“شيرلي”.. كفاح سياسية سوداء صامدة في دوامة العنصرية الأمريكية
يسرد فيلم “شيرلي” (Shirley) جانبا من سيرة حياة السياسية الأمريكية “شيرلي تشيزوم” (1924-2005)، وهي أول امرأة سوداء تُنتخب للكونغرس الأمريكي عن ولاية نيويورك، بعد حصولها على أكثرية أصوات الناخبين السود والمهاجرين فيها.
فقد اندفعت لترشيح نفسها للانتخابات الرئاسية، متسلحة بإخلاصها وقناعاتها بحق كل المواطنين -على اختلاف ألوانهم وأعراقهم- في عيش حياة كريمة، في مجتمع تسوده المساواة والعدالة، ناهيك عن حماستها لأخذ السود والمهاجرين أدوارا أكبر في الحياة السياسية، بدلا من ترك ميدانها محصورا على البيض.
لكنها عجزت عن تجاوز الانتخابات التمهيدية لاختيار ممثل الحزب الديمقراطي للتنافس على انتخابات 1972، بسبب طبيعة النظام السياسي المُفَصل على مقاس النخب السياسية التقليدية، ولا سيما الأثرياء والمتنفذين منهم، إضافة إلى النظرة الدونية والعنصرية للسود والمهاجرين.
عُرض فيلم “شيرلي” عام 2024، وهو من إخراج “جون ريدلي”، ومن إنتاج منصة “نتفليكس”، وقد أدت دور الشخصية الرئيسية باقتدار الممثلة “ريجينا كينغ”. ويكشف الفيلم عن كثير من خبايا أروقة السياسة الأمريكية في ذلك العصر، وألاعيبها العنصرية ضد السود والأقليات المكافحة لنيل حقوقها.
مقاعد البرلمان.. خريطة ليس فيها مكان للسود والنساء
يتتبع الفيلم مسار صعود “شيرلي تشيزوم” السياسي وحملتها الانتخابية لنيل أغلبية أصوات الحزب الديمقراطي في الولايات الأمريكية التي من شأنها أن تمهد الطريق أمامها، للترشح للانتخابات الرئاسية عام 1972.
وحتى يأخذ المُشاهد فكرة عن تفاصيل تلك الرحلة، يقترح المخرج “جون ريدلي” تقديم معطيات أولية، تصور صعوبة وصول مرشح أسود للكونغرس، وتزداد التحديات إذا كان ذلك المرشح امرأة سوداء.
فيذكر أنه في عام 1968 كان هناك 435 نائبا منتخبا في مجلس النواب الأمريكي، ليس منهم من السود إلا 5 نواب، وبلغ عدد النائبات 11 نائبة، ليست منهن أي امرأة سوداء.
لهذا السبب يشكل انتخابها للبرلمان عن دائرة نيويورك عام 1969 حدثا سياسيا استثنائيا، لكونها أولا معلمة مدرسة من الطبقة المتوسطة، وثانيا لكونها سوداء البشرة، تدافع عن مصالح الطبقات الفقيرة والمهمشة.
مساواة الراتب مع البيض.. معارك عنصرية في أروقة الكونغرس
بسبب مواقفها المناهضة لحرب فيتنام والمؤيدة للسود والمهاجرين، تحظى “شيرلي” بتأييد الناخبين لها، ولنفس الأسباب تثير حفيظة وكراهية السياسيين العنصريين الموجودين معها في البرلمان.
وينجلي هذا في مشهد معبّر، يظهر فيه أحد النواب البيض وهو يقترب منها أثناء مرورها في أحد ممرات الكونغرس، ثم يقول لها من غير مقدمات إنها تتقاضى راتبا شهريا يساوي راتبه، وهذا غير مقبول لديه، لكنها لم تسكت على إهاناته المبطنة والمتكررة فوجهت إليه كلاما قاسيا.
يكشف ذلك المشهد عن شخصيتها القوية، وعدم سكوتها على أي إهانة تأتي من عنصري أبيض. وهي في الوقت نفسه كانت مؤمنة بأن دورها لا ينحصر بتحسين أحوال السود والمهاجرين فحسب، بل يشمل كل الأمريكيين، سواء كانوا بيضا أو من أعراق أخرى.
اللجنة البرلمانية الخاصة بالزراعة.. رب ضارة نافعة
تواجه “شيرلي” خلال عملها أشكالا مختلفة من التمييز العنصري، فمع أنها نائبة مرشحة عن ولاية نيويورك، فإن رئيس البرلمان يوعز إليها العمل في اللجنة البرلمانية الخاصة بالزراعة، بذريعة أنها تحتاج لكسب مزيد من الخبرة التي قد تؤهلها لاحقا للعمل في لجان أكثر أهمية!
