“مالكيريداس”.. أمهات خلف الأسوار يغتنمن الفرصة قبل يوم الفطام
أغرقي رأسك فيّ
اخترقيني
حتى تكاد عظامنا تغيب داخل بعضنا البعض
ولنكن متجاورتين
متشابكين كثنائية القلب
بهذه الكلمات الشعرية التي تنزف رعبا، تفصح الشاعرة السورية سنية صالح عن مخاوفها المحتملة، من عملية الانفصال الطوعي عن ابنتها، فستنفصلان تلقائيا ببلوغ الطفلة أعتاب الفطام، حيث الانطلاق من أسر حليب الأم، بما ينطوي عليه من دلالات، إلى رحابة العالم الخارجي.
لكن ثمة انفصالا آخر قسريا، تجري وقائعه في أمكنة مغايرة، وبعيدة عن نطاق النظر، فالنصوص القانونية المعتمدة، تجيز للطفل حديث الولادة البقاء في حضانة الأم السجينة نحو عامين، وتنتقل تلقائيا هذه الحقوق إلى ذوي القربى، وتلك هي المعضلة الحساسة.
معضلة يشق غبارها الفيلم الوثائقي التشيلي الألماني “مالكيريداس” (Malqueridas) الذي أُنتج عام 2023، وقد كتبت له النص السينمائي “باولا كاستيلو فيلاجران” و”كارينا سانشيز”، بالاشتراك مع المخرجة “تانيا غيلبرت”، وهو أول تجاربها الوثائقية الطويلة بعد رحلة مرموقة مع الأفلام القصيرة، وكلها أفلام لا يخرج مضمونها عن العلاقات الأسرية، مما يكشف عن همّ ورؤية ما تسعى إلى البوح عنهما، عبر تقنيات الوسيط السينمائي.
في فيلمنا تتسع زاوية الرؤية، وتلتقط ما تعجز العين المجردة عن النفاذ إليه، فإذا كانت الأفلام السينمائية دأبت على تناول غريزة الأمومة، عبر استعراض النماذج المعتادة منها أو غير المألوفة، فإن جميعها تقع تحت طائلة الخيال لا الواقع.
وهنا تكمن أهمية هذا الفيلم، فهو لا يستعير من الحياة بقدر ما يرصد كل ما يقع بين حدود عدسات كاميراته، من ظواهر تستحق التوقف عندها، باعثةً من بين طيات تلك المواد المصورة تأويلات وقراءات متباينة عن الأمومة، التي لا تقف حدود استحقاقها على امرأة دون أخرى.
تُرى هل تختلف درجة مشاعر الأمومة بين امرأة وأخرى؟ أو بمعنى أكثر دقة، هل تُعد الحرية الذاتية معيارا فعالا في التعبير الصحي عن الأمومة؟ أم أن ما يلازم هذه المشاعر الفياضة من ملحقات أفكار فلسفية لا طائل منها في هذه المعادلة الحساسة؟
تكمن الإجابة على التساؤلات السابقة في أحد السجون التشيلية، حيث نلتقي في رحلة قوامها نحو 75 دقيقة، مع نماذج متفاوتة للسجينات الأمهات، كل منهن أودعت قبسات من مشاعرها لدى هاتفها، تقتنص به لحظاتها النادرة مع أطفالها، أو تفصح من خلاله عما يعتمل في تلابيبها الداخلية، من أنشطة أمومية سريعة الدوران.
أمهات السجن.. شذرات سردية تستعير تقاليد المسرح
أصوات حديث مهيب الأطراف، يصاحبه بكاء طفل، بينما يتناهي إلينا همسات الأم، وفي أعقاب ذلك تنطلق أصوات السلاسل الحديدية، وباب ثقيل الوطأة يزاح بقوة جانبا، بهذه البداية اختار الفيلم أن يبدأ شريطه الصوتي أولا، ثم يعقب هذه المفتتح الصوتي انطلاق شريط الصورة، فينفتح تدريجيا على صورة فوتوغرافية لأم تحتضن ابنها الرضيع، وتلك استعارة لتقاليد المسرح، حيث تزاح الستارة تدريجيا عن عناصر التمثيل، ثم يصعدون على الخشبة فيما بعد.
هنا يماثل شريط الصورة هذه الخشبة المسرحية، ثم تطفو عليها بين حين وآخر صور متعددة، لكل صورة أبطالها، أحدهما يقع بين إطار الصورة، والآخر يقبع خارج تلك الحدود المعلنة، فقد اعتمد نسيج الفيلم على التداعي الحر، حيث الاتكاء المركزي على الصور الفوتوغرافية والمشاهد المصورة لهؤلاء السجينات.
