فيلم “سيلَما”.. بحث عن تاريخ المدينة فوق ركام دور العرض السينمائية
دائما ما تغري النهايات مخرجي السينما، فالجميع مفتون بتتبع النهايات واستعادة الأماكن، فالأنساق الاستعادية تعيد قراءة التاريخ في أطُر مكثفة ومركزة في اتجاه معين، تختبره داخل نموذج ابن زمانه وعالمه، وتستجلب معها رؤى جديدة يغلب عليها الحنين.
بيد أنها تحاول تأطير النموذج الحكائي داخل مساحة جديدة، حيز يتعلق باللحظة الحالية والنسق الاجتماعي والظروف السياسية الراهنة.
هذا ما يحاول المخرج هادي زكّاك تقديمه في فيلمه الوثائقي “سيلَما” (سينما في اللهجة الطرابلسية)؛ الذي انطلق عرضه الأول من مهرجان الجونة السينمائي في دورته السابعة، المقامة في أكتوبر/ تشرين الأول 2024 المنصرم.
تقصي أطلال دور السينما القديمة
يسعى هادي لتتبع السياق التاريخي لمدينة طرابلس اللبنانية، من خلال تقصي أطلال دور السينما القديمة، ويبني سرديته السينمائية على بحث مجمّع في كتاب يحمل نفس الاسم، فيرصد من خلال ذلك الواقع الاجتماعي للمدينة، في حقب تاريخية مختلفة ومتتالية.
الأمر أشبه بتأريخ لدور العرض السينمائية، وبمحاذاة الطاقة التعريفية المطعمة بالصور واللقطات والحوارات، يحدث ما يشبه رصدا للطبيعة السياسية والاجتماعية.
ذلك لأن دور السينما ترتبط بعادات وممارسات سينمائية، أهمها ارتياد السينما أسبوعيا، لذا فهو يحاول الوصول إلى لحظة أصبحت فيها السينما سلوكا معتادا، يتكرر بانتظام، ويميل إلى الحدوث دون وعي.
كانت البداية من عند تلك النقطة؛ أي السينما بوصفها منفذ ترفيه، أو وسيلة للتفاعل والانخراط والامتداد الثقافي، فيقارن المخرج -من غير سابق وعي- لحظات التوهج السينمائي بلحظة الآن، ويخلق تسلسلات لا تروم الوصول لتفسير عقلاني، بقدر ما ترغب برصد تلك التحولات وخطوطها، ومدى انخراط الناس فيها.
انطفاء الشعلة.. نهاية نشاط ثقافي واقتصادي رائج
يتعاطى المخرج مع نهايات حقبة ممارسة الأنشطة السينمائية، ويتخذها نهاية نسخة معينة للمواطن الطرابلسي، وخاتمة لطبيعة وشكل معين من الحياة، ويراها نقطة تحول في الحياة الاجتماعية، فالسينما صناعة لها بُعد اقتصادي وثقافي.
كانت السينما -كما يصفها أبطال الفيلم- من أكثر المشاريع نجاحا ورواجا تجاريا في لبنان بأنواعها وأشكالها؛ السينما الصيفية والشعبية والفنية وغيرها.
كما كان لها صدى واسع في تطوير عادة فيها جانب من الالتزام تتوارثه الأجيال، عادة تُشكّل وعيهم بالزمن، وتقترن بأشكال جمالية و”تقاليع” معينة من ملابس وعطور وأطعمة، فكانوا ينتظرون إجازة يوم أو يومين كل أسبوع ليذهبوا للسينما، وأحيانا يهربون من المدرسة ليشاهدوا فيلما، أو يتابعوه من شباك غرفتهم المواجه لدار عرض سينمائي.
أحاديث الذكريات.. خريطة ذهنية تتجاوز المكان
الجدير بالذكر أن المخرج لا يصور أبطاله ولا يعرفنا بهم تقريبا، ولكننا نتابع رواياتهم المتعلقة بالطفولة والشباب والمدينة والطعام والسينما، فكل شيء في رواياتهم مطعّم بذكريات ومواقف، تمنح المشاهد صورة حية عن تلك الحقبة الزمنية.