تعارض “شيرلي” ذلك الخيار بدايةً، لكنها تقبل به لاحقا بناء على نصيحة زميل لها أسود، فهو يعرف اللعبة البرلمانية وخفاياها معرفة جيدة.
وبعد سنوات تحقق نجاحا باهرا في عملها، وتثبت كفاءة تشجعها على طرح فكرة ترشيح نفسها للانتخابات الرئاسية، وتطرح فكرة ترشيحها خلال زيارة أصدقاء لها في بيتها، ممن لهم باع طويل في العمل السياسي.
اجتماع الترشيح.. إيمان بالشخص وقلق من التحديات
لم يوافق أصدقاء “شيرلي” أول الأمر على مقترحها بالمشاركة في الحملة الانتخابية لاختيار المرشح النهائي عن الحزب الديمقراطي للسباق الرئاسي، لأنهم كانوا يعرفون حجم الصعوبات التي تقف دون تحقيقه.
ومن ذلك شح الأموال التي تحتاجها أي حملة انتخابية يراد لها النجاح وتحقيق أهدافها النهائية، واطلاعهم على خريطة توزيع نفوذ قادة الحزب التقليديين في الولايات الأمريكية المختلفة، وحجم تأثيرهم على الناخبين الديمقراطيين، بحكم نفوذهم السياسي وقوة سطوتهم المالية.
لكن إصرارها على المضي بمشروعها السياسي يدفعهم للقبول بالعمل معها تطوعا، لمعرفتهم بقوة شخصيتها وعنادها لتحقيق كل ما تصبو إليه، وقد وزعت في ذلك الاجتماع مهام على أصدقائها وزوجها “كونراد” (الممثل مايكل تشيري)، فكلفت الزوج بالمهام الأمنية، بحكم عمله في ذلك المجال.
أما صديقها “أرثر هاردويك” (الممثل تيرانس هوارد)، فقد حمل على عاتقه مسؤولية الإشراف على الجوانب المالية، وقد قبِل السياسي العجوز المخضرم “ويسلي مكدونالد” (الممثل لينس ريديك) أن يكون مستشارا وناصحا مخلصا لها، مع تحفظه على مشروعها.
حملات التبرع.. سعي لجمع الأموال من أرجاء البلد
خلال الحملة الانتخابية، يظهر هؤلاء الأصدقاء معها طيلة الوقت، وينضم إليهم طالب الحقوق الشاب الأبيض “روبرت غوتليب”، إيمانا منه بقدراتها وإخلاصها الشديد للأفكار التي تحملها، وكان قد خبرها في عمله السابق معها، ولذا يقبل طوعا بتولي مسؤولية العمل الدعائي بين الطلبة والشباب.
وتشير الحسابات الأولية إلى أن حملتها كانت بحاجة إلى 300 ألف دولار أمريكي، فتفكر بتوفيرها من خلال حملات تبرع تنظمها في كافة الولايات الأمريكية، إلى جانب وضع كل ما يتوفر من راتبها الشهري في خدمة ذلك الهدف.
ولحاجة حملتها إلى خبير يدير جوانبها اللوجستية ويعرف تكتيكاتها، تُعين “ستانلي تاونسيند” لهذا الغرض، وتمنحه راتبا شهريا مجزيا. ويشرع الفريق بالعمل وكله أمل في تحقيق نتائج مرضية.
“باربارا لي”.. أخوة القناعة أعمق من أخوة الدم
يُلاحظ هنا نقص في الكتابة السينمائية، بسبب تجاهلها مراحل أخرى من حياتها، ولا سيما المرحلة التي تسبق وصولها إلى الكونغرس الأمريكي عام 1969، باستثناء وقفات قصيرة يتضح منها أنها لم تكن على وفاق مع أختها التي تراها شخصية منشغلة دوما بمشاريعها الخاصة، وتضع نفسها في المقدمة دوما، ولهذا لا تتحمس لحملتها ولا تشارك فيها.
وعلى العكس من موقف الأخت، تلعب الشابة “باربارا لي” (الممثلة كريستينا جاكسون) دورا داعما لها، لأنها تراها الشخصية التي يحتاجها السود لنيل حقوقهم، وهي تتقارب معها في حماستها لمنح الأقليات فرصا سياسية أكبر، فبها يمكنهم تغيير واقعهم السيئ الذي يعيشون فيه، ويعانون من عنصرية تعاملهم مواطنين من الدرجة الثانية.
برنامج المرأة السوداء.. مرشحة تتبنى الشعب الأمريكي كله
بسبب كراهيتها للعنصرية والتمييز العرقي، يصطف كثير من السود والمهاجرين إليها، وقد كانت حركة “الفهود السود” من أكبر المؤيدين لها والمشجعين لأعضاء منظمتهم وبقية السود لدعم ترشيحها، ومع كل ذلك لم تحظ حملتها بقبول بين أوساط الناخبين في بداية الأمر، لأسباب ترِد في السياق الدرامي.
