“ثورة الحقول”.. قصيدة سينمائية توثق أضخم احتجاجات المزارعين في الهند

يبدأ الفيلم بحركة كاميرا من زاوية علوية، تستعرض حجم الاحتجاجات وامتدادها، في حين تتدفق عبر شريط الصوت حكاية مستوحاة من تاريخ الديانة السيخية، يرويها أحد قادة الاحتجاج.

حين وُلد المعلم “ناناك” مؤسس الديانة السيخية، كان الملوك يعدون تجسيدا للإله، ومن ثم تحرم مخالفتهم، لكن المزارع “ناناك” وقف في وجه ظلمهم، وأعلن أنه لا يوجد إلا خالق واحد، وكان جزاءه السجن والمعاناة، لكنه استمر في المقاومة. نشاهد الحضور وهم يستمعون ويتأثرون بحكاية المعلم “ناناك”.

تعد افتتاحية أي فيلم عتبة من عتبات العالم الفيلمي، فهي مهمة وحاسمة في تحديد معناه، وهذا فيلم عن المقاومة والتضحية، وقد دام احتجاج المزارعين 16 شهرا، وهو أحد أطول الاحتجاجات الجماهيرية وأضخمها في الهند المعاصرة.

تدعونا “نيشتا جين” في فيلمها “ثورة الحقول” (Farming The Revolution) إلى عالم يحتل التحدي فيه مركز الصدارة، وتنسج قصة شجاعة ومرونة غير عادية. استدعاء حكاية مؤسسة ومؤثرة كحكاية المعلم “ناناك”، تُعدنا للمهمة التي يقبل عليها المحتجون ضد السلطة، وأنها ليست يسيرة بل شاقة ومليئة بالعقبات والصعاب.

“ثورة الحقول” هو فيلم من إنتاج مشترك بين الجزيرة الوثائقية و”آر تي” الفرنسية، وقد عُرض أول مرة في مهرجان “هوت دوكس” (Hot Docs)، أكبر المهرجانات الوثائقية في كندا، وقد فاز بالجائزة الكبرى في المهرجان. كما حصل أيضا على “جائزة لجنة التحكيم الخاصة” في المهرجان الدولي للأفلام الوثائقية والقصيرة (IDSFFK)، الذي يقام في ولاية كيرالا الهندية الساحلية.

“نيشتا جاين”.. سينما منحازة لأنين الطبقة الدنيا

تشهد وثائقيات المخرجة “نيشتا جاين” على انحيازها العميق للطبقات الدنيا من المجتمع الهندي، فأفلامها تستجوب التجارب الحقيقية لأبطالها، الآملين بتغيير ما لا يمكن تغييره عند تقاطع الجنس والطائفة والطبقة، مثلما تستكشف السياسة عبر حكايات شخوصها.

لدى “جاين” ثلاثية تتمحور حول العمال، وينتمي أبطال الأفلام الثلاثة للطبقة العمالية الغالبة على سكان الهند. وقد بدأت بفيلم “أنا ولاكشمي” (Lakshmi and Me) عام 2007، ثم “على عتبة بيتي” (At my Doorstep) عام 2009، واختتمتها بفيلم “الخيط الذهبي” (The Golden Thread) عام 2022، ويدور حول كفاح عمال “الجوت” لتحسين أجورهم، في ظل صناعة عتيقة مهددة بالزوال.

ملصق الفيلم

أما فيلمها “غولابي غانغ” (Gulabi Gang) الصادر عام 2012، فيدور حول ثورة في طريقها للظهور بين أفقر الفقراء، إذ تعمل عصبة النساء المسماة “غولابي” على تمكين أنفسهن، والنضال ضد العنف الجنسي والقمع الطبقي والفساد المنتشر، فهن يردن تغيير ما لا يمكن تغييره عبر التنظيم والعمل الجماعي.

وفيلمها الجديد “ثورة الحقول” (Farming the Revolution) يسير على نفس المنوال، ويبدو مثل فصل جديد في حكاية ممتدة.

“ثورة الحقول”.. احتجاجات هائلة لكسر القوانين الجائرة

يتناول فيلم “ثورة الحقول” ما يشبه يوميات مصورة لهذا الحدث الهائل والممتد، فقد اندلعت احتجاجات هائلة في الهند عامي 2020-2021، بسبب ثلاثة قوانين زراعية شعرت النقابات أنها ستضر بالمزارعين ضررا شديدا، وتثري الشركات الكبرى.

