“الشقة 7”.. رعب نفسي يجسد الصراع الأزلي بين الخير والشر
“أأنت الفتاة التي سقطت؟”
كان ذلك هو السؤال الذي رافق “تيري” طوال فيلم الرعب النفسي “الشقة 7″، وقد كان بمنزلة مفتاح المُشاهد لفهم الأبعاد المتعددة للقصة، وهي محاكاة لأيقونة أفلام الرعب العتيقة في ستينيات القرن العشرين؛ ألا وهو “طفل الروزماري” (Rosemary’s Baby)، الذي أخرجه “رومان بولانسكي”.
تدور أحداث الفيلم حول حياة الراقصة الشابة “تيري”، التي انتقلت من ولاية نبراسكا سعيا لتحقيق ذاتها، ضمن وسط فني لا يرحم بولاية نيويورك الأمريكية في الستينيات، لكنها سرعان ما ارتطمت بجدار الواقع السميك، حيث السقوط على خشبة المسرح قد يعني نهاية المسيرة الاحترافية للراقص.
وفي سياق أحداث مشابهة إلى حد بعيد مع أحداث فيلم “طفل الروزماري”، تلتقي “تيري” صدفة بزوجين عجوزين، فيقرران مد يد العون لها، إلى أن تستعيد عافيتها، فكان ذلك اللقاء عنوانا لمنعطف حاد ستشهده مسيرة الفنانة اليافعة.
عُرض فيلم “الشقة 7” (Apartment 7) في سبتمبر/ أيلول 2024، وقد أخرجته اليابانية الأسترالية “ناتالي أريكا جيمس”، وقامت ببطولته الممثلة “جوليا غارنر”.
سقوط على الخشبة يؤدي إلى مستنقع الإدمان
يفتتح الفيلم بمشهد للراقصة “تيري” وهي تضع اللمسات الأخيرة على زينتها في غرفة الأزياء، استعدادا للخروج إلى المسرح، وأداء الفصل الأكثر إلهاما من مسرحية راقصة، تؤديها مع زملائها.
تبدو “تيري” على الخشبة فرحة ومتألقة وسط الأضواء، تقفز من يد إلى أخرى برشاقة لافتة، ومع تأديتها للحركة الأخيرة من الرقصة يختل توازنها، فتسقط على قدمها، ويتردد في مسامعنا صوت انكسار عظم الكاحل.
تسدل الستارة حينها، ويتحلق جميع الراقصين حول “تيري”، التي تنتقل إلى سرير المستشفى بمشهد خيالي، يمهد لفضاء الانزياح عن الواقع في الفيلم.
لم تعد “تيري” قادرة على أداء أي دور في المسرحيات، لإصابتها وعجزها عن تحمل الأداء، فبدأت مشاعر الفشل تتسرب إليها، فوقعت في فخ الإدمان على عقار غير مرخص يسبب الهلوسات، وفُتح الباب على مصراعيه للخلط بين الواقعي والخيالي في حياتها.
السقوط الثاني.. لقاء يفتتح حكاية الفيلم
تخوض “تيري” تجربة أداء مهمة للمشاركة في مسرحية راقصة على خشبة “برودواي”، وهو من أشهر مسارح نيويورك، فتلتقي بالمؤلف والمنتج ذائع الصيت “آلان مارشاند” (الممثل جيم ستارغيس)، فيحاورها حوارا غير مألوف، يحاول فيه اختبارها نفسيا.
ومع أنها نجحت في الاختبار النفسي، متسلحة بشخصيتها القوية، فقد فشلت في امتحان الأداء، وخرجت من المسرح بانتكاسة في كاحلها.
وفي ذروة الانحطاط الدرامي لمسار الشخصية، ومع وصولها لبوابة “برودواي” الخارجية، تستبد الآثار المهلوسة للعقار بها، فيختل توازنها وتسقط مرة أخرى، ولكن هذه المرة في أحضان العجوز “رومان”.
وقد نقلها “رومان” وزوجته “ميني” إلى شقتهما الفاخرة (الشقة رقم A7) بمبنى “برامفورد” (خيالي) في مدينة مانهاتن الغاصة بالأثرياء، ثم أقنعاها بالمكوث في شقة مجاورة يمتلكانها بالطابق نفسه في ذات المبنى، ريثما تستعيد توازنها.
إضفاء العمق النفسي للصراع.. رهان على الحصان الرابح
لا شك أن المخرجة “ناتالي جيمس” قد استطاعت تحمل المسؤولية العظيمة التي ألقتها على عاتقها، باختيارها الخوض في غمار إعادة إنتاج واحدة من أكثر قصص الرعب إلهاما في تاريخ السينما، ألا وهي قصة “طفل الروزماري”، الطفل الشيطان الذي يولد ليحرر العالم في معتقد عبدته.
