“حرب أهلية”.. رحلة صحفية تكشف أهوال الصراع المسلح في أمريكا
كأنها نهاية العالم في فيلم من تلك الأفلام التي يصعب نسيانها، صور مرعبة للولايات المتحدة الأمريكية وهي في قبضة الفوضى والعدمية والجنون. ففي الفيلم الأمريكي “حرب أهلية” (Civil War) للمخرج البريطاني “أليكس غارلاند” (2024) فظائع كبيرة، لكن بقدر ما هي متخيّلة، فإنها تبدو غير بعيدة عن الواقعية، فالجنون يسود كل شيء، فهؤلاء الذين يشنون الحرب هم كالذين يريدون أن يشهدوا عليها.
إنه فيلم جريء، تخيل فيه المخرج إمكانية حدوث صراع عنيف يكتسح الولايات الأمريكية، واختار أن يكون حربا أهلية، لكن يمكن أن ينطبق على أي حرب، سواء كانت داخلية أم خارجية مع بلد آخر، وهو يجسدها بكلّ فظاعتها حين يجعلها تكتسح أحياء معروفة في واشنطن ومدن أمريكية أخرى، في مشاهد خيالية، لكنها تذكّر بما ينتشر في العالم المعاصر اليوم، بما يظهر يوميا على شاشات التلفزيون.
فريق التصوير.. رحلة إلى العاصمة لتحقيق السبق الصحفي
كأنها مشاهد من العراق أو سوريا من زمن قريب، وأوكرانيا وغزة اليوم، بل أيّ مكان أصابته وحشية الحروب وتحوّل إلى دمار، ويتخيل المخرج -وهو كاتب السيناريو أيضا- حربا، ويصورها بعيون صحفييْن يتابعانها، وهما المصوّرة “لي” (الممثلة كريستين دانست)، والمحرر “جويل” (الممثل فاغنر مورا)، وهما يعملان معا لتغطية حرب أهلية تجتاح ولايات أمريكية متعددة، ويتوقان إلى تحقيق سبق صحفي.
يتجسد هذا في قرارهما التوجه نحو مبنى الكابيتول في ولاية واشنطن، لإجراء مقابلة مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، قبل حدوث اللحظة الحاسمة، وهي ستكون إما بإسقاطه أو ربما نجاحه في السيطرة على الصراع.
هي مخاطرة كبرى سيخوضانها مع “سامي” (الممثل ستيفن ماكنلي هندرسون)، وهو صحفي عريق عجوز يريد مرافقتهما إلى نقطة محددة على الطريق، وترافقهم “جيسي” (الممثلة كايلي سبايني)، وهي مصورة شابة تفرض نفسها عليهم، فهي تحب التصوير وتحلم بمرافقة قدوتها المصورة الحربية الشهيرة “لي”.
جثث محترقة وسيارات محطّمة ومبانٍ مدمرة.. آثار الحرب
تجوب سيارة الفريق طرقا رئيسية في الولايات المتصارعة، وخلال رحلتهم تحصل مواقف تتجلى فيها كلّ الفظاعات، ما يمكن تخيله وما يفوق الخيال، فهناك كل ما ترسمه الحروب من مناظر مروعة، من جثث محترقة، وأشلاء مرمية، وسيارات محطّمة، ومبانٍ مدمرة، وأناس تائهين أو مجمّعين في مخيمات ينتظرون طعاما أو إنقاذا، إنهم جميعا ضحايا الحروب.
يُظهر الفيلم كلّ الشرور، بما تتركه الحرب من أثر نفسي ومادي على الإنسان ذاته، سواء أكان مقاتلا أم شاهدا عليها، سواء أكان الشر مستوطنا فيه أم طارئا عليه، ويصارع أهوالا وأخطارا تحيله إلى وحش، إما بمشاعره التي تموت أو بأفعاله التي تفرضها عليه غريزة البقاء، فإن لم يقتلْ فسيُقتل.
وأنى للإنسان حين يواجه مصيرا مفزعا أن يتحول، أو يصبح شيئا آخر، متوحشا أو ضعيفا بعد قوة. ففي مشهد لمدينة ما بدا كأنه يوم القيامة، بقي أحدهم وحيدا في مبنى يقابله جنديان مختبئان يطلقان نارا كثيفة، فكان يطلق النار على كل ما يتحرك، حتى على سيارة الصحفيين لشدة رعبه.
نظارة الدم الحمراء.. مشهد يلخص مآسي الحرب المتوحشة
في أحد أقوى مشاهد الفيلم، كان جندي مستعدا لرش ضحاياه المدنيين من غير تردد، ويفعل ذلك بكل هدوء وبرودة وعدم مبالاة، وتتبدى وحشيته في طريقة استجواب ضحاياه وهو يرتدي نظارة شمسية حمراء (لون الدم)، جاعلا بمظهره وأسلوبه كل من يقف أمامه -من الصحفيين الأربعة وزملائهم والمشاهدين كذلك- يرتعد رهبة، وهو يسألهم عن مدى انتمائهم للأمة الأمريكية، ثم يردي على الفور صحفيين ذوي أصول آسيوية.
