“الحمراء وابن الخطيب”.. أيام ربيع أشرقت فيه أنوار الفنون والعلوم العربية

في فيلم “الحمراء وابن الخطيب” تتداخل المادة التوثيقية المستندة إلى شهادات المؤرّخين، والمادة التخييلية الدرامية التي تعيد تجسيد المشاهد وتعرضها. فيصل إلينا صوت لسان الدين ابن الخطيب من خارج الإطار، حينما يتولى سرد الوقائع وشرح السّياق التاريخي نحو:
“تنتصب الحمراء شاهدة على أيام ربيع أشرقت فيه أنوار فنوننا وعلومنا..” ويستعمل ضمير الأنا نحو: “أنا ذو الوزارتين” أو “أنا لسان الدين وزير هذه الدولة”.
فيحدثنا في زمننا الراهن عن زمنه الغابر ويطلب منّا -وفق مبدأ التعاون الذي يقتضيه التواصل- التّسليمَ بهذه الوضعية المفارقة، وفي الأثناء تلقط الكاميرا مشاهد بانورامية، تتحرّك ببطء لتساير إدراكنا وهو يرتحل في الزمن، ليحل في القرن الرابع عشر.
وتساعدنا الموسيقى الهادئة على الاسترخاء وعلى تأمّل هذا الزمن وهو ينساب بهدوء، ويخلق التكامل بين المكون التسجيلي ونظيره التخييلي ضفيرةً لا تفتأ تتقدم على نحو لولبي، لتكشف لنا أكثر من سيرة، فيعرّفنا على الوزير لسان الدين ابن الخطيب، وعلى قصر الحمراء ومملكة غرناطة، وعلى الحضارة الأندلسية عامّة.
ابن الخطيب.. شذرات من سيرة الفيلسوف المتأمل والعقل النيّر
يتوسّع الفيلم في عرض سيرة لسان الدين ابن الخطيب المُلقب بذي الوزارتين، مستندا إلى أعماله الغزيرة البالغة 69 عنوانا، فيقدّمه شاعرا وكاتبا وفقيها ومؤرخا وفيلسوفا وطبيبا وسياسيا، ويجعله من أهم رجالات بني نصر، حكام مملكة غرناطة.
وعلى ألسنة الأكاديميين الإسبان يبرز الفيلم دوره السياسي، وقدرته على التخطيط الإستراتيجي، فيوصف بمهندس الدولة الإسلامية بشبه الجزيرة الأيبيرية أو “مكيافيلي” الأندلس أو بكون التّاريخ مدينا له في التعريف بماضي غرناطة، بما في ذلك الوقائع التي حدثت قبل ولادته، بل يقرّ بعضهم أنه لم يُلحق بقائمة أعظم المؤرخين في تاريخ أوروبا، إلاّ لكونه عربيا مسلما لا أكثر.

وممّا يحسب للمعالجة الفنية عملُها على إخراج نص أصيل، وهي تشكّل صوت لسان الدين ابن الخطيب، فتمنحه هويته اللغوية الخاصة، بما تضمّن في صوته من نفَس تراثي، ومن عبارات وتراكيب مستمدّة من مؤلفاته، فيبدو كأنه من منطوقه حقا.
يقول كاتب السيناريو أحمد شلبي بطين ذلك: بعض مقاطع النص نقلتها حرفا من كتابات ابن الخطيب، مثل تلك التي يصف فيها وقائع الاحتفال الشهير بالمولد النبوي، وأخرى كانت صياغتها من عندي، مستلهَمةً من الفضاء اللغوي لهذه الفترة التاريخية، وكذلك من مغزى النص الذي أرادت “إيزابيل” (مخرجة الفيلم) إيصاله إلى المشاهد، فإذا بنا أمام شاعر مرهف الحس، وفيلسوف متأمل، وعقل نيّر تشغله الهموم الكبرى التي تهم الإنسان في كل زمان ومكان.
صراع السلاطين.. لعبة شرسة أحرقت الوزير والمدينة
صُورت جميع مشاهد الفيلم في قصر الحمراء، فلا يعرض شخصية ابن الخطيب إلا وهو يشرف على بنائه، أو يدبّر الشأن العام في أروقته، فيتطاول بنيانه متحديا التحالفات المسيحية التي تهدّد وجود مملكة غرناطة. ولا ضير في استدعاء شيء من المعطيات التاريخية التي يسكت عنها الفيلم، حتى نفهم هذا التلازم بين صورة الوزير وصورة القصر.

