“غزة التي تطل على البحر”.. وثيقة سينمائية لحياة دمرتها إسرائيل

ثمة تصوّر ديني وأدبي، يتناقله المهتمون بتأصيل الحكايات الفلسطينية المتنوعة، يقول إن الزيتون الموجود في القدس كان مذاقه حلوا، لكنه اكتسب مرارته في الليلة التي بكى فيها المسيح وقت وحدته.

فقد امتصت أشجار الزيتون أوجاعه، وأكسبته تلك المرارة إلى الأبد، فصار الزيتون في معادلة عكسية صنعها هذا البكاء، من الحلاوة إلى المرارة القاسية.

وعلى ما لتلك القصة من بعد أسطوري، فإنها تصلح مجازيا للتعبير عن التغير الجذري، الذي ستعيشه القضية الفلسطينية لاحقا، أو ربما تعبيرا عن الوضع الذي يعيشه أهلها، الذين يهدفون السلام وينشرونه، في حين تلاحقهم آلة القتل بكل مكان. تماما كما حدث في فيلم “غزة التي تطل على البحر”.

مراقب الشاطئ على بحر غزة، يفضل النظر إلى البحر على مخاطبة الناس

ففي مقابل عدد غير قليل من الأفلام الفلسطينية التي عرضت في الدورة المنصرمة من مهرجان القاهرة السينمائي، جاء الوثائقي الطويل “غزة التي تطل على البحر” للمخرج محمود نبيل أحمد، ليقدّم خطابا مغايرا تماما بشكل ما.

احتفى المهرجان هذا العام بالمقاومة في كل زاوية وفاعلية، وقدّم عددا كبيرا من الأفلام التي تتحدث عن القضية الفلسطينية، قبل عدوان السابع من أكتوبر المستمر حتى الآن وبعده، سواء كانت أعمال طويلة أو قصيرة، روائية أو وثائقية.

هذا الحماس تجاه الأفلام الفلسطينية وصل إلى ذروته ربما. يقول مبرمج الأفلام العربية للمهرجان محمد نبيل، إنه فيلم الافتتاح الفلسطيني “أحلام عابرة” كان داخل المسابقة، وذلك شيء مختلف عن المعتاد للمهرجان، فقد كان يجعل فيلم الافتتاح خارج المسابقة.

يوميات غزة قبل حرب الإبادة

عرضت أغلب الأفلام المأساة التي تعيشها غزة وفلسطين، وكلها نتيجة الإجرام الصهيوني، وجاءت في سياق قصص متنوعة، لكن فيلم “غزة التي تطل على البحر” اختار نقل الحياة الطبيعية في غزة قبيل الحرب، حيث الحياة العادية التي كان يعيشها الناس، قبل أن تأتيهم الإبادة الجماعية في كل مكان، حتى في المخيمات والمستشفيات وغيرها.

المخرج الفلسطيني محمود نبيل

يدور الفيلم حول 4 رجال يعيشون في قلب القطاع، يسيرون جميعا في مسارات متباينة، بحثا عن تعريفاتهم الذاتية للوجود، وتتداخل مصائرهم وسط تعقيدات الحياة والحب والبقاء.

يقدم الفيلم حياتهم في أمان تام، فينزع صورة الدمار من الشاشة، ويعيد وضع الحياة في غزة ما قبيل الحرب، ليسرق خيالات أحداث كانت مستمرة حتى أوقفتها إسرائيل.

“الاستثنائي في العمل أنه وثق هدوء ما قبل العاصفة”

بدا الفيلم سينماتوغرافيا صامتة عن حياة الناس الطبيعية هناك، من المشهد الأول الذي يركّز على طفل يتجهّز للذهاب إلى مدرسته، بمصاحبة كلمات المعلِّقة الصوتية التي تقول: هذا الفيلم يحكي عن غزة.. متخافش، ركز مع الشاشة واتخيل حالك هناك.

فهي تنقل صورة لم تعد تقريبا في الأذهان، بعدما تراكمت صورة الدمار القادمة من هناك، التي لم يعد الإعلام يستطيع توثيقها كلها حتى.

أحد أبطال الفيلم، يدرّب الأطفال في غزة على عزف العود

يبدو هذا الطرح البصري اللافت للأنظار واقعيا، وقد عكس واقعا حقيقيا، لكنه لم يعد معاشا على الإطلاق اليوم، وربما كانت تلك النقطة منطلق التأمل في المادة نفسها، التي يقدّمها الفيلم على مستويات شتى، لا سيما إذا رأيناها وثيقة خرجت من تلك اللحظة الصعبة.