كانت الطريقة التي صور بها المخرج هذا المشهد ذكية جدا، لأن الكاميرات لم تركز أبدا على وجوه الضحايا، ولم يستخدم اللقطات المقربة، كما يُتّبع عادة في مشاهد مشابهة. لقد فعل ذلك بطريقة غير تقليدية، كي لا يكسر ديناميكية المشهد وأثره على المشاهد، إنه مشهد فيه دلالة على أحد مسببات الحرب.
فالفيلم لا يهتم لذكر مباشر لمسببات الصراع أو عقائد من يحارب أو توجهاتهم، بل يترك للمتفرج تأويله الذاتي، وما يُدركه المتفرج أن هناك اتحادا يسمى “قوى الغرب” بين تكساس وكاليفورنيا، وشكوك أولية حول حرب مستحيلة الحدوث، لكنها تحدث حقا.
حرب أهلية.. خطر صراع الأعراق الذي عاشته الذاكرة
يوحي الفيلم بأن الحرب الأهلية الحديثة إن قامت، فلن تكون لها علاقة مع كل ما حدث من قبل، لأن الانهيارات اليوم هي في كل المجالات، وهناك خطر حقيقي آت من تفكك البلاد وعدم اندماج فئات معينة.
وهذا ما يُلاحَظ في عدة لقطات، فأعداد الملونين مثلا طاغية لدى أحد طرفي النزاع، وهم لا يرتدون الزي الرسمي للجيش وكأنهم متمردون من الشعب، وأما الجنود البيض والشقر فهم يسودون الطرف الآخر، وكأنه تلميح إلى انفجار سيحصل، مثل آخر حدث في الماضي ضد السود في أمريكا.
لكن اليوم لم يعد سود البشرة وحدهم، فهناك أعراق كثيرة، وهي تعيش جميعا على الهامش، لا تجد مكانا لنفسها، فهي تعيش ظروفا صعبة وفقرا قد يقودها يوما ما إلى الانفجار.
لحظات الوقود.. فرصة التقاط الأنفاس والتعريف بالأبطال
تتناوب المشاهد بين إيقاع المعارك السريع، وهو شديد الضجة بسبب استخدام الأسلحة الفارغة المعروفة بإحداثها ضجيجا كبيرا مؤثرا، وبين فترات الراحة القليلة للصحفيين قبل الوصول لهدفهم، وفي بعض المشاهد تُستخدم أحيانا موسيقى تترك أثرا مقلقا، كأنها تذكّر بأن لا راحة ولا هدوء في أوقات كتلك، وأن الآتي سيكون أعظم. لكنها فترات تتيح بعض الحوار والتعرف أكثر على شخصية الصحفيين الحربيين وخبرتهم الكبيرة وآرائهم، فيما يرون وما عليهم فعله.
فكل فرصة لأخذ الوقود يستغلها الفيلم، وهم هنا ليسوا لطرح الأسئلة، فتلك يقوم بها آخرون، بل للشهادة على ما يحدث، وأن ما يأخذونه من صور يدعو لأخذ العبر، وكأنهم يحذرون الدول والناس “لا تفعلوا هذا مرة أخرى”، كما تقول المصورة “لي” في الفيلم، ولكن هل من معتبر؟
ويمكن تصنيف الفيلم على أنه تكريم لمصوري الحروب وتحية لشجاعتهم، كما يقول المخرج، ويتبدى هذا من إطلاق السيناريو اسم مصورة حربية شهيرة على بطلته الرئيسية، وهي “لي ميلر”.
ومن الغريب ما حصل مع المصورة الشابة “لي” من مشاهد، فقد باتت تشعر بعجز أمام ما تراه من أهوال، فهي تقف مغلولة اليدين، فبعد البكاء والتأثر عند الفظائع الأولى، أصبحت تبدو كأن شيطانا قد ركبها، فلم تعد تثيرها مناظر القتل والأشلاء تلك، والأخطر أنه لم يعد يثيرها موت من كان قربها ومثالها. إنه انجراف الإنسان في ظروف تغتال إنسانيته.
مناطق السلام.. مجتمعات تهرب بنفسها عن فوضى الحرب
لا يُغفل فيلم “حرب أهلية” المناطق التي تبقى بمنأى عن حرب قريبة منها، وهي تعيش حياة “طبيعية” قدر ما تستطيع، إنه الإنسان الذي يريد أن يعيش يومه، محاولا الهرب من محيط مفزع، وكأنه بهروبه يبعد الخطر عنه.
ويقترب الفيلم في بعض الأحيان من الوثائقية حين يبين ببراعة فظاعة الاقتتال والرعب الناجم عنه في مشاهد قوية لا تنسى.
وقد استعان المخرج بمستشار عسكري في مشهد حصار الكابيتول واقتحامه، واستخدم 50 مقاتلا محترفا طلب منهم أن يفعلوا ما كانوا سيفعلون في عملهم السابق في الجيش الأمريكي، وهكذا كان، فقد وضعوا الحوار بأنفسهم وخلقوا الأجواء، فجاءت كالواقع تماما في هذا المشهد، سوى أن المكان في حروبهم السابقة الواقعية كان شيئا آخر، ولم يكن الكابيتول الأمريكي قطعا.