“نحن في الداخل”.. مخرجة تقربت لأبيها بالشعر فأصبحت نسخة منه
تفضّل بعض السرديات وضع حدود لها، تكون حدودا جوّانية، ثم تبدأ استكشاف ذلك العالم الداخلي، الذي يبدو من الخارج محددا ومؤطّرا، بيد أنه منفتح وشاسع من الداخل. وعلى حسب موقعك من السرديّة، سترى حجم ذلك العالم، سواء كان بحجم كف اليد أو باتساع السماء.
فبمجرد النظر من الخارج سنجد أن فيلم “نحن بالداخل” للمخرجة فرح قاسم، يدور حول مجموعة من الأفراد داخل صندوق أسمنتي، محاصرين بظروف سياسية وواقع اجتماعي مزرٍ، ولكن إذا اندمجت معهم في الداخل -وهذا ما تريده المخرجة- فستصبح أحد هؤلاء الأفراد، وينطوي عالمهم في الداخل على طبقات ومستويات مغرقة في الخصوصية.
يتجلى ذلك في أقارب وعادات وتفاصيل شخصية، وهل يوجد شيء أكثر شخصية من الشعر الذي تتخذه المخرجة مدخلا لسرديتها السينمائية؟
التمكن من ناصية الشعر.. جسر العبور إلى عالم الأب
تحاول المخرجة أن تخلق بالشعر لحظات توازي في قوتها خصوصية التجربة الشعرية، أو عمومية الظروف الاجتماعية، فهي -بحكم أنها شخصية أساسية في الفيلم- تشتبك مع الشِّعر هنا بوصفه أداة لا غاية، فتحاول أن تمسك بناصيته لتتقرب من شخصية والدها، الذي يحيط نفسه بالشعر من كل جانب.
فالشعر في سرديتها هو كل ما في الداخل، هو اللغة التي تمكنها من فهم والدها ودائرته من الأصدقاء والتجارب، من دون أن تشعر أنها دخيلة عليهم، فإذا امتلكت ناصية اللغة والشعر، فستصبح فردا حقيقيا ذا وجود في الداخل، لا مجرد كيان غير مرئي.
وبما أنها اختفت سنوات خارج البلاد، ثم عادت لتسكن مع والدها في أعوامه الأخيرة، وخلال تجربتنا في المشاهدة، فسنختبر تلك الرحلة من محاولة التلصص على العالم إلى التورط فيه، ثم التحول إلى واحدة من امتداداته.
سردية هزلية الظاهر جادة الباطن
تبدو سردية الفيلم هزلية في كثير من المواضع، فصنعة الشِّعر نفسها على ما فيها من عمق واستعارة ومجاز، فإن محاكاتها لا تخلو من السذاجة، لا سيما في مواجهة شعراء متمرسين، وكل محاولة لاقتحام هذا النوع من الفن يضرب المشهد بنوع من السخرية.
بيد أن محاولاتها المضحكة في سطحها، الجادة في باطنها، تسير بمحاذاة استكشاف تدريجي لعائلتها وأبيها على وجه الخصوص، وبناء عليه تحاول فرح الابنة التمسّك بعالمها الداخلي الصغير ومجاراته، في حين تؤطر فرح المخرجة العالم الخارجي من نافذة شباكها، ولا تخرج عن إطار المنزل إلا بضع دقائق حين يمرض والدها.
إلى جانب بعض اللقطات الأرشيفية من الانتخابات والمظاهرات، ربما لرصد الفجوة بين رؤية جيلين للأحداث الراهنة، فجوة زمنية وجيلية تتبدى بوضوح في رأي كل طرف.
لذا فالوجود المدني داخل إطار الفيلم -سواء على مستوى المكان أو الظرف الاجتماعي والسياسي- كان وجودا هامشيا، وحضورا شبحيا يحوم من بعيد خلال بعض النظرات التي تشبه التلصص، فالشباك يمنحنا شعورا بالانفصال عما يحدث في الخارج، أو بمعنى أصح يصبح الخارجي شيئا أقل أهميّة.
فهناك دائما مسافة بين ما هو داخلي وما هو خارجي، مساحة تمنحنا صورا خاطفة، ولكن تمنعنا من الاشتباك، مما يمنحنا ذلك الشعور بالخصوصية لدى ما هو داخلي، هذا الشعور هو ما يرفع قيمة الفيلم، فالمخرجة تعرف أولوياتها جيدا، وتسمح للمشاهد بالتشتت داخل سردية أكثر عمومية تشمل لبنان.
ذاكرة الشعر.. جزء من هوية طرابلس الثقافية
ترتكز القصة على ذاكرة الوالد مع الشعر، وهي ذاكرة ذات امتدادات تولّد صورا ومواقف، وتطور شخصيات منها شخصية المخرجة.
ويتعاطى الفيلم مع إرث الأب، بصفته شاعرا يعد جزءا من هوية طرابلس الثقافية، وتعيد فرح قاسم بناء حياته من خلال فنونه، لأنها تجسد الاختراق الذي يفرض نفسه، لتقدم الشعر استعارةً للمقاومة، ووترا حساسا يسمو فوق الإشكاليات والظروف، ويعانق السماء، إنه خيط حر يتمسك به الجميع ليسحبهم أكثر نحو الداخل.
ولكن المفارقة هنا هي أن الداخل منفذ مجازي نحو الخارج، لكن برؤى مختلفة، هذا التعرض الذي يبدو غير رومانسي على قسوته، لأنه ينتصر للشعر والفن، يتخذ المادة الفيلمية دراسة في الطبيعة الهشة والمرنة للهوية في أوقات الاضطرابات.