يقول المخرج محمد أحمد في حوار مع الجزيرة الوثائقية: في ذلك الوقت لم نوثق الموت، بل وثقنا الحياة اليومية البسيطة، التي يعيشها الإنسان الغزي، وقد لا يعرف عنها العالم شيئا، وإنما يرى الحلقة الأخيرة من حياتنا، التي تتلخص في قتلنا.

ثم يقول: بعد عام من تصوير هذا العمل، قتل الاحتلال الحياة البسيطة التي كنا نعيشها، لأن هذا العالم استكثر علينا تلك الحياة. وكان الاستثنائي في هذا العمل أنه وثق هدوء ما قبل العاصفة، هدوء 17 عاما من الحصار والقصف والقتل المتواصل، ومع ذلك فقد خلق المجتمع الغزي جميع أنواع الحياة التي يستطيع الإنسان تصورها، وخلق جمالا داخل ذلك المحيط الضيق.

“صورة النصر هي غزة خالية من السكان”

ما الذي يبدو مهما في فيلم مثل “غزة التي تطل على البحر”؟

ربما إعادة تخيُّل وضع ينبغي أن يعود مرة أخرى. فلو كانت الدعايات التي تحدث عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بأن “صورة النصر هي غزة خالية من السكان”، فلربما تبدو تلك المشاهد في الفيلم وثيقة حربية خطابية، تقول إن صورة النصر الحقيقية في حياة سكان البلد الحقيقيين.

لم يستطع المخرج الوصول إلى موطنه غزة، طوال زمن الدراسة للماجستير، التي استمرت 6 سنوات متواصلة في تونس، لكن حين أتيحت له الفرصة، بدأ بإطلاق ورشات سينمائية لمحبي صناعة الأفلام، وكان ذلك نواة فيلم “غزة التي تطل على البحر”، الذي يكشف أمنيات سكان غزة بالحرية.

رجل مسنّ قضى حياته كلها في قلب غزة يجلس متأملا في منزله

يضيّق الفيلم قصته على غزة، فتظهر مدينة معزولة عن كل شيء حولها، قادرة على ابتلاع الجميع بسحرها.

يشرح المخرج وجهة نظره، قائلا: إن الخطاب في هذا الفيلم يتماشى مع الأعمال الفلسطينية، التي تدعم سرديتنا في مجابهة سردية المحتل، فمنها ما يظهر الصمود، ومنها ما يظهر الحب، ومنها ما يظهر المقاومة، ومنها ما يظهر الحياة العادية، وفي تلك الزاوية أرى أن هذا العمل سيضيء مصباحا صغيرا على نوع من أنواع الحياة، التي يعيشها الفلسطيني في يومه، وهو أنه ليس ميتا على الدوام، بل أحيانا يعيش.

“جميع الأماكن التي صورناها قد دُمرت”

في كل مساحة من الحوار، نحاول معرفة السبب الفني، الذي جعل المخرج يختار عدم توثيق الدمار، حتى على سبيل تسجيله في نهاية الفيلم، ويحكي أنه لو أراد إعادة التوثيق، فسيكون ذلك عائقا فنيا أمامه نوعا ما.

يقول: لن نرى سوى الدمار، لأن جميع الأماكن التي صورناها قد دُمرت، وجميع من شاركوا في توثيق هذا العمل قد دمرت منازلهم، ونزحوا من بناية تلو أخرى، وبعضهم قد استُشهدوا. لذلك إن أردنا إعادة التوثيق، فسنرى الغبار والركام الذي بقي من ذكرياتنا.

يضع الفيلم خطابه من خلال 4 أبطال مختلفين تماما في العمر والصفات؛ فعجوز متقاعد خفيف الظل مع زوجته، وحارس شاطئ على البحر، وصاحب إسطبل خيل، ومدرّب موسيقي تبدو أصوله غير فلسطينية، لكنه يقيم هناك.

إنهم فضل سرور، وعبد العزيز جاد الحق، وعبد العزيز صبيح، وحمدي الغرة، 4 رجال يعيشون بحرية تامة، وتجاهل تام للدمار والحرب.

 متنفس البحر.. بطل يكسر أسوار سجن غزة

لا يتحرك الفيلم كثيرا على مستوى الأحداث أو الحبكة، بل يبدو بلا حبكة، فنراه يتابع أو يتأمل حياة أناس يمارسون حياة طبيعية، وسط أخطار ستتضاعف بعد أيام من التصوير. تبدو تلك القصة بذاتها محفّزة للمخرج، كي توثّق من قريب.

