“باتريس لومومبا”.. المناضل الذي أسقطته أمريكا في بحيرة التماسيح
في يونيو/ حزيران 2022، هبطت طائرة في مدينة كينشاسا عاصمة جمهورية الكونغو، تحتوي على نعش فيه سن مطلية بالذهب، وهي آخر ما بقي من جسد “باتريس لومومبا”، أول رئيس وزراء في الكونغو، بعد التحرر من الاحتلال البلجيكي عام 1960.
من السهل توقع ما حدث لسياسي ومناضل أفريقي نشط خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كي تنال دولته حقوقها السياسية، التي تتيح لها الحرية في إدارة مواردها.
السن التي بقيت من “لومومبا”، لم تكن مجرد تذكار، بقدر ما تمثل في مفتتح شهادة تاريخية تستعيد صورة، يمثل السعي القومي للحرية جزءا بسيطا منها، بينما قطاع الجنوب العالمي وعلاقته بالولايات المتحدة، وحربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي عقب الحرب العالمية الثانية، يمكنهما أن يعطيانا صورة أكثر وضوحا وتماسكا لهذه المرحلة.
يبدأ الفيلم الروائي الطويل ” لومومبا” (Lumumba) للمخرج “راؤول بيك” بجثة “باتريس” الذي اغتيل في الكونغو، وطُلب من الجنود البلجيكيين تقطيع جثته، لإذابتها بحمض الكبريتيك، أو حرقها في براميل زيت، كي لا يبقى منه أي أثر.
في فيلم “موسيقى تصويرية لانقلاب” (Soundtrack to a Coup D’etat) ينظر المخرج البلجيكي “جون غريمونبريز” إلى سيرة “باتريس لومومبا” السياسية، عبر مساحة أوسع منه ومن موطنه، إذ يصعب اختزال الفيلم على مستوى الموضوع، وكذلك النوع.
ويمكن القول إن الفيلم موسيقي نظرا لاعتماده أساسا -خلال نحو ساعتين ونصف- على موسيقى الجاز التي تتحرك في خلفية الأحداث، كذلك يمكن أن يكون فيلما سياسيا، عن الحرب الباردة والصراع الأمريكي الروسي، وعن صعود قوميات الجنوب العالمي في الخمسينيات.
كما يمكن أن يكون تاريخيا على مستوى كشف التحولات التي تخلقها الكيانات الكبرى في دول العمق الأفريقي، وكيفية تفكك بنيتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتحولها إلى جماعات عرقية متصارعة.
إذن، فالفيلم متحرك على مستوى وحدانية الموضوع، لكنه في نفس الوقت قادر على التوجه إلى صياغة حكائية لها مركز، وهو “باتريس لومومبا”، منذ السعي إلى تحرير الكونغو وحتى مقتله.
وأن الحكاية هي بالأساس سياسية، وفي وقت تعاظمت فيه الحرب الباردة، وشهد عالم الجنوب انقلابات وحركات ثورية وقومية، فإن هذه الحيثيات المحيطة تتحول في الفيلم إلى مواد حكائية، حتى يمكن خلق مساحة من الفهم العابر للتسطيح التاريخي، القائم على المعرفة الإحصائية بالتواريخ وظواهر الأحداث.
عادة ما ترتكز أفلام هذا النوع، الذي ينبش في خبايا سياسية وتدخلات عسكرية وخبرية، على مواد أتيحت للجمهور حديثا من معلومات سرية ووثائق، لكن “غريمونبريز” يرتكز أكثر على قدرة القراءة الشخصية في استنطاق دواخل التاريخ من خلال سردية المعتدي، عبر لقاءات تليفزيونية رسمية واجتماعات أممية، خطابات وعناوين صحف، وأغنيات وعروض أدائية، حينما تتضافر جميعا يتكشف أن المهارة الفنية والوعي التاريخي يكمن في كيفية قراءتها معا والمهارة السينمائية في موقعتها على امتداد زمن الفيلم.
