“ذاكرتي مليئة بالأشباح”.. حكايات حمص الغارقة في تناقضات الموت والحياة

“من جديد.. ها أنا ذا في حمص، مدينتي القديمة، عائدا لئلا ينال النسيان مني، لأصنع لنفسي ذاكرة مما بقي؛ فقد ملأت الأشباحُ ذاكرتي!.”

بهذه العبارة التمهيدية، يستبق المخرج السوري أنس زواهري الأحداث في فيلمه الوثائقي البكر “ذاكرتي مليئة بالأشباح”، فقد عاد -وهو في الثلاثين- إلى حمص بعد سنوات الحرب، بنيّة أن يصنع لنفسه ذاكرة للمدينة، فوجد نفسه فجأة أمام ما يشبه مدينة الأشباح، التي سرعان ما تسلّلت من البيوت المدمّرة، والشوارع المهجورة، والقصص المؤلمة، لتستوطن ذاكرته.

يسلط الفيلم الضوء على حياة أهالي مدينة حمص السورية، الذين عادوا إليها بعد حرب طاحنة وحصار مُطبق، أدى إلى خروج فصائل المعارضة السورية منها عام 2014، ومن أريافها عام 2018، وسيطرة نظام بشار الأسد المخلوع عليها، وقد عاد إليها أهلها بعد سنوات قضوها نازحين محرومين من استقرارهم، ومن مدينتهم وعيشهم المطمئن في حناياها.

فكيف تبدو حمص بعد سنوات الحرب العجاف، وكيف تبدو تلك العودة، وما حكايات أهاليها، وما أحلام شبابها؟

يمتد عرض “ذاكرتي مليئة بالأشباح” ساعة و15 دقيقة، وهو من إنتاج مستقل، وقد حصد جائزة مهرجان الجونة لأفضل فيلم وثائقي عربي.

مأساة فتاة تواجه الحياة وحيدة

ينفتح الفيلم على لقطة واسعة وثابتة في حي حمصي، تبدو فيه مبانٍ مدمّرة بسبب المعارك، ومبان أخرى قائمة من دون حيطانها، فتبدو كأنها نوافذ كبرى مفتوحة على بعضها، حركة السيارات والمارة خفيفة جدا، وإلى يمين الصورة حاوية قمامة ممتلئة بالقاذورات والأوساخ المتراكمة.

وفي الخلفية نستمع لشهادة مسجّلة، لفتاة عشرينية من أهل المدينة، توفّي والدها قبل سنتين، أثناء اشتباك بين فصائل المعارضة وبعض “الشبيحة” الموالين للنظام في أحد أحياء حمص.

الفتاة صاحبة القصة على ملصق فيلم “ذاكرتي مليئة بالأشباح”

تقول الفتاة بنسق مونولوجي: أحب هذه المدينة وشوارعها وذكرياتي فيها، والأشخاص الذين يعيشون ضمنها. ولا أعلم إن كانت هذه العلاقة بيني وبينها علاقة سامّة، بين شخص يحبُّ مكانا لا يسعه إلا أن يتسبب له بالأذى، وأن يكون في حالة صراع دائمة لا يُعرف لها نهاية. كثيرون هم من يحبون هذه المدينة؛ لكنهم غير قادرين على البقاء فيها.

بهذا المونولوج تختزل الفتاة شهادات شبان وشابات، استعرض الفيلم حكاياتهم وعلاقاتهم المعقدة بحمص، بعد أن عادوا إليها ووجدوها خالية إلا من الموت والدمار وانعدام الأمان والفقر المستشري بين أهاليها.

بيع دماء الأب بحفنة من المال.. سياط الفقر

يغوص الفيلم في حكاية هذه الفتاة، ذات الاسم المجهول والملامح الجامدة، ليكشف عن مأساة مقتل والدها والأثر النفسي العميق لذلك على حياتها الخاصة، وعن نوبات الهلع التي تنتابها، وعن مكنون الغضب الذي عصف بها.

فقد اضطرت لمقايضة حقّ والدها في المحكمة، بمبلغ مالي قدّمه أهالي الجُناة لها، بعد أن وقع أبناؤهم في قبضة السلطات، فلم يكن أمامها خيار وقد نهش الفقر عائلتها بعد مقتل والدها.

