محمد زينات.. صانع تحفة “تحيا يا ديدو” الذي أهملته السينما الجزائرية
مرّت السينما الجزائرية بعدة مراحل فارقة في مسارها، وأنجبت خلال تلك المحطات مخرجين أفذاذا، تركوا بصمة لا تنسى، وبدلا من تكريمهم وتمجيدهم فقد رُموا في غياهب النسيان، وغُيبوا من التاريخ. وقد جاء فيلم “زينات، الجزائر والسعادة” لمخرجه محمد لطرش، لينفض الغبار عن واحد من هؤلاء.
يتتبع المخرج الجزائري محمد لطرش مسار فيلم جزائري، أسهم في صنع مجد السينما الجزائرية في عهدها الذهبي، وهو عمل مختلف صادم حداثي سابق لزمانه، من ناحية التجريب والتجديد، وهو فيلم “تحيا يا ديدو” الذي أخرجه محمد زينات (1971).
وقد تتبع الفيلم الوثائقي “زينات، الجزائر والسعادة” مسار هذا العمل، ملما بالبعد الجمالي والمشاكل النفسية والوجودية التي لاحقت مخرجه زينات وحاصرته وأرهقته، فكل الظروف كانت ضده حينئذ، لأنه كان الوحيد الذي آمن بمشروعه السينمائي الحداثي، ودافع عنه وانطلق فيه، من غير أن يخبر الجهة المنتجة بما يحاول صنعه وتقديمه.
ومع أنه قدّم ما قدّمه للسينما الجزائية، فقد استُبعد من المشهد، فتجرع المآسي والحزن بعدها في منفاه الاختياري، لهذا ترك الجزائر وهاجر نحو فرنسا، وهناك بدأ حياة جديدة كليا، لا مخرجا أو منتجا، بل ممثلا صاحب موهبة
كبيرة، عكسها في كثير من الأفلام الفرنسية، التي جعلته واجهةً لكل دور يعكس شخصية العربي.
ولم تعجب -معظم تلك الأدوار التي أداها- الجزائريين والجالية العربية، لأنه في نظرهم عكس دور العربي المتخلف والمتزمت والخائن وغيرها من الأدوار الأخرى، لأنهم لم يفرقوا بين الممثل وتلك الشخصيات، لهذا أصبح مثل المنبوذ في نظرهم، فدخل مرحة أخرى من البؤس والشقاء المستمرين.
حي القصبة العريق.. ميلاد الفيلم الذي أبرز عبقرية مخرجه
استطاع المخرج محمد لطرش في فيلم “زينات، الجزائر والسعادة” (2023) أن يجسد عمق السينما الوثائقية وعناصرها الحية، وقد انعكس هذا التجسيد في عملية التتبع الكبرى التي خاضها من باريس نحو الجزائر، ومن فيلم “تحيا يا ديدو” وشخصياته الأساسية التي ساهمت في صناعته، إلى البحث عن فضاء عرض لتجديد حب الفيلم لدى الجمهور.
لهذا انطلق المخرج محمد لطرش يبحث عن فضاء عرض، وكان في حي القصبة العتيق، حيث جرت أحداث فيلم “تحيا يا ديدو”، لهذا شعر بأنه من الناحية الأخلاقية ملزم بعرض الفيلم في هذا الحي العتيق، وكان يعد ذاكرة مليئة بالأحداث والمحطات والتاريخ، وهو من أعرق أحياء الجزائر، وتعود فترة إنشائه إلى العصر العثماني، أي قبل دخول الاستعمار الفرنسي سنة 1830.
كما أن هذا العمل سيكون تكريما مهما واستثنائيا، ليس لسكان القصبة فحسب، بل لمحمد زينات نفسه، لأنه لم تسنح له الفرصة المناسبة لفعل هذا وهي حي، نظرا لعدد من العوامل، أهمها التهميش والابعاد.