“باتريس لومومبا”.. السقوط في بحيرة التماسيح
تثبت تسجيلات “باتريس لومومبا” البصرية في فيلم “موسيقى تصويرية” أنه كان ذا حضور هائل وحيوية خطابية ظاهرة. ففي يونيو/ حزيران 1960، ووسط الاحتفالات التي أقيمت لاستقلال الكونغو، وأمام حضور كبار الشخصيات بما فيها الملك البلجيكي، عبّر “باتريس لومومبا” عن اعتزازه بقيادة مواطنيه إلى التحرير، بوصفه “كفاحا عادلا ونبيلا لا غنى عنه، لوضع حد للعبودية المهيمنة التي فرضت على الكونغو بالقوة”.
بدأت مسيرة “لومومبا” السياسية من عمله الحزبي، حين شكل هو وزملاؤه “الحركة الوطنية الكونغولية” المتنوعة عرقيا (كانت الكونغو في هذا الوقت تضم نحو 250 مجموعة عرقية)، وكانت مغايرة عن المناخ الحزبي القائم على أحادية العرق.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 1958، حضر “لومومبا” مؤتمر الشعب الأفريقي، الذي نظمه القوميون التحرريون في مدينة أكرا عاصمة غانا، وجمع ممثلين رئاسيين من دول أفريقية، منها مصر والمغرب وتونس وليبيا.
وبسبب خطابه يوم الاستقلال، وتكوين علاقات سياسية مثمرة مع زعماء لديهم مشاريع قومية واعدة، مثل جمال عبد الناصر، أصبح “لومومبا” مستهدفا لدى الولايات المتحدة، بقرار شخصي من الرئيس الأمريكي “دوايت أيزنهاور”، وتسلمت المخابرات الأمريكية مسؤولية إبعاده عن رئاسة وزراء الكونغو، ثم اغتياله.
التعاطف مع الشيوعية.. هواجس أمريكا في الدول الناشئة
جاء تخوف الولايات المتحدة تجاه “لومومبا” تحت شعار “الخوف من تعاطفه مع الشيوعية”، حينما ترأس الوزارة المستقلة الأولى في الكونغو، وطلب تدخل الأمم المتحدة، ثم الاتحاد السوفياتي، لتهدئة الاحتدام الداخلي الذي دعمته الولايات المتحدة، لمنع الاتحاد السوفياتي من الوصول إلى الموارد المعدنية الثرية في الكونغو.
بدعم ضئيل وتخوف من عدم وضوح تطرفه السياسي تجاه الولايات المتحدة، تكاتف الاتحاد السوفياتي مع خطاب “لومومبا” بمكر سياسي، يظهر فقط في خطاب الرئيس “خروتشوف” في الاجتماعات الأممية، لذلك انتهى “لومومبا” بالوقوع تحت الإقامة الجبرية، وبعد فشل هروبه اعتُقل وقُتل وأخفي جسده من الوجود.
يصوغ فيلم “لومومبا” -الذي أخرجه “راؤول بيك”- حيثيات هذه المسيرة عبر قراءة سياسية مباشرة، من خلال تناول الظروف الداخلية لتآمر الولايات المتحدة لقتل “لومومبا”، وكيف جُنّد “جوزيف موبوتو” لتسليم رئيس الوزراء، ليحصل على مكافأة استمرار في الحكم نحو 30 عاما.
يحاول الفيلم أن يرى الحدث السياسي -في المقام الأول- دليلا لإظهار صورة تاريخية للمجتمع الأفريقي، الذي نراه منذ عدة عقود، ما بين التفكك والمجاعات والنزاع العرقي وسيادة الأنظمة القمعية.
ويضع “راؤول بيك” أساسا بصريا لهذا التفكك، عبر الاقتراب من تجربة قصيرة كانت مفعمة بالحرية، والتنظيم السياسي، وكذلك الأخطاء الداخلية، لكن الأساس في كل هذا هو التأثير الممتد الذي خلقته نزاعات الأنظمة الكبرى، وسحبت معها بلادا كاملة فقدت مجتمعاتها كل قدراتها المستقبلية.
“أفريقيا على شكل بندقية، والكونغو هي الزناد”
يسلك فيلم “موسيقى تصويرية” مسارا مغايرا، فلا يقترب من محاولة الكونغو للاستقلال الكامل فقط، بل يمد مساحة القراءة التاريخية إلى فضاء إنهاء الاستعمار في أفريقيا، ويعرض الاضطرابات السياسية والتاريخية التي شهدها العالم، وتعاظم حلم دول الجنوب العالمي في الاستقلال، ثم خفوته وتراجعه تماما.
