“لا وجود للشر”.. انتقام الطبيعة الساحرة في قرية هادئة بجبال الألب اليابانية
تتعاطى بعض الأفلام مع الطبيعة بشكل متجاوز لكونها إطارا مكانيا له بنية جغرافية محددة، وتجعلها شخصيّة مستقلة لها حضور طاغ على السردية، فمنها يتحرك السرد وإليها يعود. وتلك تسلسلات يعززها الوجود الجوهري للطبيعة، لا بوصفه أداة تشغل حيز مُعين، بل هوية وتكوينا شاملا، يطغى على الشخصيات، ويحرك القصة بطريقة توازي مضمون البيئة الطبيعية وشكلها وإيقاعها الهادئ وانقلابها المفاجئ.
وفيلم “لا وجود للشر” (Evil Does Not Exist) للمخرج “ريوساكي هماغوتشي” (2023) ليس عن الطبيعية في صورة مجازية، بل يُجسد الطبيعة ذاتها، ويبدو في مستهله إيقاعا استشفائيا ينقلب في آخره إلى نوبة جنون.
“لا وجود للشر”.. شخصية الطبيعة التي يتحرك فيها الأبطال
يمنح المخرج “ريوساكي هاماغوتشي” فيلمه “لا وجود للشر” عنوانا مربكا وملتبسا، فلا يطرح تساؤلا بل يمنح إجابة قطعية، يرسخها بمتتالية مشهدية ذات نزعة تأملية ولقطات طويلة ممتدة، ترصد بيئة المكان وطبيعته الساكنة، لتأخذ أجزاء كثيرة منه طابعا تأمليا وأحيانا رومانسيا.
تلك الطبيعة التأملية والرومانسية، أي علاقة الأفراد ببيئتهم وشكلها وجغرافيتها تمنح الفيلم إيقاعه البطيء، فالدراما تتحرك خلف البشر، والبشر يتبعون نسق الطبيعة في تعاملاتهم اليومية ونمط عيشتهم، لذلك فالطبيعة طرف أساسي داخل السردية، طرف لها حضور هائل ومقاوم.
يدور الفيلم في متنه حول المكان، فيرصد الحياة في قرية ميزوبيكي الواقعة بإحدى مناطق جبال الألب اليابانية، وقد تخلى قاطنوها عن صخب المدينة، وانطلقوا نحو حياة أقل رفاهية وأكثر تواضعا، وفيها يعيش “تاكومي” (الممثل هتوشي أوميكا)، وهو رجل كُل المهن كما يعرّف نفسه في الفيلم، وتعيش معه ابنته “هانا” (ريو نيشيكاوا) حياة هادئة.
فجأة تأتي إحدى شركات المواهب، وتشتري أرضا مجاورة للقرية، من أجل بناء أحد معسكرات التخييم الفخمة، ومن هُنا يبدأ الصراع الذي يبدو في ظاهره صراعا باردا وآمنا، ولكنه في باطنه صراع جوهري على شكل الحياة وطبيعتها وقيمتها الأوليّة.
وبالإضافة إلى كونه متناقضا في داخله من ناحية عرض الشركة وهيكلة المشروع، فإنه تناقض محبب وضروري لإبراز الخاصية الرأسمالية؛ وهي التربح من المشروع، فالشركة قائمة على خلق تجربة مغايرة واستثنائية لعملائها، وتلك التجربة مرهونة بوجود الطبيعة شكلا وحالة شعورية، ولكن على الناحية الأخرى تهدم الشركة البنية المادية تدريجيا، وتخرب الخاصية الحيوية التي تضمن استمرارية المشروع، حتى وإن بنسب ضئيلة.
لكن الصراع هنا يخضع لنوعية المشروع ذاته، ففكرة توفير بديل مؤقت للمدينة يضمن الراحة ويوفر التجربة البرية، ويمنح تسليع الطبيعة -باتخاذها وسيلةً للربح المشروع- صلاحيته الاقتصادية وربما الاجتماعية أيضا.
سكان المدينة.. نمط حياة تؤذي الطبيعة وأبناءها
يخلق سكان المدينة ما يشبه مواءمة وملاءمة للطبيعة مع المشروع، مع بعض الخسائر الجانبية، مثل أن يصرفوا مياه خزانهم في البئر الذي يشرب منه أبناء القرية، فهذا قياسا بالطبيعة مكانا وبالمشروع تجربةً وبالأموال المصروفة ليس إلا عرَضا جانبيا وخسارة هامشية في هيكل الطبيعة الحيوي.
ولكن على الجانب الآخر، فإن هؤلاء الأفراد الذين تقوم حياتهم كلها على مياه البئر وطبيعة المكان الحيوية، يرصدون المشكلة ويشيرون إلى مكامن الخطر، لأن المساس بالطبيعة يعني المساس بدورة حياتهم اليومية، وأجسادهم وبنيتهم الاجتماعية.