وكل صورة أو قطعة مصورة، يرافقها التعليق الصوتي كاشف عن الجوانب الخفية لهذه الحياة، في تطبيق عملي لفكرة الشذرات والشظايا، فالبناء العام للفيلم ما هو إلا تجميعة موفقة لصور حقيقية ومشاهد واقعية للسجينات الأمهات، اقتُنصت خِلسة بعيدا عن أعين حراس السجن.
ويطلعنا الفيلم ببنائه المبتكر على فيض من الحكايات، كل منهن تنطلق من عباءة الأخرى، وهكذا في دوامة سردية لا أول لها ولا آخر، وفي استعارة حداثية لألف ليلة وليلة، حيث سطوة شهرزاد الحكائية هي ما تبقي حياتها قيد البقاء، لتتوالد السرديات في ديمومة لا يكاد يتوقف دورانها، فكل حكاية تنطلق من رحم الأخرى.
وقد ينكشف من هذا التدفق السردي غياب الرابط بين تلك الشخصيات المنسابة على الرقعة السردية، لكن بنظرة تأملية، يمكن استنباط خيط الوصال بين قصصهن، فجميعهن يشتركن في مأساة واحدة، ألا وهي حصر مشاعرهن الأمومية، التي لا تزال تبحث عن منفذ آمن تنساب عبر مسامه.
حقبة الرضاعة.. اقتناص اللحظات قبل نزع الأمومة
مع عناوين الفيلم، تتوالى أسماء كتيبة العاملين في الصفوف الخلفية، لكن ما يثير الدهشة حقا هو صعود أسماء النساء ذوات الشهادات التوثيقية، مع العلم بأنه خلال الزمن الفيلمي عمد السرد إلى إغفال الأسماء بقصدية واضحة، فالأسماء هنا لا تشكل أهمية قصوى في التعريف بالشخصيات، فما ينبع من وراء ألقابهم التعريفية من مرويات، هو ما يستحق الالتفات إليه.
وبناء على ما سبق، اختار الفيلم أن يقدم توليفته السردية التي تتكئ على شقين لا ثالث لهما، الأول يدور في إطار السجينات مع أطفالهن، اللواتي يقضين فترات عقوبتهن مع الأطفال خلال المدة القانونية المقررة، وتنطلق أمواج الصور المتعاقبة مع التعليق الصوتي لكاتبة السيناريو “كارينا سانشيز”.
أمواج الصور المتعاقبة مع التعليق الصوتي لكاتبة السيناريو “كارينا سانشيز”.
يعبر التعليق الصوتي بكلماته المتدفقة بسلاسة عن مشاعر تلك الأمهات التي تفيض قلقا مشروعا، تعود أصوله إلى المرور المتسارع لأيام الحضانة الواجبة قانونا، فبعد حلول العامين، ستتبدل هذه الحياة العادية، وتصبح السجينة تلقائيا كائنا منزوع الأمومة.
وهكذا تتدفق الصور الفوتوغرافية، والمشاهد المصورة للأطفال برفقة أمهاتهن بداخل الأسوار الموصدة، ومع أن الحيز المكاني المرصود بالكاميرات ضيق، فإن أفواج المشاعر المنطلق مكنونها تجعل المكان المحصور مساحة أكثر براحا، ومن ثم يبدو هذا الشق السردي معنيا على نحو أكثر تحديدا بالتعبير عن الأمومة الواقعية أو القريب محتواها.
ما بعد الفطام.. عالم متطرف المشاعر والأهواء
ينطلق الشق الثاني المقابل من الحكي من جعبة سرديات أكثر عمقا، فنلتقي طوائف متباينة من النساء اللواتي انتزع منهن أبناؤهن، وعندئذ يسهب السرد في فتح نوافذ حكاياته المتعددة الروافد، وهي لا تختلف في مأساوية قصصها، في تضامن وشراكة بين الظروف الحياتية الخانقة.
فنحن أمام شذرات سردية تنوعت دروبها وتفرعت، ما بين امرأة سلمت بأمان طفلها لدى أختها، وواحدة أنشأت فيما بعد حاجزا عتيدا بينهما، وأخرى أودعت طفلتها لدى زوجها الذي يمارس سلطته في منع البنت من التواصل معها.
وهنا عبر تدفق الصور التي تفصح عن مخزونها الحكائي، يدخلنا الفيلم في نسيج عالم متطرف المشاعر والأهواء، تعاني فيه هذه النسوة، لا من قسوة المكان فحسب، بل من وفرة محصول الأمومة الباحث عن من يرتوي من نبعه الفياض.