تشرح “جاين” عبر أبطالها خلفية الحدث وآثاره على المزارعين، وتعرض مقاطع كثيرة لمنظمي النقابات والمتحدثين في التجمعات الاحتجاجية، يشرحون فيها تهديد القوانين لهم.

على مدى ثمانية أشهر بين عامي 2020-2021، كان الملايين من الناس يتنقلون في قوافل الشاحنات والمنازل المؤقتة المحيطة بنيودلهي، على أمل الحد من القوانين الجديدة، التي من شأنها أن تفتح الأبواب على مصراعيها أمام مصالح الشركات الكبرى، في حين تدفع المزارعين إلى براثن الفقر.

“ألكاراس”.. كوارث تهدد أقدم مهنة في حضارة الإنسان

لا يبدو أن الأمر يخص الهند فقط، فمعاناة المزارعين باتت منتشرة حول العالم، وتهديدات المهنة الأقدم في حضارة الإنسان تتفاقم.

فقبل عامين عُرض أيضا فيلم “ألكاراس” (Alcarràs) للمخرجة الإسبانية “كارلا سيمون” (2022)، وفاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين.

مخرجة الفيلم الهندية “نيشتا جاين”

يحكي الفيلم عن الأوضاع التي صارت صعبة على جميع المزارعين في إقليم كاتالونيا الإسباني، وقد بدأ بعضهم يتخلون عن مزارعهم بسبب الأوضاع الاقتصادية، والتكنولوجيا الحديثة في الزراعة، والشركات الكبيرة التي تحصل على مزارعهم بأبخس الأثمان.

“سيمفونية أنشأها المزارعون على مدار عام”

تدفع المخرجة “نيشتا جاين” ببعض الأفراد البارزين إلى مقدمة الصورة، منهم الناشطة “فيربال كور”، ورئيس الحركة “جوغيندر سينغ أوجراهان”، لكن اهتمامها الأكبر هنا بالقوة الجماعية للمزارعين المتحمسين، الذين رفضوا وقف الاحتجاج ضد هذه القوانين.

تقول “جاين” في حوار لها: فكرتُ كيف سأروي قصة احتجاج المزارعين على مدار عام، مع مئات الآلاف من المحتجين؟

لن يكون مزارع واحد كافيا لرواية قصة تلك المجموعة. كان لا بد للفيلم أن يصير سيمفونية من الشخصيات، أن أحكي من خلال شخصيات مختلفة، رجالا ونساء، كبارا وشبابا.

إنها سيمفونية أنشأها المزارعون على مدار عام، لذلك لا يمكن أن يكون الفيلم عن شخصية واحدة.

جوهر المشاركين.. ثقل أخلاقي مستمد من روح الجماعة

لا يكتسب فيلم “ثورة الحقول” ثقله الأخلاقي من الخطب الحماسية، بل من اللقطات الواسعة للأفراد الذين تجمعوا معا، يوما بعد يوم، احتجاجا ضد حكومة تبدو غير مهتمة بمشاكلهم الاقتصادية المنهكة. وفي حين تحتاج الثورات إلى زعماء، فإن هذا الوثائقي يشير بجلاء نحو سلطة الجماعة.

قوافل طويلة من السيارات تنقل ملايين المحتجين إلى موقع الاحتجاج في نيودلهي

ويتجنب الفيلم ببراعةٍ التركيزَ المطول على أي محتج، وبدلا من ذلك، يلتقط جوهر كل مشارك، سواء من خلال حديثهم، أو لحظات التأمل الصامت التي تلتقطها الكاميرا. كما يتميز ببنية سردية معقدة ومتعددة الأصوات.

يسجل الفيلم العصيان المدني، وينخرط بفضول مفتوح العينين لإبراز الجوانب الأكثر أهمية في شخصية المزارعين، مثل الصبر والقوة والمرونة، وقد شجعتهم على الاستمرار في ظروف معتمة، لا يتبدى في خط أفقها أي تغيير.