سردية يمكن إسقاطها على الواقع الاجتماعي
تستخدم المخرجة نهجا استبطانيا في طريقتها للحكي، ربما يخلف ذلك المنهج السردي بعض الالتباس والغموض المحبب، ولكنه في الوقت نفسه قد يحدّ إمكانية وصوله إلى شريحة جماهيرية أوسع.
إن اعتمادها على التجريد الشعري أو الشعر عموما، واتخاذها إياه لغة ومدخلا للسردية قد يشكل تحدّيا للمشاهدين، لا سيما أولئك المنفصلين عن السياق الثقافي والتاريخي للمدينة، بيد أنها تظل سردية متفردة على المستوى الذاتي، سردية شخصية يمكن إسقاطها على الواقع الاجتماعي، والانخراط داخلها فرديا.
فالسياق ذاته -أي علاقتها بوالدها- هو موضوع عالمي يسهل التماهي معه، لا سيما مع الاكتشاف التدريجي الذي يتحرك ببطء في فيلم يقترب من 3 ساعات، مما يمنحنا فرصة الانتباه إلى التفاصيل.
ومع أن هذا النوع الوثائقي مفتقر للتفاصيل على المستوى الجمالي، فإن كاميرا فرح قاسم كانت أكثر توهجا، فالتقطت لقطات ثابتة، لكنها ترفع قيمة الفيلم الجمالية، لقطات سينمائية لا تخضع للفقر البصري الذي تواجهه معظم الأفلام الوثائقية، لا سيما المصورة داخل أماكن مغلقة، مثل شقة أو منزل صغير.
ما بعد الأب.. شخصية تمكن الشعر من ناصيتها
يمكن تقسيم الفيلم إلى قسمين، ليسا متساويين، ولكن يفصل بينهما الموت، فاختفاء الأب يخلّف فراغا هائلا، يلاحظ بسهولة على الشاشة، لذا ففعل الوجود نفسه -المتناول في معظم أجزاء الفيلم- يصبح منقوصا، فالوجود الماثل في التفاصيل الصغيرة قد اختفى، وتحوّل إلى خيط من الذكريات.
ولكن فرح لا تغلق كاميراتها على فعل الموت بوصفه حدثا مؤثّرا، بل ترصد تطورها الذاتي، وتتجه أكثر نحو شخصيتها، ونراقب -نحن المشاهدين- انفصالها في اللحظة الحالية عن أبيها، مستقلة تماما على مستوى الوجود المادي، بيد أن الحضور الشاعري للأب يظل يحوم حولها، حتى تصبح نسخة من أبيها، بشكل آلي لا إرادي.
ثم تصبح بإرادة مستقلة امتدادا للأب، فنراها تسمع الشعر من أحد أقاربها كما كان يفعل والدها، فما زالت تتمسك بالشعر بوصفه نمطا ذا قدرة على الحماية والرعاية لذاكرة مشتركة تجمعها بأبيها، فبعد موت والدها أخذت المصطلحات والمفاهيم شكلا ملتبسا ومربكا.
نلاحظ ذلك في أحد المشاهد قرب النهاية، عندما تتجادل مع خادمتها السريلانكية حول المدة التي قضتها الخادمة في لبنان، ففرح تتذكر مدة معينة، ربما هي الأقرب للصواب، لكن العجوز تصر على مدة أخرى.
ذلك الجدال ذو الطابع الزمني، هو جدال سائل في أساسه، فحسابات العجوز للزمن مختلفة عن حسابات فرح، حساسية الزمن لدى العجوز تأتي من شعورها الداخلي بالزمن، ليس بالتقويم والتواريخ، فالذاكرة لديها عاطفية لا إحصائية.
ربما تمنحنا تلك اللقطة مفتاحا آخر لرؤية فيلم في سياق الذاكرة، أو كما قال الأب إن النسيان جزء من الذاكرة.
صبغة الفيلم التأملية.. سرد بطيء يغرق في التفاصيل والفراغ
جعلت الصبغة التأمليّة مدة الفيلم أطول، فلا تعتمد المخرجة على مشاهد ذات ديناميكية، بل تدفع السردية ببطء شديد، وتمنحنا الفرصة للانخراط الكامل داخل التفاصيل.
ولكن على الجانب الآخر خسرت المخرجة حيوية مشاهد كثيرة لأجل ذلك النمط السردي، فمدة الفيلم الطويلة ولّدت شعورا بالرتابة، فحتى الأشياء الكبرى لا تترك أثرا قويا، لا سيما مع النمط البصري المعتمد على الكاميرا الثابتة.
فقد كانت الكاميرا في بعض الأحيان تلتقط أثاثا فارغا، أو أجزاء من أجساد الأبطال، ترصد الفراغ وتتصل بالموجودات، بأقل قدر من الحركة، سواء على مستوى الإطار، أو داخليا لدى الممثلين داخل أثاث المشهد.
بيد أن الحوار والوصلات الشعرية، كانت تلف تلك الصور الثابتة بتلاوات مثيرة للاهتمام، إلى جانب موت الوالد في الثلث الأخير من الفيلم؛ مما دفع السردية دفعا كافيا للاستغراق في فصل جديد، يركّز أكثر على الابنة.
تحقق المخرجة في النهاية فيلما هادئا ومتمهلا شديد الخصوصية، يمزج بين السخرية والصدق، ويؤطّر الحياة في حلة أدبية منقولة ببراعة على الشاشة، بنمط بصري يتوافق مع الانسيابية الحكائية.