تصوير الهاتف.. لقطات مرتعدة تعكس حصار المكان
تُرى ما الذي يميز مكانا ما عن غيره؟ هل ينبع هذا التباين من الطبيعة المكانية ذاتها؟ أم أن ثمة معطيات أخرى تساهم في سلامة الحكم؟ عدسات كاميرات الهاتف ترصد وتقدم دلالات للمكان موضع التناول، سجن نسائي في بلد أمريكي جنوبي، كيف سيكون الوضع العام؟
مشاهد متناثرة قليلة الحيز الزمني، لكنها كاشفة بدقة كافية عن دلالات المكان المحاط بقسوة الحراس وغِلظتهم، ناهيك عن تلك الهامشية والعزلة التي لا تخطئها عين المتلقي، وهنا يكون اللقاء الصادم مع جغرافية الهامش، بكل ما تحويه تلك المفردة من إشارات ورموز، وستنعكس تلقائيا على قاطني هذه الأمكنة من شخصيات، يمثل الهامش ملاذها الآمن، بعيدا عن أضواء المتن.
وتفاجئنا لقطات مهزوزة الزوايا، تبين أن من اقتنصها متدثر بالخوف والذعر، وأما ما يبث في إطار الشاشة، فليس سوى إحدى المحاولات الرتيبة للتعبير عن السيطرة السلطوية، حيث حراس السجن يدهمون إحدى الزنازين، بحثا عن الممنوعات، ومن هذه الزاوية ينطلق مسار سردي فرعي، تروي صاحبته توابع ما جرى بعد إحدى حملات التفتيش من شجار مع الضباط، أفضى إلى إيداع بالحبس الانفرادي قدرا من الزمن.
ومع أن بنية الفيلم البصرية ترتكز أساسا على مشاهد الهاتف التي قد لا تصدر عنها صورة كاملة يسهل الحكم على براهينها، فإن الإحساس العام بالبيئة المتناولة تبلورت أركانه بوضوح وجلاء لا يقبل الشك.
فالإحساس الملازم بالانقباض والرهبة، يسيطران على مفاصل السرد سيطرة شديدة، ومن ثم يعدّ نسخ هذه المشاعر المختلطة إلى روح المتفرج دليل نجاح، يستوجب التحية والثناء، لكن من بين ثنايا هذه الاضطرابات الشعورية، هنالك إحساس آخر، يُتداول ضمنيا بين أوساط السجينات.
أم السجينات.. فيض المشاعر الغريزية يغمر نساء السجن
تصعد على الشاشة تدريجيا صورة امرأة ما، تبدو من هيئتها العامة على أعتاب العقد الخامس، وبعد هذه الجولة التخمينية، ينطلق التعليق الصوتي مستعيرا لسان صاحبة الصورة، فيزيح الستار عن كينونتها، فما هي إلا أم السجينات، ولا أحد يهتف باسمها، فقد توارى الاسم في الخلفية، وارتقى الوصف الأمومي في الصدارة، فالواقع أن البيئة المكانية بقسوتها ووحشتها، أوجبت فرضا على هؤلاء النسوة خلق أمومة موازية.
هذه الأمومة المستعارة، تحوي بين جنباتها خطين متوازيين، أولهما التصريف الطبيعي لفائض مشاعر الأمومة لدى هؤلاء النساء الأكبر سنا، فمنهن من أودعت قدرا كبيرا من عمرها بين أسوار تلك المؤسسة الإصلاحية، ولذلك أصبحت حاجتهن التقليدية إلى التعبير عن أمومتهن حقا مشروعا.
وفي المقابل ينشأ الخط الثاني من باطن الأول، فمستقبلات تلك المشاعر من السجينات الأحدث عمرا، كل منهن لا تزال في حاجة وطيدة إلى من يظلل عليها أجنحة الحنان والرحمة، فتبدو الطائفتان كل منهما في حاجة عاجلة وماسة للأخرى، وكأنها علاقة متبادلة تتيح لكل طرف فيها عرض بضائعه الشعورية على الأطراف المقابلة، وللجميع الحق في الشراء أو الإمساك عن التداول.
وفي هذا السياق، تنطلق صورة أخرى، تعلن صاحبتها نفسها حاملة لراية الأمومة، بعد مغادرة الأم التي ذكرنا، فهي الأكبر من الناحية العمرية بين النسوة الباقيات، وتستكمل مهام الرعاية والصحبة الطيبة، وهي تسهب في وصف علاقتها بمراهقة حديثة الوصول، وعن توليف ومواءمة مشاعرها على نطاقها المكاني الجديد، وقد استحقت لقب الأم بجدارة على كل هذه الجهود، ففي عالم تبدو القسوة فيه هي اللغة الوحيدة للتفاهم، تصبح أضواء الأمومة الخافتة هي الوسيلة الدفاعية الوحيدة المتاح جدوى بريقها.