يبحث هادي الزكاك عن لبنان ما قبل إعادة الإعمار، فيتلمس الأماكن القديمة، ويتتبع جغرافيتها، ويؤرخ طبيعة اختفاءها وتغير نشاطها من مقهى إلى دار سينما، ومن دار سينما إلى شيء مختلف.
فيرسم بذلك خريطة ذهنية تتجاوز المكان، وطبيعة سرد القصص الحميمية، ويتعرّض لدور السينما بوصفها جسد طرابلس، الذي هدّه الزمن بوقائعه السياسية. جسد يستعيده المخرج في شبيبته وعنفوانه، ثم يشهد على احتضاره.
أيام الحرب الأهلية.. أسلحة تزور العروض السينمائية
تقترن روايات الأجيال المتعاقبة بأنشطة وممارسات متطرفة وغريبة، تكشف ماهية الطبائع الاجتماعية والعلاقات الإنسانية في كل جيل، من عروض الإباحية ذات العشر دقائق في منتصف الأفلام، التي تسمح للشباب بالاستمتاع بطريقتهم داخل دور السينما.
وربما يمكن الربط بين الجو العام والممارسات على هامش دور السينما، لأنها قد تحولت إلى أعمال أشد عنفا ووحشية، مع دخول الحرب الأهلية اللبنانية، التي حفّزت ممارسات عدوانية، فكان السائد في ذلك الوقت أن يدخل المتفرجون وهم يحملون الأسلحة.
لقد غيّرت الحرب الأهلية الخريطة السينمائية، أو غيرت النشاط السينمائي، فأنتجت نوادي السينما الجامعية، وأثرت في ذائقة كثير من الشباب، بانتقائية في عرض الأفلام والمخرجين.
إباحية السينما.. واقع كارثي ما زالت آثاره حاضرة
أصبح عدد كبير من دور السينما دورا إباحية، تعرض أفلاما مخلة وتتخذها نشاطا تجاريا مربحا، فقد ارتبطت حقبة الحرب الأهلية بالعنف والجنس، وأصبحا ركيزتين أساسيتين فيها.
يحكي أحد الرواة أنه تفاجأ برجل يحمل كلاشنكوف، ويفرّغ الطلقات على شخصية الشرير حتى يقتله على الشاشة، فقد كان العنف شعار تلك المرحلة، يسطو على مناحي الحياة، حتى أكثرها خفة مثل السينما.
بدأت دور السينما تنحدر إلى شاشات إباحية، وأُغلق بعضها، بيد أن تلك الحقبة كانت كاشفة.
يقول أحد رواة الفيلم إنهم ذهبوا إلى دار سينما إباحية، فوجدوا صفا من السيارات الفارهة تقف عند دار العرض، فكبار مسؤولي البلد كانوا في الداخل يشاهدون فيلما إباحيا. الأمر أشبه بمحاكاة ساخرة ولكن في إطار الواقعي.
ويمكن تطوير ذلك الإطار، إذا أضفنا معلومة أن كثيرا من دور السينما، كانت تعمل على مولدات كهرباء في ذلك الوقت. ويبدو استدعاء تلك اللحظات -على طرافتها- إدانة لكثير من الأفراد والجماعات، وتأريخا لواقع كارثي ما زالت لبنان تعاني من آثاره.
والجدير بالذكر أن محاولات هادي الزكاك لبعث البنية السينمائية المكانية من خلال عدسته، إنما هي أشبه بمحاولات خلق “فرانكنشتاين” (شخصية روائية وسينمائية) جديد.
فدور السينما كيانات مُجزّئة تحمل بداخلها حنينا، وكل واحدة مُحمّلة بثقل الذكريات والتاريخ، ولكن تجميعها وتركيبها معا يشعرنا بالضيق والحسرة، وربما الخوف من النمط أو الشكل الذي وصلت إليه السينما.