مذكرات مؤثرة تمزج الحاضر وإلهام الماضي

تصبح الرحلة في أيدي المخرجة “نيشتا جاين” مذكرات مؤثرة لحركة الجماعة، وتوثيقا حيا للحالة المزعجة التي تعيشها وسائل الإعلام في البلاد، فأغلبها يتواطأ مع “مودي” وحزبه، ونشاهد كذب ادعاءاتهم عيانا. ويلتقط الفيلم النطاق العاطفي الواسع للتجمعات، مسجلا المواجهة طويلة النفس بين المزارعين الهنود وحكومة “مودي”.

الفيلم رائع في استقصائه السمعي البصري للاحتجاج، بوصفه حركة ثقافية لا عنفية، فتشع الشاشة بالألفة الحميمية بين المحتجين والشاعرية المرهفة. ففي كثير من الأحيان، تطابق “جين” صوت المحتجين وهم يتلون قصائد السيخ من القرن الـ15، مع مشاهد الناس والمركبات المتحركة.

النساء جزء كبير من المحتجين على قرارات الحكومة

يصبح التاريخ والتقاليد محركا لهم، ويصبح الشعر جزءا من الموسيقى التصويرية، وجزءا من النسيج السينمائي. وتصور المخرجة “جاين” بمهارةٍ عظمةَ الاحتجاجات، من خلال لقطات شاملة بمسيّرات، ولقطات مؤطرة بعناية على مستوى الأرض. ومع أن عدستها تلتقط الحشود الضخمة من زوايا ذكية، فإن عدستها السردية ثابتة على ما هو شخصي وحميم، مما يضيف عمقا وارتباطا إنسانيا بالحركة الجمعية.

يتكشف كل مشهد بكثافة شعرية، من خلال كاميرا “أكاش باسوماتاري”، وهو مخرج مشارك ومدير التصوير في الفيلم، فيعبر عن المشاعر الخام والعزيمة الثابتة لأولئك الذين يجرؤون على تحدي الوضع الراهن.

بساطة السرد.. إيقاع فني هادئ يلامس الطبيعة

تلجأ المخرجة “نيشتا جاين” للبساطة الأسلوبية، سواء على مستوى الإيقاع أو البناء، فيخلو سردها من الذرى والانخفاضات المعتادة للقصة التقليدية، مستريحا في إيقاع هادئ ومتأمل.

كما يبدو الفيلم أيضا محكوما بالتكرار، فنرى عدم مبالاة الحكومة يسيطر على الموقف، وتظل محاولات المحتاجين كما هي من طرف واحد، ولا تخلق أي صدى لدى السلطة.

نساء معتصمات يحضرن الخبز للمتظاهرين

تتبدل الفصول على المحتجين، فنراهم مرة يلفهم ضباب الشتاء، ومرة غبار الصيف، في حين تتسلل أشعة الشمس إلى الإطار.

وتتخذ “جاين” الطبيعة جزءا لا يتجزأ من سردها، وتصور الحقائق القاسية التي يواجهها المزارعون مع استمرار العالم في الدوران، وتلتقط كاميرتها شعورا قاسيا بعدم المبالاة تجاه مخاوفهم، وهم ينتظرون بصبر حلا قد لا يأتي أبدا.

خبز السياسة.. أكاذيب على مائدة العشاء

يدور الفيلم حول صمود المزارعين وتكلفة هذا الصمود، وهو ما يشحن الفيلم بغضب يمكن للمشاهد بسهولة استشعاره.

تنجح “جاين” في التقاط العرض الواسع لهذه القصة، عبر شريطي الصوت والصورة، وتذاع ردود الفعل من الحكومة وتقارير الإعلام التي تصف المحتجين بأنهم محرضون إرهابيون، على مشاهد ليلية للمزارعين، وهم يتجمعون ويأكلون ويعتنون ببعضهم، ويشحنون طاقاتهم لمظاهرات اليوم التالي.

نراهم يخبزون عيشهم وهم يتناقشون في السياسة ومستقبل الاحتجاجات، وكأن السياسة قد صارت الآن خبز أيامهم.

يتعمق الفيلم في الذاكرة الشخصية والجماعية، للحصول على إلهام موسيقي وشعري عندما يبدو كل شيء ميؤوسا منه. وعندما يأتي قرار السلطات بإلغاء القوانين المرهقة، يخفف ذلك وطأة الواقع القاسي قليلا.