فالكمال الأسلوبي الذي انعكس في عدسة المخرج “رومان بولانسكي” في فيلمه الأيقوني، قد جعل تجربة “نتالي” في “الشقة 7” تحديا ورهانا حقيقيا.
ومن هنا يغدو التجديد الأسلوبي (إخراجيا) والتطوير الحكائي (سرديا) في تناول هذه القصة مسألة حاسمة لأي عمل جديد، يعيد طرح أحداثها وحبكتها، وقد نجح صناع “الشقة 7” في ذلك من عدة أوجه.
وكان أبرزها إضفاء العمق النفسي إلى العرض، من خلال توظيف الرقص لإبراز تحولات الشخصية وصراعاتها الداخلية، والتعبير مجازا عن حالات الرعب والاغتراب التي كانت تعيشها “تيري”، وقد عكست ذلك الممثلة “جوليا غارنر” طوال الفيلم بأداء استثنائي.
دلالات الرقص.. ضابط الإيقاع في جوقة العنف والعزلة
أصبح الرقص ضابط الإيقاع في جوقة العنف والاضطراب والعزلة والخوف، التي كانت تحاصر بطلتنا في ذلك المبنى، فالرقص هو “كل شيء” لديها، والشيء الوحيد الذي مكنها من السيطرة على نفسها بعد وفاة والدتها بحادث أليم أمام عينيها في الطفولة، وأيضا الشيء الوحيد الذي سيخلصها مما هي فيه الآن في شبابها.
وإلى جانب تعميق الشخصية وإبراز خصائصها النفسية والجسمانية وحالات الخوف والاغتراب التي باتت تعاني منها “تيري”، بعد أن أصبحت حبلى بجنين من “نسل الشيطان”، فقد أسهمت الرقصات في تطوير السرد والحبكة الدرامية، وتسويغ الانتقالات التكرارية بين الواقعي والخيالي.
كما أسهمت في صياغة شبكة الفيلم الدلالية، من خلال التصاميم الابتكارية لحركات تلك الرقصات، فكانت كل رقصة إسهاما دلاليا، يمكن التعويل عليه في الوقوف على المدلولات، التي لا يفتأ الفيلم يلمح إليها.
سهرة المنتج الجار.. ليلة خمرية تنتهي بأحداث غريبة
تقبل “تيري” عرض العجوزين في سكن شقتهم الفاخرة، لا سيما أنها في المبنى الذي يقطنه المؤلف والمنتج “آلان روتشاند”، وقد وجدت في ذلك فرصة ذهبية، للتقدم بخطوة حقيقية في مسارها المهني في نيويورك.
يرتب العجوزان لقاء “تيري” مع “روتشاند” في منزله، ويخوضان حوارات عدة حول شغفها بالرقص وطفولتها، والمسرحية القادمة التي يود إنتاجها في مسرح “برودواي”، وفي خضم كل ذلك تبدأ “تيري” تفقد السيطرة تحت تأثير الخمر التي سقاها “روتشاند” بداية اللقاء.
تهيمن الضبابية على رؤيتنا، وتتفنن المخرجة في التقاط المشاهد من الزوايا المائلة القريبة جدا من وجه “تيري” المتعرق، لتولد شحنات الخوف، وهي تسير في ممرات المنزل العتيق، محاولةً الوصول إلى الباب الخارجي، بعد أن فقدت سيطرتها بالكامل.
يلتقطها “روتشاند”، ويخوضان رقصة استعراضية خيالية تنتهي بها ممددة وموثقة اليدين بسرير في الطابق السفلي من المبنى، يطوف حولها الراقصون بملابسهم السوداء، كمن يؤدي طقسا تعبديا، ثم يفسحون المجال لكائن غريب ذي قرنين شيطانييْن، فيزحف فوق جسدها للاعتداء عليها.
حبلى بابن الشيطان.. كابوس يفسد فرحة التعافي
في صباح الغد، تستيقظ في فراش “روتشاند”، وعلى جسدها علامات اعتداء، ثم يقول لها إنها ستنال دورا أساسيا بمسرحيته القادمة في “برودواي”، فتبتهج وتبدأ تحضير نفسها للالتحاق بالتدريبات.
تشفى “تيري” من إصابة الكاحل بين ليلة وضحاها، بعد أن تقدم لها صديقة العجوز “ميني” معجونا مصنوعا من أعشاب الروزماري، وتدب فيها قوة عظيمة خلال التدريبات، ثم لا يزال الشيطان يظهر لها في أحلامها وخيالاتها، وتصيبها جملة من الأحداث الخارقة للطبيعة.
