“بنات المساجين”.. رقصة عائلية لإنقاذ الرجل الأسود من فساد السجون الأمريكية
ترفع أمريكا شعاراتها في كل محفل، وترفع صوتها على كل منبر، وتقدم نفسها نموذجا يقتدى به في كل دول العالم، لكن صورتها المظلمة ما تزال بعيدة عن عدسات الكاميرا والعالم، وهي صور قاسية وظالمة وغير إنسانية في كثير من جوانبها، لا سيما فيما يتعلق بالسود، هؤلاء الذين يطلقون عليهم تسمية الأمريكيين الأفارقة، ويظهرونهم للعالم بأنهم مساوون للبيض، لكن الواقع شيء مختلف تماما.
ومن أكثر الصور قسوة تلك التي يفرزها جهاز العدالة الأمريكي، من أحكام غير عادلة بحق آلاف السود عبر الأزمنة المختلفة، ولا أدل على ذلك من ما ينشره الإعلام يوميا، من اكتشاف مساجين قضوا معظم أوقات أعمارهم في السجون بتهم شتى، لكن تبين بعد عقود من الزمن بأنهم ضحايا تلفيق الشرطة والعدالة والأفراد، وكان من الصدفة أنهم من السود.
أفرز ذلك أنظمة قضائية توارثت النظرة السوداء على كل ما هو غير أبيض، لهذا أصبحت السجون الأمريكية تعج بالسود، هؤلاء الذين كانوا وما زالوا ضحايا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، للعنصرية والنظرة الدونية التي ينظرون بها لكل فرد غير أبيض.
في الفيلم الوثائقي الأمريكي “بنات المساجين” (Daughters) الذي عُرض عام 2024، تعرض المخرجتان “نتالي راي” و”أنجيلا باتون” صورة واضحة من واقع السجون، ووقعها القاسي على المساجين، ممن ارتكبوا أخطاء أو جرائم وجنح في حياتهم العادية، ومعظمهم ذوو سوابق عدلية متعددة، وسجنوا عددا من المرات.
عالم السجناء.. عائلات هشة ومجتمع لا يغفر الخطأ
يطرح الفيلم سؤالا محوريا، يقود المتلقي مباشرة للبحث عن الأسباب التي جعلت هؤلاء السجناء -ومعظمهم من السود- يعودون كل مرة إلى السجن، مع أن لديهم حياة يعيشونها، وعائلات وجب أن يوفروا لها الحماية والأمان.
وقد كانت النتيجة التي توصل لها الفيلم، هي أن النظام القضائي وطريقة تعامل السجون معهم هي المساهم الأكبر في عودتهم إلى حياة الإجرام، لأنه لم يمنحهم الفرصة المناسبة لمراجعة أنفسهم، بسبب معاملتهم دائما على أنهم مجرمون لا أمل في إصلاحهم.
بعدها تأتي نظرة المجتمع الأمريكي الأبيض بكل مكوناته، فهو يتعامل مع السود على أنهم مجرمون حتى يثبتوا العكس، وهم متهمون في أي حادث أو جريمة، لهذا غدت هذه النظرة القاسية دافعا للانتقام والانعزال لديهم، وساهمت في ذهابهم المتكرر إلى السجن.
كما أظهر العمل وقع الصدمة والقسوة والظلم على أقرباء المساجين وأبنائهم وذويهم، وفسّر العلاقة العضوية بينهم وبين السجين، وما نتج عنها من حيث قربهم وبعدهم عنه، وذلك من خلال خوض تجربة اجتماعية مهمة وفاصلة، تستحق أن تكون مرجعا للقضاء الأمريكي، لتطويرها والعمل بها، في سبيل القضاء على جزء كبير من الجريمة، والمساهمة بأكثر من 90% من احتمالية عدم عودة المفرج عنه إلى السجن مرة أخرى.
ترميم علاقات السجناء العائلية.. بداية الطريق
تتبع المخرجتان في فيلمهما نشاط منظمة تعمل على توطيد العلاقة بين المساجين وذويهم، ولقد خاضت هذه المنظمة تجربة عميقة، عن طريق خلق مساحة إنسانية في غاية الأهمية والعمق، وتمثلت في محاولة لمّ شمل بعض المساجين ببناتهم، وتنظيم حفل راقص داخل السجن.