ولعل من أكثر تلك الأسباب بروزا هيمنة الناخبين البيض الأثرياء على وسائل الإعلام، حتى أن إحدى أكبر القنوات التلفزيونية الأمريكية قررت حرمانها من قراءة بيانها الانتخابي، مما دفعها إلى رفع دعوى قضائية ضدها، وقد كسبتها في النهاية وأجبرت القناة على منحها وقتا خاصا بها، أعلنت فيه الخطوط العريضة لبرنامجها الرئاسي، ونُقل خطابها المؤثر على الهواء.
قالت “شيرلي” في خطابها إنها ليست مرشحة عن السود الأمريكيين وحدهم، مع أنها فخورة بكونها سوداء، ثم إنها ليست مرشحة عن الحركة النسائية في بلدها، مع أنها امرأة وتفخر بذلك، ثم قالت إنها ليست مرشحة عن زعماء سياسيين أو رجال أعمال أو مصالح خاصة، وإنما تخوض حملتها من غير تأييد السياسيين الكبار أو المشاهير.
فهي ترى نفسها مرشحة عن الشعب الأمريكي كله، ووجودها في العمل السياسي يشير إلى حقيقة جديدة في التاريخ السياسي الأمريكي، تريد من خلاله تعزيز بناء مؤسسات دولة تحرص على تحقيق المساواة، وتنبذ الحروب محليا وخارجيا. دولة لا مكان للعنصرية فيها.
لحظات الخذلان.. مطبات قوية على قارعة الطريق
كان من أهم العوامل التي أضعفت حملة “شيرلي” تلك الخلافات المستشرية بين الساسة السود، وانقسام مواقفهم، وقد أصابتها انتهازية بعضهم بالخذلان.
كما أن عاصفة عائلية أثقلت مسار الرحلة، فقد أثرت على علاقتها بزوجها وانتهت بانفصالهما، لأن الزوج -مع ما قدمه من تضحية ومثابرة ودعم- كان يشعر بالتهميش وعدم التثمين لموقفه، وأنها ترى راتبها الشهري ملكا لها وحدها، تتصرف به كما تشاء، وقد عبرت في لحظة غضب عن ذلك الموقف، فدفعت الزوج إلى الانسحاب بصمت.
كما أنها اكتشفت في لحظة من اللحظات أن مدير حملتها يريدها أن تتلاعب وتناور بما لا يوافق قناعاتها وقيمها، فلجأت إلى طرده، مخلفا فراغا كبيرا يربك مسار حملتها.
خلافات الساسة السود.. أطماع شخصية تضيع مخزونا ضخما
يقابل هذا المسار المتعثر تحول في موقف أختها “مريل”، فقد كانت تراقب نشاطها من بعيد، وتتيقن مع الوقت من صدق نياتها السياسية.
وقد رافق هذا المتغير الخاص تصاعد في عدد المؤيدين لها على المستوى العام، فأثمر نجاحا في بعض الولايات، لكن بسبب انتهازية بعض المنافسين السود، خسرت كثيرا من ذلك النجاح، لأن بعضهم استغل التنافس الحاصل بينهم للاقتراب من سياسيين بيض، فتنازلوا لهم عن أصوات مؤيديهم، طمعا في امتيازات لاحقة ينالونها.
وبعد ضياع الأصوات المؤيدة لها وللسياسيين السود في صفوف الحزب الديمقراطي وذهابها للمرشحين البيض، توصلت إلى قناعة بأن حملتها لم يكتب لها النجاح المطلوب، لهذا قررت الانسحاب بهدوء.
“شيرلي”.. فضح التغلغل العنصري في المؤسسات الأمريكية
يكشف فيلم “شيرلي” الآلية التي تتحكم في الانتخابات الأمريكية، وصعوبة وصول مرشحين سود أو من بقية الأعراق إلى مراكز مهمة في المؤسسات السياسية والتشريعية.
ويُبيّن أن العنصرية متغلغلة تغلغلا عميقا في المجتمع الأمريكي، وأن فوز شخصية سوداء واحدة في الانتخابات البرلمانية لا يكفي لإحداث التغيير المنشود الذي كانت تطمح إليه “شيرلي”.
ومع ذلك فقد استمرت بعملها في البرلمان عدة دورات، فأضحت خلالها مثالا يحتذي به للأجيال القادمة، وخلال حياتها السياسية لم تتخل عن مبادئها ولا عن نضالها من أجل نيل السود وبقية الأعراق حقوقهم المشروعة.