“أوراق متساقطة”.. حب عذب يكشف قبح الرأسمالية في مدينة فنلندية صغيرة
يأتي فيلم “أوراق متساقطة” 2023 (Fallen Leaves) بعد 6 سنوات من إعلان المخرج الفنلندي “آكي كوريسماكي” اعتزاله صناعة الأفلام، وهو يبدو عودةً إلى منطقة مألوفة لدى الفنلندي الأكثر لطفا في العالم.
وقد كان فيلماه الأخيران واضحين في تعليقهما على قضايا معاصرة، وهما “لي هافر” (Le Havre) الذي أخرجه عام 2011، و”الجانب الآخر من الأمل” (The Other Side of Hope) الذي أخرجه عام 2017، ويتناولان أزمة المهاجرين في أوروبا.
عُرض فيلم “أوراق متساقطة” عرضه الأول في مايو/ أيار 2024 في مهرجان “كان” السينمائي، وقد حصد 9 جوائز في رحلته بين المهرجانات العالمية، منها جائزة لجنة التحكيم بمهرجان “كان”، وجائزة الجمهور بمهرجان ميونيخ السينمائي، كما نال 55 ترشيحا منها جائزة السعفة الذهبية بمهرجان “كان”.
هذا الفيلم هو فيلم “كوريسماكي” السينمائي العشرون، وهو الجزء الرابع من سلسلة أفلام الطبقة الكادحة التي أخرجها في الثمانينيات، وتدور أحداثه في زاوية صناعية فقيرة في هلسنكي، وهي منطقة مألوفة لدى مشاهدي سينما “كوريسماكي”.
“آكي كوريسماكي”.. عودة إلى الطبقة العاملة بعد 40 عاما
يعود مخرج الفيلم “آكي كوريسماكي” هنا في فيلم “أوراق متساقطة” إلى قصصه الصغيرة عن الفنلنديين العاديين التي صنع بها سمعته الإخراجية، وهذا لا يعني أنه يبتعد تماما عن الأحداث الجارية، ففي كل مرة تشغل بطلته “أنسا” (الممثلة ألما بويستي) مذياعها، نسمع تحديثا آخر عن أنباء الغزو الروسي لأوكرانيا.
كل إطار سينمائي في الفيلم يحمل توقيع “كوريسماكي”، فهو أحد المخرجين القلائل الذين يسهل أن تلمس روحهم حتى في مشهد عابر.
وتدور وقائع أحدث أفلامه في منطقة مألوفة ومريحة للغاية، وهي ما زالت تعيش عصر ما قبل التكنولوجيا الحديثة، حيث لا يزال الناس يستمعون إلى مذياع المطبخ الضخم، ويدوّنون أرقام هواتفهم في ورقة.
عالم “كوريسماكي” هو عالم “الميلانكوليا” (أفكار سوداوية وتشاؤمية وانتحارية) المنقوعة في كؤوس الكحول، عالم تهيم فيه أرواح حزينة ووحيدة، تنطق كلماتها القليلة بنيرة محايدة ووجوه جامدة، وتتنقل شخصياته بين مساكن متواضعة وأماكن عمل غير جذابة وحانات كئيبة، متطلعين إلى الحب الذي يجسد خلاصهم.
كان “كوريسماكي” أول من وصف فيلمه “أوراق متساقطة” بأنه الجزء الرابع من سلسلة أفلام البروليتاريا (أي الطبقة العاملة) التي صنعها خلال عقد الثمانينيات، وهي “ظلال الجنة” (Shadows in Paradise) الذي أخرجه عام 1986، و”أرييل” (Ariel) عام 1988، و”فتاة مصنع الثقاب” (The Match Factory Girl) عام 1990.
“مكانه صندوق القمامة”.. رسائل قوية من أبطال القاع
في ذلك الوقت في فنلندا الثمانينيات، حين بدأ “كوريسماكي” صنع أفلامه، لم يكن ممكنا إطلاقا أن يُنتج فيلم عن عامل نظافة أو أمين صندوق بقالة، من غير استعراض أسلحة أو جريمة أو شيء آخر مبتذل بنفس القدر.
وقد كان دخول “كوريسماكي” إلى المشهد السينمائي لحظة فارقة. ففيلمه الأول في السلسلة “ظلال الجنة” -بموضوعه البسيط وبطله العادي- هو أول فيلم فنلندي يمكن للمرء أن يتحدث فيه عن قدر معين من النجاح الدولي. وكأن الزمن لم يمر على أبطاله، فهم مستمرون في أحدث أفلامه مع معاناتهم الإنسانية، في ظروف عمل قاسية وغير مستقرة، في تجنبهم للضعف وحنينهم للحب.