عملت المنظمة على توفير كل الآليات الضرورية للقيام بهذا النشاط، فحصلت على موافقة مأمور السجن وبعض المساجين، بشرط تأهيلهم من طرف مختص لمدة أسابيع، وهذا ما حدث أيضا من بنات المساجين وأسرهم.
ولقد شكّل المؤطر حلقة تواصل مستمر داخل السجن، وكانت كاميرا الفيلم حاضرة، واستُغلت المشاهد المصورة، لتكون محور موضوع الفيلم.
سياط العنصرية.. آلام تشوه نظرة الرجل الأسود لنفسه
استُمع لآراء المساجين، واتضحت أحلامهم وكوابيسهم ونظرتهم للعالم ولأسرهم ولأمريكا عموما، وقد أجمعوا أن مظاهر العنصرية من أهم أسباب انتشار الجريمة، إذ تزرع فكرة أن الرجل الأسود مجرم بالضرورة، وهذه الفكرة تُبث حتى للسود أنفسهم.
كما عبروا عن واقع السجون المرير، فهم محرومون من اللقاءات المباشرة مع أقربائهم عادة، أو يلقونهم عبر الكاميرا، أو الزجاج العازل والهاتف، وهي إجراءات قاسية جدا أثرت على المساجين.
وفي الجهة الأخرى، تتواصل المنظمة مع بنات المساجين وتُجهزهم لهذا اللقاء الفاصل والمحوري، مع تأهيلهم وتجهيزهم نفسيا للمواجهة، وفي نفس الوقت تستكشف أحاسيسهن وطريقة تفكيرهن، ونظرتهن لآبائهن ومحيطهن، وكيفية عيشهن في غياب الأب.
وكلها معطيات مهمة يلتقطها الفيلم لبناء منظومة قضائية جديدة، وكل ذلك تحضيرا لليوم الموعود المنتظر، وهو تنظيم رقصة بين البنات وآبائهن المساجين.
إذابة الجريمة بالحب.. دراسة ميدانية أثبتت نجاعتها
بعد شهور من التأطير والتحضير وتهيئة الأجواء، جاء اليوم الموعود، فاشترت المنظمة ألبسة رسمية وأنيقة للمساجين، ثم جُمعوا مع بناتهم في إحدى قاعات السجن، وهناك تبادلوا الهدايا والأحضان والقبل والدموع، وعاشوا لقاء جسديا غير مسبوق، كما تبادلوا القصص بينهم، وبعدها ختموا لقاءاتهم برقصات طويلة على أنغام مختلفة.
وفي الختام قدم المساجين -حسب شروط المنظمة- وعودا وأماني لبناتهم، وقد اجتمع معظم تلك الوعود على معنى واحد تقريبا، وهو عدم العودة إلى السجن مرة أخرى بعد انقضاء المحكومية.
بعدها عاد الجميع لحياتهم الطبيعية ومشاغلهم الحياتية، وبعد سنوات من التتبع، جمع الفيلم عددا من النِّسب والأرقام المهمة، نتيجة لتتبع أعمال المنظمة ومبادرتها، ونتجت عنها إحاطة شاملة بحياة المساجين بعد انقضاء محكومية بعضهم.
وقد خلصت الدراسة إلى أن أكثر من 93% من هؤلاء المساجين لم يعودوا للسجن بعد تلك التجربة، فقد أثرت عليهم مشاعر الحب، وعرفوا قيمة بناتهم وأسرهم في الحياة، كما سُجلت أرقام مهمة يمكن العمل عليها، لتحسين القوانين، وخلق طريقة عمل جديدة للسجون، بعد أن أثبتت نجاحها.
في المقابل أثبت فشل الأنظمة الحالية التي تبعد السجين عن مكان إقامة أسرته، وتفصل عنه أقاربه خلال الزيارات، مما ساهم في تواصل الجريمة بأشكال شتى، لكن فكرة الرقصة أثبتت أن الجريمة قد تُذاب بالحب، ويمكن تقليلها مستقبلا، والمساهمة في تخفيف اكتظاظ السجون الأمريكية.