محمد زينات.. مقاتل من جبهة التحرير يقتحم ميدان الفن
لم يكن محمد زينات ممثلا ومخرجا سينمائيا فحسب، بل كان عضوا في جبهة التحرير الوطني في الثورة الجزائرية (1954-1962)، وقد حمل السلاح في وجه الاستعمار الفرنسي الغاشم، حتى أصيب في إحدى المواجهات، ثم نُقل بعدها إلى تونس للعلاج من آثار الجراح الخطيرة التي أصيب بها.
وفي تونس، أظهر ميوله الكبير إلى الفنون بشكل عام، وبسبب ذلك، قررت الجبهة إرساله إلى ألمانيا الشرقية لدراسة السينما والمسرح، ومع أنه لم يستكمل هذا المشروع الفني لعدة أسباب، فإن حبه للمسرح والسينما لم ينتهِ.
هذه المعلومات الثمينة، ساقها المخرج محمد لطرش بصوته في الفيلم، وأرفق به عددا من الصور الفوتوغرافية المهمة، ثم انتقل إلى بيت العاشق الأبدي للسينما بوجمعة كراش، الذي أدار “سينماتيك الجزائر” سنين عددا، وقد حوّلها لقلعة كبيرة لرواد السينما المستقلة والتجريبية والجديدة، ففتح فيها نقاشات للمخرج الفرنسي “جون لوك غودار”، ويوسف شاهين وغيرهما من الأسماء المهمة
وقد أشاد بوجمعة كراش في المقابلة بمحمد زينات وفيلمه، إذ رأى أنه سبق عصره، وأن فيلمه تحفة سينمائية تعكس الهوية السينمائية الحقيقية. كما أشار بأنه أنجز عمله هذا من غير سيناريو، وهذا هو البعد السينمائي الحقيقي المتجسد في المخرج الذي يبحث دائما عن الكمال السينمائي.
“تحيا يا ديدو”.. من فيلم سياحي إلى عمل فاجأ المنتجين
تليق قصة صناعة فيلم “تحيا يا ديدو” بسيناريو فيلم جديد، وقد استطاع المخرج محمد لطرش أن يعيد صياغتها في عمله “زينات، الجزائر والسعادة”، ويمكن أن نخلص هذه القصة الاستثنائية كالتالي.
كلف القائد الثوري والطبيب بشير منتوري محمد زينات بإنجاز فيلم إشهاري عن الجزائر العاصمة، لا يزيد عن 20 دقيقة، وذلك بمناسبة مرور عدة سنوات على استقلال الجزائر، وكان بشير منتوري يومئذ رئيس بلدية الجزائر الوسطى.
لكن محمد زينات كان ذا طموح كبير، فلم يشأ أن يهدر تلك الفرصة التي قدمت له، فاستثمرها على أحسن وجه، فأنجز فيلما طويلا من 81 دقيقة، وأصبح فيما بعد من عيون الأفلام في تاريخ السينما الجزائرية، لأنه استطاع أن يبرز أحياء وأزقة وشوارع العاصمة بشكل مميز ومختلف، وأعطاها بُعدا فنيا لم يكن يتوقعه أحد، وبذلك فاجأ الجميع، حتى الجهة المنتجة التي دعمت الفيلم ماديا.
الأرشيف الناطق.. بحث استقصائي ينبش في تاريخ الشخصية
لم ينجز محمد لطرش فيلما وثائقيا وحسب، بل رسم لوحة فنية تعكس عمق القصبة، وألّف قصيدة شعرية تغنّى فيها بأمجاد هذا الحي العتيق، ليكون الفيلم وثيقة أخرى تضاف إلى هذا التاريخ.
كما أنه انطلق في عمله من الذات لإنجاز الفيلم، فتتبّع فيه حيثيات عمل سينمائي آخر، من خلال البحث عن منفذ وساحة عرض تعيد ربط الجمهور بهذا العمل المنسي، واستطاع أن يصل للطفل رضوان الصغير، الذي أدى دورا مهما في “تحيا يا ديدو”.
