“متل قصص الحب”.. 3 حكايات تختزل يوميات الحرب والحب في لبنان
“المقهى معتم مرّة أخرى، وهي (البطلة) في زاويتها تنظر إلى زبائن المقهى الموزّعين أزواجا، ذكرا وأنثى يتهامسان، يتضاحكان، ولكن كأن لا عيون ترى ولا آذان تسمع. المقاعد ذات حواجز عالية، فكل واحد منها عالم مستقل.. أعشاش للحب”.
هكذا يبدأ المقطع الثاني والعشرون من رواية “طواحين بيروت”، التي كتبها توفيق يوسف عوّاد.
وهكذا تظهر تخييلات وجود حرب أهلية لبنانية، في إطار من المحبة الصافية، يتفاعل من خلالها الأبطال في داخل العمل الأدبي.
تبدو الرواية هنا أداة تتخيل مسار الحرب الأهلية قبل حدوثها، لكن في إطار جديد على العالم، فتبدو تلك الحرب نتيجة محبة ضلت طريقها بين الجميع.
ومنذ تلك اللحظة أُنتج عدد من القصص الأدبية والسينمائية، تحكي المأساة اللبنانية العربية، بوصفها قصة حب كانت نهايتها حزينة لدى الجميع. وربما هكذا أيضا يأتي الفيلم اللبناني “متل قصص الحب”، الذي عرضه مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الأحدث (14 -22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024).
فيلم “متل قصص الحب” أخرجته ميريام حاج، وهو أول وثائقي طويل لها، وكان قد عُرض ضمن برنامج بانوراما في الدورة الـ74 من مهرجان برلين السينمائي الدولي، وهو من إنتاج ميريام ساسين، وتوزيع شركة “ماد سيلوشن”.
3 شخصيات تعكس الأجيال اللبنانية
يوثّق فيلم “متل قصص الحب” 4 سنوات حرجة من تاريخ لبنان المعاصر، بداية من 2018 حتى 2022، مقسّمة إلى 2018-2020، ثم 2020-2022 وأخيرا حتى بدايات 2024. ويبدو هذا التقسيم ظاهريا فقط على الشاشة، لكن المخرجة تطرحه بتماهٍ يكاد يسيطر فيه العجز على الأغلبية في كل الأوقات.
يظهر الدمار اللبناني والعجز عن تجنّبه عبر 3 شخصيات رئيسية؛ ألا وهي:
- جمانة حداد، وهي إعلامية وناشطة سياسية لبنانية.
- بيرلا جو معلولي، وهي فنانة وناشطة شابة.
- جورج مفرج “أبو الليل”، وهو أحد المنخرطين في الحياة السياسية، وكان قد أطلق الرصاصة الأولى التي تسببت باندلاع الحرب الأهلية.
على مدار ساعتين تقريبا، تصحبنا المخرجة اللبنانية ميريام الحاج في يوميات بمنزلة رحلة مع 3 شخصيات، يُعبّرون عن 3 أجيال لبنانية مختلفة.
“كنتُ أريد إنجاز فيلم عن الحاضر”
تقول المخرجة ميريام الحاج في حوار مع الجزيرة الوثائقية: هذه الشخصيات التي تخيلت أنها تمثّل لبنان في تلك السنوات، هي من اختارتني لأجسدها على الشاشة، مثلما اخترتها بشكل أو بآخر.
فقد كان جورج صديقا لأحد أصدقائي، وكنت أريد أن أنجز عنه فيلما مستقلا، لكنني تراجعت، لأنني كنت أريد إنجاز فيلم عن الحاضر أيضا لا الماضي.
وأما جمانة، فقد تعرفت عليها في الانتخابات اللبنانية، ثم تعرفت على بيرلا قبل أسبوعين فقط من قرار تصويري الفيلم، وسريعا ما أصبحت جمانة شخصية رئيسية في الفيلم.
لذلك فإنني إجمالا لم أنبّش في الفيلم عن شخصيات خاصة، بل شخصيات عادية، ليبدو أن لدى كل لبنان ذات المأساة الكبرى.
“كل شيء يحدث في لبنان يفاجئني”
كيف يمكن أن نستمر في الحلم والبلاد تنهار؟ هكذا تتحرك المخرجة من خلال قصص هؤلاء الثلاثة، لمحاولة طرح السؤال من زوايا شتى، والسعي كل مرة للإجابة عليه من خلال كل التجارب الشخصية.