وفي أحداث متطابقة مع أحداث فيلم “طفل الروزماري”، تكتشف “تيري” أنها حبلى بابن الشيطان، وأنها ضحية لمجموعة من عبدة الشيطان استوطنوا مبنى “برامفورد”، وتفشل محاولاتها المتكررة للتخلص من الطفل، ثم تحاصر في المبنى لتواجه مصيرها المحتوم.
صناعة الرعب النابع من أعماق النفس البشرية
لا تفارقنا في فيلم “الشقة 7” قصة فيلم “طفل الروزماري”، بل إن كل ما يجري هو إعادة اكتشاف لتلك القصة بطريقة مغايرة، تمنح الأحداث إيقاع الحياة اليومية الاعتيادية، بألوانها الدافئة وصباحاتها المشرقة، وشققها السكنية، وأمكنتها الواقعية، التي لا توحي بالرعب بقدر ما توحي بالألفة والحميمية.
فالرعب هنا ليس رعبا ماديا متمثلا بالعنف والدماء والليل الحالك والإضاءة المعتمة، ولا رعبا مختلقا بالمؤثرات البصرية والموسيقية، بل رعب نفسي وشخصي يحاكي مخاوف الإنسان العميقة، ويعبر عن توتراته النفسية في مواجهة الاغتراب الذاتي، وانعدام السيطرة، والشعور بعدم الأمان المرافق له منذ ولادته.
ينتمي فيلمنا هذا إلى تيار سينمائي، يؤمن بالرعب وسيلة لمخاطبة النفس البشرية، ويتخذ الصراعات الداخلية لشخصياته موضوعا للعرض، بوصفها بؤرة التوتر الوجودي للإنسان المعاصر، في ظل انعدام اليقين الذي يعيشه، وسط الحداثة والحروب والأزمات والكوارث.
وُلد هذا التيار في الستينيات، بتأثير من المخرج البريطاني الأمريكي الشهير “ألفريد هيتشكوك”، وقد أراد أن تعيد الاعتبار لأفلام الرعب، لا بوصفها مواد للفرجة اللاهية والتسلية المجانية، بل أعمالا للتأمل والتأثير، واختبار مشاعر إنسانية بكر، بتسليط الضوء على تفاعل النفس البشرية مع العزلة والألم والتناقض الداخلي.
تيار الرعب النفسي.. علامة فارقة في تاريخ السينما
ظهر “رعب الشخصية” أو “الرعب النفسي” وتطور مع “هيتشكوك”، وتحديدا في فيلم “سايكو” (Psycho) الذي عُرض عام 1960، وقد أثر في كثير من أفلام رعب الستينيات؛ منها فيلم “تروما” (Trauma) للمخرج “روبرت مالكوم يونغ” (1962)، وفيلم “مانياك” (Maniac) للمخرج “مايكل كاريراس” (1963)، وفيلم “السادي” (The sadist) للمخرج “جيمس لانديس” (1963).
ويعد فيلم “طفل الروزماري” للمخرج “رومان بولانسكي” من أشهر أعمال هذه الموجة، لما مثله من تحدّ صارخ لتقاليد الرعب، والخصائص الشكلية المميزة له، مستبدلا في فيلمه العتمة بالنور، والأماكن المهجورة بالمدن المزدحمة، والألوان الداكنة بنقيضها الفاتحة، والشخصيات ذات الخصائص الخارقة بالبشر العاديين، وجملة من التغييرات التي ما تزال علامة فارقة في تاريخ النوع.
أما حكاية “تيري جيونوفريو”، فهي اختزال مكثف للصراع الأزلي بين قوى الخير (التعاليم السماوية والأخلاق الإنسانية) وقوى الشر (تعاليم الشيطان)، فالخير بحسب هذه الحكاية ليس بالضرورة نقيضا للشر، بل قد يحبل الخير بالشر وينطوي عليه، مثلما حبلت “تيري” من نسل الشيطان.
ولذلك، فعلى الإنسان أن يقاوم الشر الذي ينبع من داخله، قبل أن يواجه الشرور الخارجية المحيطة به في كل زمان ومكان.
تقترح المخرجة “ناتالي جيمس” نهاية مختلفة عن نهاية فيلم “رومان”، حين تختار “تيري” في مشهدها الأخير أن تنتصر للخير على طريقتها، وأن ترقص رقصتها الأخيرة في مجمع عبدة الشيطان، قبل أن تقفز من الشرفة، ثم يغلق شريط الفيلم على صرخة ألم، معلقة على وجه “ميني” الشريرة.