لذلك تظهر لقطات لحوادث سياسية، منها تأميم قناة السويس في مصر 1956، والصعود الحزبي في الدول العربية، مثل حزب البعث في سوريا والعراق، إضافة إلى المتن الأساسي المنوط باستقلال الكونغو، بوصفها نقاطا مرجعية لوضع حراك الاستقلال في سياق عالمي.
تتمثل أصالة المعالجة التاريخية عبر الوسيط السينمائي في الفيلم، من خلال تضمين الحقائق التاريخية بشكل رصين، من دون وضعها في إطار خالص الجدية، فهناك مسحة من السخرية مطعّمة بمواد موسيقية، تؤطر الحوادث السياسية في جانب ساخر، من خلال كشف المفارقة بين ظاهرها السياسي ودواخلها المفتعلة.
وتتكاتف هذه العوامل السردية، لتكون أدوات بصرية ومواد تاريخية، نتجه معها إلى متن الفيلم الأساسي، حيث التحول السياسي في الكونغو يبدو معززا بفهم ذهنية السلطة الأمريكية، ولأي مدى يتمثل خوفها من اقتراح وجود اتحاد أفريقي، لديه رغبة سياسية في حضور عالمي مستقل.
عندما تتموضع مسألة الكونغو في إطارها العام، جوارا إلى الحراكات المماثلة في الجنوب العالمي، تظهر في الفيلم قدرة فاعلة على الاستفادة من المواد البصرية والصحفية العامة، والنبش في كواليسها لتعكس الشعور بالخطورة من قبل القوى الاستعمارية، وكيف يتضمن خطابها الديمقراطي بطانة إجرامية، تقوم على تعزيز قدرتها لتفعيل حالة من الإباحة الكاملة. يصوغ الفيلم هذه الحالة، في جملة “فرانز فانون”: أفريقيا على شكل بندقية، والكونغو هي الزناد.
من جهة أخرى، يلتزم الفيلم خلال صياغته العالمية التي تنطلق منها المعالجة التاريخية، بعكس النشاط القمعي الداخلي الذي مارسته الولايات المتحدة، بما فيه من عمليات إعدام خارج نطاق القانون، والفصل العنصري الذي كان يحدث في جنوب أفريقيا، وتجاه الأمريكيين السود في شتى الولايات الأمريكية.
هل يعلو صوت الموسيقى على صوت الاغتيال؟
في أواخر الخمسينيات، عندما انتقلت موسيقى الجاز الأمريكية إلى مساحة القبول المجتمعي، وأصبحت قوة ناعمة فاعلة، دُعي مجموعة من الموسيقيين، منهم “لويس أرمسترونغ” و”ديزي فيليبس” و”ماكس روتش” و”نينا سيمون”، ليكونوا سفراء ناعمين لأمريكا، وأرسلوا عبر العالم للعزف للجماهير الفقيرة.
يبدأ “غرمونبيريز” فيلمه من عام 1960، عندما سافر أرمسترونغ إلى الكونغو، ظاهريا للعزف للفقراء الذين حصلوا منذ شهور قليلة على استقلالهم، لكن حقيقة الأمر أن “آرمسترونغ” وُضع طعما، لصرف الانتباه عن الانقلاب المزعوم، الذي تدبره الولايات المتحدة لتعطيل حركة “باتريس لومومبا”.
ويكشف الفيلم العلاقة بين الموسيقى والسياسة الأمريكية في أفريقيا، من خلال توظيفها وسيلة حربية خلال الحرب الباردة.
ما بقي لنا من هذه الرحلات هو عدة صور عابرة للعازفين، حولهم دهشة الأطفال، لكن الفيلم يكشف أن زيارة “آرمسترونغ” كان أساسها الذهاب إلى كاتانغا، مركز التمرد الذي دعمته الولايات المتحدة.