ومع أن المشروع يحول تلك القرية من بلدة صغيرة مهمّشة إلى مزار سياحي ينعش القرية اقتصاديا، وربما يصبح “تاكومي” الفقير -الذي يعمل بيومه ويكسب قوته من قطع لحاء الأشجار وبعض الأعمال اليدوية- رجلا ذا رأس مال يدير عملا خاصا، لولا أنه يرفض بتاتا ذلك المشروع، لأنه يُنافي تكوينه وطبقاته الداخلية التي ربتها الطبيعة كشجرة أو نبتة أو حيوان بري.
مندوب الشركة.. نزعة للمثالية في عالم رأسمالي
يبني المخرج “هاماغوتشي” حبكته على “الآخر” أو “الدخيل”، ولكن بطريقة مختلفة قليلا، فهو لا يُشيطن الآخر بالطريقة المعتادة، بل يرصدهم رصد نماذج إنسانية عادية تنزع للمثالية، ولا سيما مندوبي شركة المواهب، لذلك تبدو إشكاليات “هاماغوتشي” معضلاتٍ ذات طابع مثالي.
فمندوبا شركة المواهب “تاكاهاشي” (الممثل ريوجي كوساكا) و”مايوزوم” (الممثلة أياكا شيبويا) يأتيان لعرض المشروع وسماع سكان المنطقة الذين يعارضون المشروع ويطرحون أسئلة ذات بعد أخلاقي ومادي. وعلى عكس المتوقع، يتعاطف مندوبا الشركة مع أهل القرية، ويحكّمان المنطق والعاطفة، فلا يدافعان عن مخططات مشروعهم، بل يتحولان إلى الكفة المقابلة، وينزع “تاكاهاشي” فجأة للعيش داخل الطبيعة، يحاول عقد صداقة مع “تاكومي” والطبيعة، بيد أن تلك النيات المثالية للتخلي عن المشروع نابعة من تعاطف فردي، أما آلية المشروع ذاتها فلا تتوقف.
والجدير بالذكر أن الفيلم يتعاطى مع مندوبي الشركة على أنهما دخيلان، حتى مع نياتهم الحسنة وسعيهم إلى إيجاد حل وسط، فالطبيعة لا تغفر للجميع، لا سيما مع تمظهرات الاختلال الطبيعي التي تخفق مع طلقات الصيادين وجثث الغزلان المتحللة في الغابة، منذ بداية الفيلم.
طبيعة لا تفرق بين الدخلاء والأبناء
يحاول المخرج “هاماغوتشي” التأسيس لهذا الاختلال المضاد لطبيعة الغابة، والمناقض لشكل وإيقاع اللقطات، بإشارات غير مباشرة لها علاقة بسكان القرية، خصوصا البنت “هانا” التي تضيع في الغابة لتنقلنا إلى الذروة، حيث يتصادم الإنسان مع الطبيعة.
ولكنها أيضا تنبهنا إلى أن الطبيعة لا تفرّق بين الدخيل والابن في عرفها السائد، فالكل دخلاء وأجانب، لذا فالخوف من الطبيعة على جمالياتها هو شيء ضروري، فغضب الجمال يحمل عنفا وقسوة بديهيين، فيبدو الأمر قلقا ذا أصول جمالية، لأن الإيقاع ذاته الذي يحاول الفيلم حفره في الأذهان إيقاع بعيد تماما عن الغضب والقسوة، بيد أنه مباغت، يسحب المرء للداخل ويسطو عليه.
وهنا تقع الخديعة، فصناع الفيلم يحاولون إبعاد المشاهد عن حالة الارتباك، ليخلقوا صدمة حقيقية تترك أثرا لما بعد الحكاية؛ شيئا يبقى وجوده في الأذهان لمدة، ويطرح أسئلة بلا إجابات، فيخلّف فجوة يحاول المشاهد ملأها فيما بعد بتصورات وأخيلة ما بعد الحكاية.
لغة الموسيقى.. تذبذب يعكس جمالية واضطراب الفيلم
تتداخل موسيقى “إيكو إيشيباشي” في السرد، وليست محفزا بديعيا يلتزم بإطار معين، بل هي صوت الحكاية كلها، صوت الفيلم الموازي لتلك اللقطات الطويلة والممتدة من الغابة، ولقباب الأشجار السماوية، ولولا الموسيقى لأخذت القصة منحى مختلفا تماما.
فلربما انجرف المشاهد مع اللقطات الطويلة، واستنام لها بشكل كامل، بيد أن موسيقى “إيشيباشي” التي يمكن توصيفها بالمزعجة مع جمالياتها وسحرها وهدوئها، لا تتخلى عن كونها محملة بقلق وارتباك، يتكشّف تدريجيا مع مرور القصة.