ومع أنه رفض أولا الحديث عن الفيلم وتاريخه، فقد اقتنع فيما بعد، وتواصل مع المخرج، وأخبره بأن محمد زينات هو خاله. ولقد قدمه وقتها للجمهور وأصبح مشهورا، لكنه أحس بعدها بأنه تخلى عنه، لأنه سافر إلى فرنسا ولم يأخذه معه.
وفي نفس الوقت، استطاع المخرج أن يحصل على شهادات مهمة، منها جزء من مقابلة أُجريت مع محمد زينات في فرنسا، وقد رد وقتها على اللقب الذي يطلقونه عليه، وهو “بونيول” (Bougnoule)، وهي كلمة تعني من يخدم الفرنسيين أو يميل لهم، لكنه قال إنه لا يبالي، لأنه يعرف نفسه ويعرف ما يقدمه.
لا سيما أنه شارك في عدد من الأفلام الفرنسية، حتى باتوا يطلقون عليه “عربي السينما الفرنسية”، لأنه شارك في كثير من الأعمال، لعل أشهرها فيلم “دوبون لاجوا” (Dupont Lajoie) للمخرج “إيف بواسيه” (1975)، كما شارك مع المخرج “كلود لولوش” وآخرين كثر.
“زينات، الجزائر والسعادة”.. لوحة فنية على قماش عاطفي
عُرض فيلم “زينات، الجزائر والسعادة” في عدد من المهرجانات السينمائية، ومن ذلك مشاركته في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية بمهرجان الجونة السينمائي في دورته الـ6 عام 2023، وانطلق عرضه في الوقت الراهن في “السينماتيك” الفرنسي.
وقد اعتمد محمد لطرش في فيلمه على خاصية أسلوب التتبع والبحث والرص والكشف عن الأشياء المخبوءة، وهي معرفة التفاصيل الصغيرة، ومن ثمة العمل عليها ورصدها وتشكيلها في ثوب مغاير، لتشكيل لوحة نهائية من خلالها.
وقد عمل على إلباس هذا الواقع والوقائع ثوبا عامرا بالأحاسيس والعواطف والحنين الى الماضي، حتى يشكّل صورة عاطفية لدى المتلقي، وهي معطيات أسهمت في خلق ثنائية بين الفيلم والجمهور، وأعطته بعدا قويا، لأنه تشكل من الذات المعذبة التي سكنت محمد زينات من جهة، ومن جهة ثانية من فهم لطرش لأهمية الفيلم، ومحاولته العودة إلى الماضي وإعادة الاعتبار لتلك الشخصية السينمائية المميزة من جهة، ومن جهة ثانية لتقديم قيمة أكبر للفيلم.
ومن الناحية التقنية، استعان محمد لطرش بعدد من الوثائق السمعية البصرية، منها أفلام شارك فيها محمد زينات ممثلا، ومقابلات أجريت معه، ومنها الفيلم الخالد الذي صنعه.
وقد صنع من تلك المادة مزاوجة مهمة، رصد بها الواقع الحالي، وولّد منه مادة جديدة، فتتبع الحارات التي صُوّر فيها الفيلم، فوقف على السلالم الشهيرة والواجهة البحرية، كما رصد صورا بانورامية للقصبة والعاصمة عموما، وجعلها نافذة واسعة يطل من خلالها المتلقي، ويفهم الفضاء التي جرت فيه هذه الأحداث المميزة.
إن فيلم “زينات، الجزائر والسعادة” عمل سينمائي مهم، كان بمثابة صرخة أطلقها محمد لطرش، لاستذكار الأسماء التي صنعت مجد السينما الجزائرية، لتبجيلها وإعطائها حقها الذي تستحقه، بدلا من ركونها للنسيان والتناسي.