تترك المخرجة حكايات الصنّاع تطرح ذاتها، لكنها تتدخل أحيانا للتعليق بأسئلة ذاتية عن الحياة والوضع العام، فيخرج الفيلم كأغلب الخطابات السينمائية الحديثة، التي تدمج بين الخاص والعام، بين العوار الشخصي والأزمة اللبنانية العامة.
تعرض ميريام خلال حوارها مساحة الصعوبات التي واجهتها أثناء تصوير هذا الفيلم، فتقول: كان كل شيء يحدث في لبنان يفاجئني؛ فلم أكن أعرف أو أتوقع حدوث حرب مرة أخرى، أو حدوث انفجار في مرفأ بيروت، ويمثل صدمة كبيرة عما سبقه.
كما أني لم أكن أدرك أن الليرة اللبنانية سيصل تدهورها إلى ذلك المستوى. لذلك ثمة درس قاس استفدته أثناء العمل على هذا الفيلم، وهو مساحات التأقلم مع الواقع، مهما كان ذلك، أو مهما تطلب الأمر.
إصلاح يأباه الساسة ويتجاهله المجتمع
على مستوى آخر تنفعل ميريام نسبيا أثناء حديثها لتوضح أننا لم ننتهِ بعد من الحديث عن الحرب اللبنانية، حتى بعد إنجاز الأفلام الوثائقية والروائية التي تناولت حروب لبنان في سياقات شتى، على مدار عشرات السنوات الماضية، لا سيما الحرب الأهلية التي لم ينتصر فيها أحد، فالجميع قد خسِر فيها بالداخل والخارج.
وهي تبرر تلك المواصلة المستمرة في الحديث عن الحرب، بأن السياسيين لم يتقدموا ليدركوا ذلك العمل الإصلاحي والتنويري، كما أن المجتمع يتجاهل الإصلاح.
فقد أصبح على الفنان أن يتحمّل تلك المسؤولية، لأننا في كل الحالات علينا تقديم ذلك الوعي، لكي يفهم الجميع ما حدث، ويعلم كيف وصل لبنان إلى ذلك الدمار؟
حلم انتهاء الحرب المدمرة.. رسالة الفيلم
يبدو حديث ميريام إجمالا بمنزلة تنظير إصلاحي مجتمعي، يحاول أن ينتشل لبنان من حفرة سحيقة. تماما مثل اللغة البصرية التي اختار أن يعبّر بها في مناطق متفرقة من الفيلم.
ويبدو أنها قد استخدمت كل إمكاناتها الكتابة والإخراجية، للتأكيد على إنتاج شعور مكثّف؛ ألا وهو الحلم بانتهاء تلك الحرب المدمرة، التي تركت آثارها على الكبير والصغير، ولم يتجاوزها الجميع بعد.
لدينا في الفيلم 3 نماذج؛ أحدهم اتخذ مسارا عاما سياسيا، والثاني دعم الضغط الفني والحراك الاجتماعي، وآخرهم جلس يوميا يتمنّى التغيير بعد أن عجز عن تحقيقه سنوات. ويبدو الجميع -على اختلافهم- عند النقطة ذاتها.
“لبنان إلنا كلنا”
يُفتتح المشهد الأول من الفيلم على مشهد الجبل من الأعلى، مع حوار ذاتي وتساؤل طويل يبدو أنه مستمر في الحالة اللبنانية سواء على مستوى الشخصي للأبطال أو العام للبلد عموما.
تقول المخرجة بصوت يبدو تساؤلا مباشرا للسماء: “ليش مش زابطة معي عاطفيا طيب؟” هذا حديث ذاتي حالم وحميمي عن محاولات متكررة لعمل علاقة عاطفية، تجد البطلة أنها قد تنقذها من المأساة العامة.
في أحد مشاهد الفيلم التالية، يتدرب شبان على هتافات، يحلم كل منهم بقولها في الشارع، أحدهم يقول “عندي حلم أنسى إني درزي مسيحي مسلم، عندي حلم أبقى لبناني”.