صراعات الأمومة والحرية والتواصل.. مفاتيح قراءة الفيلم
تتدفق صور النساء بسلاسة وإحكام، وكل صورة تحوي بين إطارها بابا مواربا، يفيض داخله بنسيج متشابك من الحكايات والمصائر المتشعبة، ومن هذا التتابع السردي، تطالعنا بين السطور شفرات الصراع الوجودي، الذي تندمج بين خليطه تلك الشخصيات، سواء من تخوض معركة محسومة النتائج، للاحتفاظ بحق التواصل المشروع مع أطفالها، أو من تسعى لبناء شرنقة فعالة الحماية مع طفلها داخل أسوار السجن.
لذلك فكل هؤلاء النسوة، لديهن رصيد وافر من الصراعات، كل منها ينضح إناء حكاياتها بالعقبات والمعوقات المجانية، ويكشف عن صراع يتمحور شكله ويتبدل مع كل شخصية. فمع أن المظهر العام يتغير، فإن المضمون واحد، فالواقع أن الصراع تدور رحاه حول الحق في التعبير عن الأمومة، مهما تباينت الطرق والوسائل التعبيرية، فالمعني هنا هو سلامة وصحة البوح والتعبير عن هذا الفائض الشعوري.
ومن ثم يمكن بلمحة يسيرة من التدبر والتبصر، إدراك كنه العلاقة الضمنية بين الأمومة والحياة، فالأمومة هي التي تمنح بعطاء صكوك الحياة، فهي بإطارها المحدود ما هي إلا إمتداد للحياة بمفهومها الأشمل، وكأنهما وجهان لعملة واحدة، تنعكس هذه على تلك بتكافل وانسيابية.
وهنا يمكن الوصول إلى مفتاح قراءة الفيلم، ويقع بين 3 كلمات، هي الحرية والتواصل والأمومة، أو حرية التواصل الأمومي، وتشير أيضا لماهية الصراع الذي يحاصر بين جدرانه شخصيات الفيلم، فالحرية في التواصل والتعبير مقيدة الأطراف، سواء بمعرفة سطوة الداخل المسيطرة على جغرافية المكان، أو من القوى المضادة الخارجية التي تبدو حاضرة بقوة في ذوي القربى، وترتبط هذه العناصر ببعضها، وفي ترابطها ووحدة قوامها، تكشف عن المعاناة الإنسانية التي تحيا بين إطارها المحدود هذه النسوة.
إطار الهاتف.. مشاهد توثيقية تفرض نفسها على الإخراج
تنطلق الدقائق الأولى من الفيلم -كما ذكرنا سابقا- بالتمهيد الصوتي المؤذن بحلول ضيفة جديدة على السجن، ويغلق السرد قوسه المقابل بمشاهد مؤكِّدة للمقدمة الصوتية، فنرى طفلا تنسحب جفونه نحو بعضها، معلنةً استسلامه للنوم، بعد أن أنصت إلى همسات أمه المنومة.
وما بين القوس الافتتاحي وما يقابله على الناصية الأخرى، تتدفق الصور والمشاهد المصورة، وجميعها تلتزم بإطار محدد أقرب لشاشة الهاتف، مما يشير لسطوة انتشار وسائل التواصل والتسجيل الحداثية، فيعرض الفيلم مشاهده كلها وفق هذا الإطار المبتكر، الذي تقول عنه المخرجة: “الصور التي تصنعها السجينات، لها طبيعة الشهادة التوثيقية، مما يسمح لنا بالدخول إلى الفضاء الحميم للسجن”.
وهنا يتداخل الشكل الفني الذي اختاره الإخراج للتعبير عن رؤيته العامة، مع الهوية الفكرية للفيلم التي يتحرر فيها السرد من القوالب النمطية والمعتادة، فقد استغرق تجهيز المواد المصورة نحو 6 سنوات، جُمعت فيها الصور والمشاهد الأرشيفية من السجينات بدأب وإصرار، وبذلك يمكن فهم أواصر العلاقة بين مقدمي المواد وصناع العمل، فكل منهما يرغب في التعبير عن عالم أقل ما يوصف به هو القهر والكبت.
فالنظرة التي تحكم السياق العام هي الابتعاد عن التقييم الاجتماعي للشخصيات المتناولة، فما يظهر أمامنا على الشاشة ليس سوى الجانب الأمومي الذي ألقى بظلاله على الفيلم، وغلف إطاره بمسحة شفيفة من الرقة، انعكست تلقائيا على الأسلوب الفني الاحترافي التنفيذ.
وبقدر ما يكشف ذلك الأسلوب الفني عن موهبة صناعة، فإنه يثير تساؤلات وأفكار مؤرقة، قوامها هذا الفيضان الشعوري الممنوح إلهيا، لكل من يثبت تورطه في معية الأمومة.