فلا توجد انتصارات واضحة في فيلم “ثورة الحقول”، بل ذلك مجرد اعتراف بالحرب الطويلة الشاقة التي يواجهها عمال كثيرون في مختلف أنحاء العالم، في معركتهم من أجل البقاء.

“فيريال كور”.. ناشطة تبرز قوة المرأة الواعية

أول ما يلفت الأنظار في فيلم حقول الثورة هو حضور النساء الطاغي الفعال، وأول لقطة أمامية في الفيلم بعد الاستعراض من زاوية علوية لحجم الاحتجاجات، تكون لمجموعة من النساء مختلفة الأعمار.

تظهر النساء هنا شريكات متساويات في النضال السياسي، وتدفع المخرجة “جاين” بالمرأة دائما لمقدمة الصور، في ظل وعيها بسياسات صناعة الصورة وتمثيل الذات، والتسلسلات الهرمية الاجتماعية.

تبرز هنا “فيربال كور” البالغة من العمر 34 عاما، وهي ناشطة ملتزمة بالقضية، جنبا إلى جنب مع أختها الكبرى، فقد تبنتا الاحتجاجات بوصفها نداءهما وولاءهما الذي لا يتزعزع، وبفضل جذورهما العميقة في نقابات المزارعين، فهما تعملان لحشد النساء من مجتمعهما بعزيمة ثابتة.

هنديات بأعداد كبيرة يشاركن في ثورة الحقول

ولكن الاحتجاجات تمثل لدى الأختين أكثر من مجرد معركة ضد قوانين المزارع القمعية، فهي تجسد إنبات وعي جديد قائم على المساواة. ومن ذلك الوعي أن “فيريال” قد تركت وظيفتها في مركز تجاري محلي، بسبب أنه مملوك لرجل أعمال مؤيد للقوانين الظالمة.

تحظى بعض النساء الأخريات بحضور هائل في الفيلم، منهن “هاريندر بيندو”، الزعيمة المحبوبة لاتحاد المزارعين الهنود، وتعمل جهودها الحماسية على حشد النساء والعمال المهمشين.

يتجاوز الفيلم كونه تقريرا عن حركة المزارعين في حد ذاتها، بل إن اهتمام “جاين” وتركيزها ينصب على معادلات القوة في الهند المعاصرة، ولا سيما ما يتعلق بالمرأة والعمل. إنها ليست مهتمة بـتشريح السلطة، بل بـمسرح حياة الحالات الإنسانية التي تتجسد أمام كاميراتها.

وثائقي المراقبة.. عدسة خفيفة لا تفرض رؤيتها

ينتمي فيلم “ثورة الحقول” إلى ما يسميه منظّر السينما الوثائقية “بيل نيكولز” وثائقي “المراقبة” (Observational Documentary)، ففي وثائقي المراقبة يصبح المخرج أقل تحكما في المادة المصورة، ولا يملي على الشخصيات ما تقوله أو تفعله، بل يتابع ويلاحظ ما يحدث أمام كاميراته.

تمتلئ الشاشة بإحساس ملموس بالود، وتنسج المخرجة -عبر سردها- الخلفية السياسية المعقدة التي تشجع تصميم المزارعين، وتظل عدستها خفيفة غير مزعجة، تراقب مواضيعها بدقة دون فرض اتجاه محدد.

مئات الآلاف من الرجال والنساء يحتشدون في نيودلهي

وبنظرة حريصة على التفاصيل، تتبع الكاميرا مواضيعها اتباعا وثيقا، وتلتقط أفعالهم وتفاعلاتهم وعواطفهم في احتضان طبيعي. ويركز الفيلم على الحياة اليومية للمزارعين في المخيمات في دلهي والبنجاب.

لا تصدر الكاميرا وجهة نظرها ولا تفرض أحكاما، بل تترك لنا الوصول إلى استجابتنا لأحد أكبر الاحتجاجات العامة في تاريخ الهند.

تستخدم المخرجة “نيشتا جاين” أسلوب السرد المتعدد الشخصيات في الفيلم، مما يجعل الفيلم قصة شخصياتها لا قصتها. وتهتم أفلامها دائما باليومي، بالناس العاديين بأحلامهم ومعاناتهم، فأفلامها سياسية بعمق، ومتجذرة في الناس.


إعلان