ثم يخرجون جميعا في تظاهرة بهتافات قوية تقول: “لبنان إلنا كلنا.. لبنان إلنا كلنا”. ويظهر المشهد هنا كأنه حلم يعبر الشارع اللبناني، ويرى الشباب أنه قد ينقذهم من الشتات الذاتي.
وهنا لدينا محاولتان منفصلتان متصلتان، يبدو الأمر فيهما أشبه بأُمنية طفولة، تحاول أن تستند إلى أي شيء شخصي أو عام، يمكن أن ينقذ اللبناني من العطب الذي أفسد الأشياء. لكن في المرتين يبدو الطلب -على مشروعيته- حميميا للغاية.
“متل قصص الحب”
هكذا يبدو وجيها سردُ هذا العجز أو الفراغ الحياتي في إطار بصري، يبدو “متل قصص الحب” كما قررت المخرجة أن تسميه، فالحرب الداخلية والخارجية التي لا تتوقف إلا لماما، تبدو قصص حب حزينة يتورط فيها الإنسان من دون رغبته، ولا يتمكن من إنجاحها.
السؤال الفلسفي الأكثر مركزية الذي يطرحه كل ذلك هو: هل يمكن أن تؤدي “رمنسة” الحرب إلى إنتاج خطاب يتقبل وجودها الدائم أو يتماهى معه؟ سواء بشكل مباشر أو عبر سيطرة الفساد الذي لا يفارق البلد، ويجعلها في حرب باردة؟
تفاجئ الجميع بطلة الفيلم جمانة حداد، وهي إعلامية وناشطة سياسية، وهي على خبرتها تسبق الجميع بفرحة نكتشف زيفها لاحقا، بعد فوزها في الانتخابات البلدية الداخلية، قبل أن تزوّر النتائج لصالح موالين السلطة الحالية، التي يتهمها كثيرٌ من اللبنانيون بالفساد.
أبو الليل.. شخصية جذابة تختزل قصة لبنان
ظهرت التجارب متفرّقة، مع أن المخرجة أعطت الجميع فرصا متساوية في الفيلم، لطرح معاناة السنوات من خلال التجربة الذاتية، التي تقاطعت مع الشأن العام.
فالصحفية جمانة هادئة مع صخب معركتها السياسية، أما بيرلا الفنانة فلا تحمل شخصيتها أبعادا سوى الغضب المستمر نحو كل شيء حولها، أو هكذا حصرتها المخرجة تماما في ذلك الإطار.
وأما أبو الليل فهو البطل الأكثر جاذبية وقوة في الفيلم، بل يبدو أحيانا كأنه يمثل فيلما مستقلا لا يمل، مع أن أغلب مشاهده مكررة في مكان واحد لدى حلاقه، فهو يذهب كثيرا إليه لتجميل وجهه وشعره، بشكل شديد الدقة لدرجة ملفتة للأنظار.
كان أبو الليل قد قُطعت إحدى قدميه أثناء الحرب، ومع قلة حركته، فإنه يصر دائما على ضبط خصلات شعره، وإزالة الشعرات الزائدة في وجهة بصرامة، وهو يبدو -بما حمّلته الحرب- مثالا نموذجيا للبنان كلها.
أبطال تطحنهم الحرب وينقذهم الحب
لا تبدو القطعات المونتاجية في العمل موفقة تماما، بداية من استعراض تاريخ السنوات استعراضا تقويميا قاطعا، ثم التداخل الذي تحاول طرحه بين ذكريات الحرب القديمة -لا سيما الحرب الأهلية- وبين اللحظة الفارغة الحالية المليئة بالفساد. وربما يساعد على ذلك ندرة وجود الموسيقي المصاحبة للعمل.
ويبدو فيلم “متل قصص الحب” في زاوية من التحليل شبيها برواية “طواحين بيروت”، فكلاهما يحمل قصصا مختلفة لأبطال تطحنهم الحرب، وينقذهم حبهم رغم كل شيء.
تجلت النهاية التي يطرحها الفيلم، من خلال مسار الإجابة بصريا وخطابيا على الأسئلة التي طرحها في البداية، وقد جاءت قوية ومؤثرة وثورية للدرجة القصوى، وتحقق الوعد الحقيقي الذي يمثله الفيلم: أن شعور الإنسان اللبناني العادي تجاه الدولة يبدو غالبا “متل قصص الحب”.