ينتمي “أنسا” و”هولابا” (الممثل جوسي فاتنين) كسائر أبطاله إلى الطبقة العاملة، ويكافحان عبثا لتغطية نفقاتهما القليلة، لكن “أنسا” تُطرد من وظيفتها منسقةَ صفوف في متجر بقال، لأخذها طعاما انتهت صلاحيته. وحين يخبرها مشرف العمل مبررا فصلها بقوله “هذا مكانه صندوق القمامة”، ترد عليه قائلة “ربما هو مكاني أيضا”.
ويسهّل إدمان “هولابا” للكحول طرده المستمر من وظائفه المتغيرة، فيدور في دائرة مفرغة، فهو لا يعرف هل يدمن الكحول لأنه مكتئب، أم أنه مكتئب لأنه مدمن.
سينما “كوريسماكي”.. نقد لمجتمع يَحرم المهمشين من الرفاه
يُلقي المخرج “كوريسماكي” الضوء على حياة الوحدة والكدح التي تستلب روح أبطاله. إنهم ينحنون تحت ثقل وملل أيامهم، في مجتمع يُصور على أنه كئيب ومحبط لشخصياته التي تنتمي للطرف الأدنى من السلم الاجتماعي، وتكافح هذه الشخصيات ضد آليات المجتمع التي تتآمر لإحباطهم.
تقرأ مشهدية “كوريسماكي” السينمائية على أنها نقد للأعراف الاجتماعية والسرديات الوطنية، التي تستبعد هؤلاء المهمشين والمغتربين، وتحرمهم من الوعد الخيالي لهذه المجتمعات بالرفاه الاجتماعي والاقتصادي.
ويبنى “كوريسماكي” كل سينماه -لا رباعية البروليتاريا فقط- على التعاطف الكبير مع البائسين والمنسيين في مجتمعات الرفاه الأوروبية.
خجولان يختلسان النظر في حانة.. سحر اللقاء الأول
حين يلتقي “هولابا” و”ألسا” في حانة كاريوكي، ويبدآن اختلاس النظرات، لا يكون ذلك حبا من النظرة الأولى، بل انجذابا خجولا لشخصين تستشعران عمق وحدتهما، فكل ما يحتاجه “كوريسماكي” لخلق مشهديته الرومانسية هو نظرات متبادلة، وأغنية روك وقميص أحمر كرزي، ليستعيد لون الشغف الذي غاب عن عالم ألوانه الباردة.
يؤدي لقاء الصدفة إلى علاقة مبدئية، فيتشاركان كلمات قليلة، لكن الصمت بينهما مليء بالشوق. ومع كل الكدح في سينما “كوريسماكي”، لا يحصل أبطاله على لحظات سعيدة إلا بشق الأنفس، فالعائق من أهم العناصر في بنية فيلم الكوميديا الرومانسية، وهو القوة المعارضة للحب، فيتآمر الحظ ضدهما أحيانا، ويعطل عنادهما حكاية الحب أحيانا أخرى.
لكن “هولابا” يكافح لرؤية مستقبله، فيتجاوز شرب الخمر، حين أخبرته أنها لا تريد علاقة بسكير، فقد قضى الكحول على حياة والدها وأخيها، وأما هي فتتبنى كلبا ضالا، وكأنها تعتذر عن خطأ ما.
بهجة النهاية.. انتزاع الفكاهة والشفقة من قصص يائسة
هناك دائما في أمل اكتمال الحب في سينما “كوريسماكي”، فهو يأتي دائما في لحظة مثالية تشبه السحر، وهو بذلك يحاول انتزاع الفكاهة والشفقة من سيناريوهاته اليائسة.
ففي واحد من حواراته يتحدث وكأنه يجيب على سؤال النهاية السعيدة لأفلامه، فيقول إنه يفكر دائما في نهاية حزينة لأفلامه، لكنه يشفق على أبطاله، فيغير النهاية في كل مرة بأخرى سعيدة.
كما أنه يبرع جدا في كتابة حوارات مقتضبة ومضحكة بشكل صارم، من دون أي كلمة رومانسية منمقة أو ضحكات صاخبة، كي يجد بطلاه ملاذا صغيرا من كآبة العالم حولهم، تماما كما في الأفلام.