ويبدو البحر هو البطل الذي تتحرك حوله الشخصيات كلها، فهو الجامع الأكبر لهم؛ من الرجل الذي يعمل حارسا له ويراه يوميا، إلى الرجل المسنّ الذي تتقاطع حكاياته مع البحر.

ربما بنفس القدر من الأهمية، يبدو البحر لكل أهل غزة مرتكز الحوار والتنفّس، ويوسّع وجوده مساحة غزة ذاتها، التي يسجنها احتلال لا يترك أهلها يتحركون، فيفتح البحر مساحة للتخييل والتفكير في مدى متجاوز للواقع الأسير، الذي يحتاج للتحرر دائما.

حميمية تعطيها الحرب معاني كبرى

كل المشاهد التي تراها في الفيلم تبدو عادية، إلى أن تعيد تخيل وجودها في مدينة تعيش حربا دائمة، وتعيش الآن في إبادة شاملة منذ أكثر من عام، فتحولت من عادية إلى أحداث أشبه بمعجزة.

فكيف تستمر ضحكات هؤلاء وحياتهم، في حين أن الموت اليومي يتربص بهم. توثّق المشاهد الحياة بعيدا عن صورة الموت المستمر.

مدرب خيول في غزة يجلس في الإسطبل الخاص به

يعرض الفيلم مشاهد حميمية تعطيها الحرب معاني أوسع وأكثر تأملا، منها حضور أحد الأفراح، وتفكير أحد الآباء بشراء هاتف جديد لابنه، ورجل يتخيل الحب أمام البحر.

لكن التساؤل الكبير الذي يطرحه الفيلم هو: ما الذي يجعل بعض الناس في غزة يتحدثون عن حياة لم تعد موجودة؟

“لو عاد بي الزمن لوثقت منزلي وشارعي وحارتي 100 مرة”

في ختام حديثه يقول المخرج محمود نبيل أحمد: من وجهة نظري، فإن المسار الفني الفلسطيني في المستقبل يجب أن يتسم بالوضوح تجاه هذا العالم، الذي ينظر لنا بعين الاحتقار والعنصرية، وألا نضع مساحيق تجميل على أعمالنا الفنية لتتناسق مع معاييرهم الكاذبة، بل نروي سرديتنا بالطريقة التي نراها، والتي تعبر عن حياتنا التي نعيشها، وإن لم يكترثوا، فما الفرق ففي كلتا الحالتين؟ إنهم يشاركون في قتلنا ويتفرجون أيضا.

ثم تحدث عن رغبته بتوثيق الأماكن قائلا: لو كنتُ أعلم ما يخبئه المستقبل لنا، لصورت كل زاوية في قطاع غزة. ولصورت مدينتي التي أنا منها، وتسمى الزهراء، وهي مجاورة لمحور نتساريم العسكري، ولكنها دُمرت بالكامل. وكانت أول بناية تدمر فيها هي البناية التي تقطنها أسرتي، لذلك فلو عاد بي الزمن، لوثقت منزلي وشارعي وحارتي 100 مرة، ولكن الآن لا نستطيع، هي فقط ذكرى مكومة على الأرض من ركام وإسمنت.

وثيقة تؤرخ للحياة التي سُرقت أمام أعيننا

في النهاية، لا يبدو الفيلم -على أي صعيد- متجاهلا تماما للدمار، بل يقف خطابا ضديا للحياة التي سُرقت أمام أعين الجميع، بل إن صنّاعه أنفسهم قد مات بعضهم أثناء عرض الفيلم في القاهرة، وهم في داخل الإبادة التي واجهت كل فلسطيني في الداخل.

بيوت غزة التي كانت نابضة بالحياة، أصبحت أثرا بعد عين

وربما يكون ذلك هو ما يجعل الكتابة عن الفيلم تبدو شديدة الأهمية، فهي تعطي صورة أوسع، ووثيقة تاريخية لاحقة للظروف التي خرج فيها ذلك الفيلم، بقصته البسيطة الآمنة، في لحظة لم تراع أي شيء لأي فلسطيني.

فيلم “غزة التي تطل على البحر” مع هدوئه وبساطته الشديدة التي جعلته بمنزلة الحلم، هو إدانة غير مباشرة للدمار المستمر الذي يحدث للبلد، وسط صمت عالمي، ويشرح بخفّة فائقة ما كانت عليه حياة الناس، قبل أن يسحقها الصهيوني في كل سياقاتها.


إعلان