النظام السوري يدمر مدينة حمص ويتركها خرابا

نستمع إلى صوت الفتاة الراجف، في حين يستعرض الفيلم لقطات من أحياء حمص المدمّرة، ومن أزقتها وشوارعها المعتمة ليلا، ومن معالمها الأثرية التي نالت منها الحرب فشوّهت تاريخها، ومن وجوه أهاليها المتعبة والشاحبة، كأن حمص قد أصبحت مدينة أشباح.

“أريد الهجرة بعيدا”.. أثقال جريمة قتلت العائلة حزنا

ينتقل الفيلم ليرصد حكاية مأساوية أخرى، بطلها شاب عشريني من حمص يبقى مجهول الاسم، وكان قد قُتل أخوه في أحد الأفرع الأمنية؛ ثم توفّي والداه في غضون عدة سنوات، فبقي وحيدا يغالب حزنا وغضبا التهما روحه وأفقداه توازنه.

تبدأ القصة يوم احتُجز أخوه على أحد الحواجز العسكرية في المدينة بسبب تشابه أسماء، وبدلا من الإفراج عنه فقد زُجّ بأحد أقبية الأفرع الأمنية، وبعد عامين من اختفائه استُدعي والده لمستشفى تشرين العسكري بالعاصمة، لتسلّم جثة ابنه المختفي، الذي كان قد فارق الحياة، قبل عام كامل من تاريخ تسليم جثمانه، وكُتب في خانة سبب الوفاة: “أزمة قلبية”.

حاجز عسكري لنظام الأسد في مدينة حمص

أرخى ذلك الحادث بظلاله على حياة الشاب وعائلته المكلومة، فتوفّي والده محزونا على فقيده بعد سنتين، ثم توفّيت والدته في إثر ذلك، وانقلبت حياته رأسا على عقب، من دفء العائلة وألفة العيش في كنفها وحنان الأخوة، إلى اليُتم القاسي، فأصبح كيانه ورقة توت في وجه أعاصير حمص التي لا تنتهي.

يقول الشاب في نهاية شهادته: أريد الهجرة بعيدا عن حمص، وأريد العودة إليها ولكن بإرادتي، أما الآن فلا أريد العيش هنا.

“خسرتُ صحتي ومالي والفتاة التي أحب ورفيق السلاح”

من حكاية يتيم حمص، يرتحل بنا الفيلم إلى حكاية إلياس، وكان مجندا في جيش النظام، تحول بين عشية وضحاها من النوم الهانئ على أصوات أمواج بيروت، إلى الأرق الدائم في حضرة أزيز الرصاص وضرب المدفعيات، في جبهة من جبهات الحرب السورية.

لم تكن نية إلياس الالتحاق بجيش النظام، لكن أحد الحواجز العسكرية اقتاده إلى التجنيد الإجباري عام 2015، أثناء زيارته سوريا عائدا من لبنان، التي كان يقيم فيها.

إلياس يعمل كمزارع في بستان زيتون

امتد تجنيد إلياس 6 سنوات، خسر فيها كل ما يملك “صحتي ومالي والفتاة التي أحب ورفيق السلاح” كما جاء في شهادته، وعاد إلى حمص منكسرا يبحث عن حياة بديلة، ليعمل مزارعا في بستان زيتون هو آخر ما بقي له.

تتلو هذه الشهادة شهادات عدة لشباب وشابات من حمص، فقدوا كل أمل بمستقبلهم في مسقط رأسهم، فقد غاب الأمان وانعدمت فرص العمل، ولفظ الدمار آخر مظهر من مظاهر الحياة فيه، تاركا شبابه فريسة للحزن والغضب وقلة الحيلة وضيق ذات اليد، في انتظار مرور الوقت في مدينة “لا تقدم لك شيئا، ولا تنتظر منك أن تقدم لها أي شيء” وفق وصف إحدى الشاهدات.

قهر وسجائر وطفولة ضائعة.. إرث الحرب

يدفعنا فيلم “ذاكرتي مليئة بالأشباح” لتأمّل وجوه عشرات من أبناء حمص وسكانها المتعبين، فيضيء على شرودهم الصامت، في أفق لم يلبث أن ضاق في الحرب، حتى عاد وضاق بعدها أكثر فأكثر، فتراهم وقد جمعت فيما بينهم سجائرهم المُشتعلة أبدا، كأنها لازمة لحياتهم المُرة.