سجون أمريكا.. ريادة عالمية في الاكتظاظ والفشل
تحتل السجون الأمريكية الريادة عالميا في عدد السجناء، ويبلغ عددهم حاليا أكثر من 6.9 ملايين سجين، موزعة على كل الولايات، وكل ولاية لها أنظمتها وقوانينها، وقد حُدث بعض تلك الأنظمة، وحُول بعض الأحكام الجنائية إلى جنح، ووُضعت شروط جديدة للإفراج المشروط.
لكن تلك الأنظمة لم تأت بنتائج مهمة، لا سيما أن من المشاكل الأساسية نقص التواصل، وردم الهوة، والعنصرية المفرطة، وقسوة المساجين على النزلاء، كما أظهر فيلم “بنات المساجين”، وكلها معطيات ساهمت في تقوية الجانب الإجرامي لدى السجين.
ومع وفرة الأرقام والمعلومات التي جمعتها المنظمات، وطريقتها المعتمدة على الحب والتواصل وإحياء الضمير الأسري، فإن تلك السجون ما زالت تعتمد سياسة الهروب الى الأمام، وهذا ما جعلها لا تتقدم، في حين تستمر الأرقام في الارتفاع والجريمة في الازدهار.
ولقد أثبتت التجربة العملية التي خاضتها المنظمة ونقلها الفيلم، أن العلاج بالحب هو السبيل الوحيد للتخفيف من اكتظاظ السجون.
مرافقة الفيلم.. وثائق سمعية بصرية تنبض بيوميات السجون
استطاعت المخرجتان “نتالي راي” و”أنجيلا باتون” توليد كثير من الوثائق التي أصبحت مراجع مهمة، من خلال فيلمهما الوثائقي المختلف والنابض، ومن بين هذه الوثائق ما جُمع من تسجيلات سمعية بصرية داخل السجن، من خلال المسايرة والمرافقة.
وقد نتج عن ذلك التوصل لعدد من القيم الإنسانية والحضارية، وفهم عقلية المساجين، مع تفكيك العلاقة بين السجين وأسرته من جهة، ومن جهة ثانية بينه وبين الإدارة والسجن والجهاز القضائي عموما، وهي نتائج مهمة وأرقام دقيقة ونسب يمكن أن يبنى عليها أي تأصيل دراسي، لا سيما أن فريق الفيلم ساير المنظمة ورافقها، حتى وصل معها إلى تلك النتائج المبهرة.
من هنا تكتمل لعبة المرافقة أو التسجيلية في السينما الوثائقية، لأنها تنقل روح الفيلم الوثائقي وتبني محوريته وأصالته، وتقود دائما إلى خلق نتائج إيجابية يمكن أن تخدم الإنسانية عموما، سواء من حيث الإبلاغ والتوثيق، أو المشاركة في فهم بعض الحالات بأبعادها العلمية والإنسانية، كحالة فيلم “بنات المساجين”.
شحنة عاطفية تمد الجسور بين الفيلم والجمهور
لم يهيمن موضوع الفيلم وحساسيته على باقي العناصر التي تخدم الجانب السينمائي فيه، ولذلك رُسمت له أبعاد جمالية متعددة، منها طريق البناء وتراتبيته.
ومع أن المخرجتين تعتمدان على البناء العتيق، فإن ذلك لم يُذهب الجمالية، بل ولّدها وساهم في تكريسها لتكون منطلقا أساسيا، وهو الأمر الذي فرضه الموضوع الحساس والعاطفي.
كما نجحت المخرجتان في توليد عواطف متقدة وفاصلة، أدخلت المتلقي في حالة متقدمة من التأثر، بعد أن شحنتا الفيلم بجملة من الانفعالات، وذلك من الأشياء المهمة التي تساهم في مد جسور تواصل قوية بين الفيلم والجمهور.
شارك فيلم “بنات المساجين” في العديد من المهرجانات السينمائية المهمة، وحصد عدة جوائز، منها 3 جوائز مهمة من مهرجان “صندانس” السينمائي 2024، وهي: جائزة لجنة التحكيم، وجائزة الجمهور، وجائزة تفضيل المهرجان.
كما حصد جائزة الفارس للإنجاز الوثائقي لسنة 2024 في مهرجان ميامي السينمائي.