الصور والأرشيف وروايات الأجيال.. سباق مع الزمن
اعتمد هادي الزكّاك نمطا بصريا هادئا وثابتا، يمرر الصور ببطء ويعمد لتصدير المشاهد الثابتة التي تصور الإنسان داخلها في صورة مرتبكة ومهزوزة، مثل شبح يقف على أنقاض سينمائية، ذكريات وصور ومشاعر.
يحاول المخرج أن يمزج بين الصور الحية ومقاطع الأرشيف، ليؤسس قيمة موازية بمعزل عن التأريخ لدور السينما، ويوفر قراءة جغرافية واجتماعية، من خلال التتابع الجيلي.
فقد كان يسابق الوقت، ليدرك أكبر عدد من الأجيال الذين عاصروا تلك الحقب السينمائية، فيجمع أكبر قدر من الروايات، لا سيما أنه بدأ التصوير عام 2014، وانتهى منه عام 2022.
وبذلك استطاع أن يغطي مدّة زمنية تقارب 100 عام، من الثلاثينيات حتى الآن، وما يقارب 40 دار عرض سينمائية، لم تنجُ منها سوى دار عرض واحدة.
فضّل هادي الزكاك أن يحكي حكايته من خلال الرواية الصوتية، مقرونة بلقطات أرشيفية لدور السينما، وصور حية للسينمات بشكلها الحالي، وما آلت إليه.
وإنما أسميها صور حيّة، لأنها لا توقف تدفق المعاني والصور داخل مخيلتنا، مع أنها تُحيلنا لإشكالية الزمن المتجمّد والمعلّق في إطار محدد، لا سيما أن الصوت هو الدعامة الأساسية لتحريك الفيلم إلى الأمام، فهو يلتقط ما تيسر من حياة، ويمنح الصور سريانا وحيوية تدفع الفيلم للأمام.
إحياء الماضي.. رقصة دور السينما الأخيرة
لا يفصل المخرج هادي زكاك كثيرا، أو يقسم سرديته لخطوط حكائية، بل يمزج كل الخطوط معا في سردية مكانية، فالمدينة بأحداثها وحقبها الزمانية مدينة فوضوية، لا يمكن السيطرة على عشوائيتها، بيد أن الشيء الذي لا يمكن محوه أو إزالته هو السينما مكانا وذاكرة.
وذلك ما يشتبك معه المخرج، لينتج لحظات حميمية عن علاقة أبطاله بالسينما، وعلاقته هو بالسينما، لأن الحاضر ليس جميلا، والماضي لم يكن مثاليا، بل مليئا بالفواجع.
بيد أن الأقاصيص نصف المحكية، والذاكرة البديلة المتمثلة في المكان، ترصد ظاهرة “دور السينما”، بوصفها مروية شاعرية حتى في قسوتها وعنفها، ويتعاطى مع أكثر لحظاتها تعقيدا بطرافة وهدوء، لا سيما وقد اعتمد اعتمادا كبيرا على شريط الصوت، الذي يكثف المزاج الفيلمي.
يمنحنا ذلك فرصة للتلصص على سينمات لم تعد موجودة بشكلها الحالي، فسينما إمباير ودنيا وريفولي وكليوباترا وروكسي وميتروبول، جميعها كانت حاضرة في الفيلم، وبذلك وُثقت حكاية أماكن لم يبق منها سوى فُتات.
سقطت دور العرض منسية، فأعادها هادي مرة أخرى لترقص رقصتها الأخيرة، ولكن هذه المرة بلا أعمدة ولا جدران ولا شاشات ضخمة. هذه المرة كانت دور السينما هي الحكاية التي تُلعب على الشاشة الكبيرة.
وبمحاذاة تدفق الصور يبحث هادي عن سيرة المدينة، ويبحث عن هويّة، ويؤرخ للتحولات السياسة.