ولا يضع الفيلم مجموعة العازفين بوصفهم عملاء، بل يكشف حقيقة تورطهم ضمن خطط المخابرات الأمريكية، لتتزامن الرحلات الغنائية مع تدبيرات الاغتيال المختلفة، لذلك تأتي الموسيقى جزءا أساسيا من الفيلم، بوصفها ممثلا ثقافيا داخل الذهن السياسي الأمريكي، ولأن الموسيقى ببساطة ونفاذ ذات قدرة فاعلة على جمع الناس معا.
أسلحة ناعمة فاعلة في لعبة المخابرات
يبدو الجمع بين مقتل زعيم في الكونغو، ومجموعة أغنيات تنتشر بكثافة شديدة من أمريكا إلى العالم، مهمة يصعب تخليق تجانس حكائي عبرها، لكن “غريمونبيريز” عبر إدراك موقعه التاريخي، بوصفه مواطنا بلجيكيا ومخلصا لهذه الثقافة الرفيعة، يجعل الموسيقى أداة ربط تاريخية على مستوى، وعلى مستوى آخر يضعها خلفية سينمائية للحكي، تنطلق من المساهمة في كشف ما وراء الصورة السياسية المُنمّقة، وفي السخرية منها أيضا.
كذلك يلتزم الفيلم بشفافية مدى تورط عازفي الجاز ضمن تدبيرات المخابرات الأمريكية، ويعكس موقعهم بصفتهم أسلحة ناعمة ذات فاعلية، تحصل على “الحق الإنساني” حينما تبدو ترسا مناسبا في عملية اغتيال، أو تنظيم انقلاب مدعوم.
وهذا ما يجعل الدور الموسيقي في الفيلم يتخلل نسيجه البحثي، ويحول السرد غير الخطي والقائم على التشتت إلى مساحة من الارتجال المتدفق، الذي يجاور الحقائق ببعضها، ويجمعها مثل حل لغز.
يتأرجح الفيلم بين تواريخ كثيرة، لا ينتقل عبرها بالضرورة من خلال علاقة مباشرة، كذلك لا يهتم بصيغة الحكي عن الشخصيات والأحداث السياسية بوضع سير ذاتية لها كمقدمات، بل ينطلق من غلاف الأحداث الخارجي، عبر لفتة خبرية أو حوار تلفزيوني رسمي، ثم يدخل خلاله في حركة حرة تجاور الحوادث ببعضها لتخلق حالة من المشهدية، حيث ندرك الحقيقة التاريخية كأننا نقرأ صورة وليس موضوعا قائما على التتابع.
نظرة داخلية للتاريخ الرسمي
تعتمد المادة الحكائية في فيلم “موسيقى تصويرية” على عدة كتب، بجوار الدور الحكائي والتعبيري الذي تقدمه أغنيات الجاز. وهي:
- “قلب امرأة” للكاتبة الأمريكية “مايا أنجلو”.
- “ورليستر العظيم.. كيف تلاعب وكالة المخابرات الأمريكية بأمريكا” للكاتب “هيو ويلفورد”.
- “شركة الكونغو” للكاتب “كولي جان”.
وتمثل هذه الكتب الثلاثة دور الضبط السياقي للفيلم، وتؤطر مساحة الارتجال والتشظي ضمن حركة نظامية عامة، تخلق للحكاية بعدا ذاتيا يجاور البعدين السياسي والتاريخي، وتعمل على تعزيز وجهة القراءة النوعية التي قدمها الفيلم.
ذلك أن المخرج “غريمونبريز” لم يذكر أي ملمح تفصيلي للوضع المعاصر في الكونغو، بل ركز على قدرة الماضي في العبور إلى اللحظة الزمنية الراهنة، فحينما تتدخل قوة كبرى في الشأن الداخلي لدولة تخرج من استعمار إلى حرب أهلية، فإنها لا تفقد فقط قدرتها على الاحتفاظ بحقيقة راهنها، بل تفقد معه القدرة على الوجود الحر في المستقبل، وبذلك تتخلق حالة انفصالية مع الجماعة، ويصبح المجتمع غارقا في مشكلات آنية، وتفرض عليه أي حكاية تاريخية مستوردة.