فمن اللحظة الأولى، تنبئ الموسيقى بحدوث واقعة درامية، حتى مع الاستهلالات التأملية، فهي تعلن عن شيء مضاد لتلك المفاهيم الروحية، ذي طابع تشاؤمي أكثر. وربما تشير إلى تفوق الطبيعة، وتجسد صوتها الداخلي، الذي يحمل من القسوة والعنف قدر ما يحمل من الجمال.
كما يمكن استيعابها على أنها تحذير ونذير شؤم، فوجود الإنسان الرأسمالي في تلك البيئة ذات الخصوصية البيولوجية والطبيعية مرهون بنهبه لها، وتهديد وجودها في الأساس لأغراض لها علاقة بضخ الأموال وفائض القيمة.
فهم لا يرون الطبيعة نموذجا حيويا جغرافيا، بل مشاريع وأرقاما وأموالا، لذلك تأتي الموسيقى تهديدا فوقيا، ناعم الشكل سلس الطبيعة، ولكنه يظل إخطارا ونذير شؤم، مع أن طبيعته الجوّانية المفرطة في الجمال تجعل المتفرج يعجب بذلك التهديد وينساق وراءه.
بناء الفيلم.. عالم سينمائي مخلص للفكرة العامة
استطاع المخرج “هاماغوتشي” خلق عالم مخلص للفكرة العامة ذات التوجه السياسي بعض الشيء، ولكنه لم يستطع خلق التوازن بين الجانب السياسي العام للفكرة وبناء شخصيات ذات أبعاد وطبقات داخلية، لها وجود حقيقي متجذر داخل السردية، وليست مجرد دمى تتهاوى على الطريق أو تتحرك لملء فراغات السرد.
فهذا الفيلم ليس فيلم شخصيات في المقام الأول، فلا توجد مشكلة في ذلك، وإنما يقع الإشكال في خلق شخصيات مبتورة من غير داعٍ درامي لذلك، بالإضافة إلى تحديدها دراميا بطريقة قلّصت من حجم فاعليتها داخل السردية.
فالمخرج “هاماغوتشي” يرصد بيئته ويخلق مزاجه الدرامي واللوني والمكاني بشكل ممتاز، ولكنه لا يسمح لخطوطه بالامتداد أبعد من مد البصر، فقد كان ممكنا أن تتطور علاقة “تاكومي” و”تاكاهاشي” إلى أبعاد تفيد القصة الأساسية، حتى على مستويات أعم وأشمل من الفاعلية اللحظية، ولكنه فضّل أن يغذي قصته بصريا بدرجات متفاوتة، وأن يجعل الطبيعة هي الإطار الخارجي والشخصية الرئيسية والقضية الجوهرية.
لهذا فجميع الشخصيات لها وجود مادي، ولكنها تفتقد للثقل الإنساني، ربما باستثناء البطل “تاكومي”، الذي نحاول فهم شخصيته على استحياء، لأنه يأخذ أكثر وقت على الشاشة، فنخلق نوعا من الرابطة تجاهه، وأما عدا ذلك، فالشخصيات ليست لها فاعلية.
نهاية مربكة.. انقلاب في الموازين يمنح الفيلم فرداته
ظل المخرج “هاماغوتشي” -خلال ما يقارب ساعتين- يسير بإيقاع هادئ، لم يحد بالموضوع أو يسرّع الإيقاع بأي شكل أو أداة إبداعية، وظلت الموسيقى تحفز الشعور المضطرب بالجمال، وظلت اللقطات الطويلة والحوارات القليلة تغذي الفيلم.
وما زال الفيلم يسير على ذلك الإيقاع، حتى دهم المتفرج بذروة مفاجأة صادمة ومغايرة للنزعة البطيئة التأملية التي غمرت الفيلم، ووجدت طريقها إلى رأس المتفرج، فجعلته يخلق سيناريوهات أقل شراسة وقسوة من الخاتمة التي صورها “هاماغوتشي”.
فقد جاءت النهاية مربكة حتى نقلت الفيلم إلى مستوى آخر تماما، وجعلته من أفضل أفلام العام، لأن المذاق الأخير الذي يخلّفه الفيلم يحمل من المرارة والغرابة ما هو كفيل بمحو طوفان المتتاليات واللقطات الشاعرية والتأملية الطويلة.
يطرح ذلك كثيرا من الأسئلة ويقلب الموازين، ويمنح الفيلم فرادته، لأنه ينطوي على تساؤلات وجودية ورمزية لها علاقة بالتعاطي مع الطبيعة مفهوما ومادة وشخصية، والاشتباك معها سواء كنا دخلاء أو أبناء، وإلى درجة يمكن أن نعتبر الطبيعة حاضنا لوجودنا ونحن غرباء، بعد أن غيرتنا المدينة وجعلتنا أجانب في الطبيعة، وما تفسيرنا الحقيقي للشر؟ هل المفاهيم التقليدية والأوليّة هي التي تحكم تعريفنا لذلك؟