربي البلاد، يضعانها في مواجهة كل صعوبات الحياة الجديدة. وقد نال الفيلم جائزة العمل الأول في مهرجان قرطاج.
وفي فيلمه الثاني -الذي بين أيدينا- “أرض الانتقام”، نراه يعود إلى القرية مرة أخرى، وإلى حكايات الناس البسطاء الذين تطحنهم الحياة، في سينما تنتمي إلى الواقعية الجديدة، وهي الحركة السينمائية التي ولدت في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، وتهدف إلى الموضوعية ومراقبة الحقائق اليومية في سياقها الاجتماعي.