وضمن سياق الفقر والحاجة إلى وسيط تاريخي محايد، يعتمد الفيلم على الثقة في قدرة الجمهور على فهم السرد المعقد، والمجازفة بمدة زمنية طويلة (نحو ساعتين ونصف) دون ملل.
وهنا يحضر دور المونتاج الاستثنائي، فقد قام الفيلم على قطعات سريعة وحادة، وانتقال متكرر من صخب أغنية إلى صمت مفاجئ، يحيل كثافة المادة المعلوماتية إلى حركة حيوية، يتجاور فيها الحكي عن بقع عدة من العالم، وتتخذ شكلا تجميعيا يحدد إيقاعه وفرة الأغنيات في الفيلم، التي لا تعمل فقط غطاء حيويا لتفعيل الحركة الزمنية، بل تتخذ دورا في ضبط الإيقاع الفيلمي وبلورة المشاهد والأخبار الفارقة في سياق الحكي.
أرشيف الإعلام الأمريكي.. صناعة الصورة الفيلمية
يتخذ الفيلم الصورة التلفزيونية الإجرائية وثيقة تاريخية وأرشيفا بديلا، لأنها الشاهد الحي الباقي، الذي يستطيع أن يساعد في الفهم والمسائلة الكاشفة للتاريخ.
وبطبيعة الحال، لا تملك “الكونغو” أرشيفا وطنيا، بل لا تملك حتى تاريخا صحافيا استطاع أن يغطي هذه المرحلة، لذلك يأتي الاعتماد على الصحافة والتلفزيون الأمريكي، بوصفهما وسائط “رسمية” لقراءة التاريخ، لكنها ليست متسقة مع حقيقة الحدث، ولذلك يمكن تفكيكها وإعادة تشكيلها، لتكون حكاية تتجه في الناحية المعاكسة لما تعبر عنه.
فقد جسدت المركزية الأوروبية شكلا قويا من الهيمنة على قراءة التاريخ حتى منتصف القرن العشرين، وتسلمت الولايات المتحدة دفة المركزية عندما تعاظم تدخلها السياسي في دول الجنوب العالمي، وصدّرت له ذاكرة بصرية قائمة على الاستهلاك الذي يمتد إلى سلوك الناس، ويحولهم إلى نماذج منفصلة عن سياق حياتها المحلي، في أوقات تحولاتها السياسية الكبرى.
يعمل الفيلم على فك هذا الارتباط المعرفي، بالتشكيك في سلامة الأخبار الرسمية، ثم إعادتها من مساحة الاستقطاع إلى التضمين في مجموع المظاهر والممارسات التي صاغت الحدث التاريخي.
يأخذ الفيلم ملمحا من “التاريخ القاعدة أو التاريخ من الأسفل”، الذي يتأسس على معالجة تطور البنى الاجتماعية وآليات تشكلها، من خلال تأثيرها على المهمشين والعاديين، لكنه لا يستند إلى وسيط آخر، بل يأخذ من التاريخ الرسمي وسيلة لاستنطاق الآخر غير الرسمي، بتوظيف مجموعة التواريخ الجزئية في سياق متقاطع، يدعو إلى التركيز على سياقات أصغر، تتكشف من خلالها حقائق كبيرة.
تقدير وانتصار لحقيقة التاريخ
يشغل فيلم “موسيقى تصويرية لانقلاب” مساحة فارغة في العلاقة بين السينما ودول العالم الثالث، التي تأطرت في سرديات عاطفية بالسينما الأمريكية، وحتى الأخرى المحلية لم تستطع أن تنفذ إلى قلب الحوادث بقدر ما استهلكت نتائجها.
لذلك فإن علاقتنا بالمحطات التاريخية عادة ما تصاغ من خلال التشبع بالهزيمة المفتقدة إلى الفهم. وهنا تتمثل أهمية المعالجة الفيلمية في جودة توظيف كل نغمة ومقطع واقتباس، لصالح تضفير معلوماتي متماسك وجريء.
وعبر الثقة في التكثيف بصفته مادة للحصر التاريخي، تأتي خلاصة المادة الفيلمية مدفوعة إلى التقدير بدلا من الشفقة، والانتصار لحقيقة التاريخ، بدلا من الاحتفاء المجاني بمعلومات مجتزأة منه.