دخان دائم ينبعث من الأفواه معلنا عن زفير مُتعَب، وقهر جاثم على الصدور، بعد سنوات من العودة إلى مكان أصبح مختلفا عن المكان الذي غادروه تحت سطوة العنف والتهجير، فشاخت ملامحه، وتغيّرت هويته بسبب الدمار الذي طال كل شبر منه، وأصبح غير قابل للعيش الآدمي، بسبب النسيان والتهميش بعد عودة سيطرة النظام عليه.

مشهد يحكي حال أهل حمص

تسلل القهر والعنف والتهميش إلى تفاعل الأطفال في ألعابهم، فتحولت غايتها من التعارف والمرح البريء إلى العراك والاشتباك بالأيدي كما تظهر مشاهد الفيلم، “ألعاب” هي محاكاة لما خبره الأطفال أو سمعوا به من أحداث الحرب، التي فتكت بمدينتهم وتركت آثارها على كل حائط فيها.

حرب أدّت إلى انهيار البنى الاجتماعية والقيمية والتربوية في المجتمع، ودفعت طفلين يبلغ أكبرهما 16 عاما إلى قتل والدة إحدى الشاهدات بالفيلم، فتروي الشاهدة أنهما دخلا المنزل ليلا بغرض السرقة، وعندما قاومتهما والدتها قتلاها وسرقا ما بالمنزل ثم فرّا هاربين.

هجرة الشباب.. جرح نازف في أفئدة الأمهات الوحيدات

إلى جانب الطفولة الضائعة في حارات وأزقة حمص المعذّبة، هناك شباب هاجروا من مدينتهم بلا عودة، مخلفين وراءهم أمهات وزوجات، يبحثن كل يوم عن لمّ شمل يعيد إلى حياتهن ألفتها المسروقة، فلا يجدن من العزاء إلا مكالمات الفيديو مع أولادهن وأزواجهن من خلف الشاشات.

أهالي حمص يحلمون بحياة أفضل

فها هي أم ورد، الأم الرؤوم التي اضطر ابناها (ورد وفادي) للجوء إلى أوروبا مع بداية الحرب، أسوة بمئات الآلاف من شباب سوريا الذين لجؤوا إلى شتى بقاع الأرض، أملا بحياة أكثر استقرارا.

تقول أم ورد إنها لم تكن تتخيّل أن يخلو منزلها من ابنيها، اللذين كانا شريان الحياة في هذه الشقة الخالية اليوم، إلا من بعض أغراضهما، والذكريات العائلية التي تسرّها بقدر ما توجعها.

وتحاول أم ورد أن تبقي على علاقتها مع ابنيها اللذين يكبران “خلف الشاشة” يوما بعد يوم، من غير أن تحضنهما أو تلمسهما، فتجد نفسها وحيدة في حمص، تعيش الحياة على أمل اللقاء معهما مجددا.

“ذاكرتي مليئة بالأشباح”.. عدسة ترصد صراع الأضداد في حمص

يركز المخرج الشاب أنس زواهري منذ المشهد الأول على نقل صورة صادقة وموضوعية، عن مدينته حمص وأهلها الذين يصارعون من أجل البقاء، وسط الدمار والعتمة والتهميش، وربما العقاب أيضا.

لذا نجده يميل لتوليف أسلوب توثيقي يمزج بين العمق والبساطة التعبيرية، معتمدا على اللقطات الطويلة والواسعة والثابتة، التي تسمح للمشاهد برصد محايد للحركة والسكون ضمن المكان، وتدفعه لتأمل ما وراء ذلك الإيقاع المتناوب بينهما، من دلالات ومعانٍ لا تكفي الصورة وحدها للكشف عنها.

المخرج السوري أنس زواهري

فالإيقاع في فيلم “ذاكرتي مليئة بالأشباح” وحده الكفيل بالكشف عن حدّة الصراع المحتدم، بين المسار المتباطئ لعودة الأهالي إلى الحياة في حمص، والرغبة الدفينة بالاستسلام لدمار خيّم شبحه على كامل المدينة.

وعليه تنشغل كاميرا المخرج برصد انهيار الأبنية والشقق والمساكن والمحال والمعالم الأثرية في كل أنحاء حمص وريفها، من دون أن تغفل التقاط ما بقي من مظاهر الحياة في سوق الحرف التقليدية، وسوق الخضار، وسوق تصليح السيارات، وبعض المساكن التي نجت من القصف.

وفي ذلك التناوب المدروس بين مظاهر الموت والغياب ومظاهر الحياة وظلالها، تبدو حمص بطلا صامتا يقول كل شيء، من دون أن ينبس ببنت شفة.


إعلان