جماليات الإيجاز.. حبكة صامتة تضج بالدفء والعاطفة
تواكب الاستمرارية المرتبطة بموضوعات أفلام “كوريسماكي” استمرارية تخص جمالياته، وهي جماليات الإيجاز، ويمكن التعرف على جمالياته فورا من خلال الحبكة البسيطة، فنجد الحد الأدنى من الحوار وحركة الكاميرا، والإضاءة والتمثيل المقتصد الذي يكاد أن يخلو من التعبير.
وهذه المائدة الخفيفة المتقشفة يرافقها فيض من موسيقى وأغنيات الروك التي تجلب الدفء والعاطفة لسينماه، وتخلق الموسيقى دوريا فواصل وأجواء فيلمه. ففي ظلال الصمت المتنامي تنبت الأغاني.
وحين التقت “أنسا” و”هولابا” أول مرة في حانة كاريوكي لم ينطقا بكلمة واحدة، لكن الأغاني التي رافقت نظراتهما حملت تعبيرات مبطنة بالكآبة والرغبة والأمل.
تعبير الصورة الصامتة.. حنين إلى زخم السينما العتيقة
تقترب جماليات الفيلم من جماليات السينما غير الناطقة، فهو يعيد للصور تعبيراتها الكامنة وزخمها، وحين أراد أن يعبر عن الزمن الذي قضاه بطله في انتظار “أنسا”، فإنه يقترب بعدسته من أعقاب السجائر التي دخنها في انتظارها.
وللتعبير عن وحدة “أنسا”، نراها دائما في إطارات تخلو من سواها، وفي شوارع خالية من الناس، أو وحيدة في شقتها المتقشفة. وحين أراد أن يؤطر وحدتها على نحو نهائي، نراها تذهب في مهمة تسوق نادرة بالمتجر، لشراء طبق آخر وأدوات طعام لرفيقها الذي دعته للعشاء.
وفي سينما “كوريسماكي”، نادرا ما تكون الحياة مثيرة أو صاخبة كما تصوّر عادة في معظم الأفلام السائدة، لكن جاذبية أفلامه تنبع دائما من الدفء الذي يشع من الأفلام الأخرى في لحظات نادرة، ومن ذلك الحنين للرفقة وتجاوز الوحدة.
دار السينما.. مفارقات في الموعد الأول
دائما ما تكون قاعات السينما مكان المواعدات الأولى، وفي سينما “كوريسماكي” تبدو مبهجة تلك اللحظات التي يتوقف فيها بطله عن متابعة الشريط السينمائي، ويبدأ في اختلاس النظر لرفيقته المنغمسة في مشاهدة الفيلم.
ففي موعدهم الأول، يقصدان دار سينما صغيرة لمشاهدة فيلم “الموتى لا يموتون” (The Dead Don’t Die) للمخرج “جيم جارموش” (2019)، ثم نرى عجوزين يخرجان من السينما بعد انتهاء العرض، فيقول أحدهما للآخر بمنتهى الجدية: هذا يذكرني بفيلم “مذكرات قس ريفي” (Journal d’un curé de campagne) للمخرج “روبرت بريسون” (1951).
فيرد الآخر: لا، إنه يذكرني بفيلم “عصابة الغرباء” (Bande à part) للمخرج “جان-لوك غودار” (1964).
ولا قرابة بطبيعة الحال بين فيلم “جارموش” الأقرب لأفلام الموتى الأحياء في السينما الأمريكية، وبين فيلمي “بريسون” و”غودار” سوى تلك القرابة الروحية والفنية التي تجمع “كوريسماكي” بأستاذيه وصديقه الأمريكي. إنها مزحة على طريقة “كوريسماكي”.
“أوراق متساقطة”.. رسائل حب وتحية إلى معلمي السينما
يستغل المخرج “آكي كوريسماكي” لقاءات بطليه المتكررة أمام السينما، ليمرر التحية لأفلام بعينها، منها:
- فيلم “لقاء قصير” (Brief Encounter) للمخرج “ديفيد لين” (1945).
- فيلم “روكو وإخوته” (Rocco e i suoi fratelli) للمخرج “لوكينو فيسكونتي” (1960).
- فيلم “المال” (L’Argent) للمخرج “روبرت بريسون” أيضا (1983).
وقد منح أيضا كلب “أنسا” المشرد اسم “تشابلن”. وهذه التحيات والغمزات هي أقرب لرسائل حب من “كوريسماكي” للسينما ومعلميه الكبار.
إن فيلم “أوراق متساقطة” الجميل والبسيط للغاية هو كوميديا رومانسية عذبة، تحمل هجاء لاذعا ومعتادا للرأسمالية. هذا الفيلم الصغير المغموس في يأس الشمال يموج بالحنين ويتلألأ بالأمل.