ففي منتصف القرن الرابع عشر لم يبق في حكم المسلمين من الأندلس إلا مملكة غرناطة وجبل طارق والجزيرة الخضراء، وكان ابن الخطيب يومئذ وزيرا لحاكم غرناطة السلطان أبي الحجاج بن الأحمر النصري، ثم وزيرا لولده السلطان محمد الغني بالله بعد مقتل السلطان الأب أثناء صلاته لعيد الفطر.
وبسبب هذا السياق السياسي العاصف، سجن السلطان الجديد أخاه إسماعيل بقصر الحمراء، حمايةً لملكه منه، ولكن الأمير المسجون استطاع أن يتحرّر من محبسه بمساعدة أنصاره، فبايعوه ونصّبوه على رأس الدّولة، وألقي القبض على ابن الخطيب وأودع السجن.
ثم لما استعاد الغني بالله ملكه ثانية وأعاد وزيره إلى سالف نفوذه، اشتدت المناكفات السياسية داخل أجنحة البلاط، وزعم حينها أعداؤه من بطانة ابن الأحمر أنه جاء في أحد مؤلفاته بما يشير إلى إبطانه للكفر.

وانطلاقا من هذه الخلفيات التّاريخية يقيم الفيلم تناظرا مرآتيا بين ابن الخطيب والقصر أو الدولة، فجميعهم يخوضون معركة البقاء في سياق مُعادٍ، وجميعهم عرفوا التميّز، ووصلوا إلى ذروة المجد، ثمّ انتهوا إلى الهلاك.
فلمّا رفعت إلى قاضي غرناطة دعوى على ابن الخطيب، وافقهم واتهمه بالزندقة، وقُبض عليه في غرناطة أو هرب إلى فاس، وفي الحالين لقي حتفه محروقا أو مخنوقا، وأُحرقت كتبه. وكما هلك هو، انهارت مملكة غرناطة عام 1492، وعبثت أيادي المخرّبين زمن الفتنة بالقصر، ومحيت أعجوبة عصرها، ولم يكتشف كثير من مكوّناتها إلا في عام 1910.
“عندما تمتلك موهبة في الأندلس، فلن يقف أصلك عائقا”
اتّخذت المخرجة “إيزابيلا فرنانديز” ابنَ الخطيب الفرد نموذجا لعباقرة الأندلسي من علماء ومفكرين وأدباء، ففيه اجتمعت معارف العرب وفنونها الأصيلة من علوم وهندسة وطب ورياضيات وفلك، وجعلت قصر الحمراء اختزالا للحضارة العربية بأسرها. ولذلك لم نر في لسان الدين بن الخطيب الوزيرَ الذي يدبّر شؤون المعاش، بقدر ما كنّا نرى فيه المثقّف الذي يدبّر شؤون الفكر.
وعبر حديقة القصر “جنة العريف” التي كانت تقصد في العطل، يعرض الفيلم التقدّم الزراعي في الأندلس من تقديم للأسمدة وابتكار للأدوية المقاومة للأمراض، بطريقة بيولوجية تجعل رياضها تعلّة للحديث عن نظام الري، وتوظيف مختلف المعطيات الجغرافية والطبيعية الصعبة، لاستغلالها في الأنشطة الفلاحية.

فقد ابتكر الأندلسيون صيغا جديدة في الزراعة تحافظ على خصوبة الأراضي الجيدة، واستخدموا أساليب وتقنيات مختلفة في الزراعة والري، تلائم أنواع التربة.
لقد كانت شهادات الأكاديميين المضمّنة في الفيلم ترصد تقديس هذه الحضارة للمعرفة، فأنت “عندما تمتلك موهبة في الأندلس، فلن يقف أصلك عائقا”. وتقرّ بأن أساسيات النهضة الأوروبية عربيةٌ، وأن لغة العلم في العصور الوسطى كانت العربية، وتقدّر أنّ رؤيتها الخاصة لسكنى الوجود كانت محفّز أبنائها على هذا الإبداع، فقد كانوا يفلحون الأرض، ويكسونها خضرة وجمالا، وفي البال الجنة في السّماء.
أفلام السيرة الذاتية.. بين حَرفية الواقع وإبداع التخييل
طرحنا إشكالية تصنيف الفيلم بوصفه سيرة ذاتية لابن الخطيب، ويأخذنا سؤالها إلى سؤال آخر كثيرا ما تتغاضى عنه الدراسات السينمائية في أفلام السيرة، فإلى أي حدّ يمكننا أن نتحدّث عن هذا الجنس الفنّي في السينما؟
من المصادرات التي أسستها كتابات الذّات ورسّخها النّاقد الفرنسي “فيليب لوغون” خاصّة، أنّ السيرة الذّاتية -على خلاف السرد الغيري- لها مبدآن، هما مبدأ الحقيقة ومبدأ الهوّي الذي يقضي ميثاقه بضرورة التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية.

ومما كشفته قراءتنا للفيلم أن المخرجة “إيزابيل فرنانديز” لم تكن تقدم الحقيقي الثابت، بقدر ما كانت تخيّل الواقعي الذي يعرض ممكنا من ممكنات الحقيقة التّاريخية وتنويعا من تنويعاتها، وأنها اختارت من سيرة ابن الخطيب ما له صلة بقصر الحمراء، وبتدبير شؤون الحكم وتطوير المعرفة والعلم، فأهملت بالمقابل نسبه اليمني القحطاني، وأهملت نشأته صغيرا في مدينة لوشة غربي مدينة غرناطة.
كما أنها أهملت نفيه إلى فاس، بعد استيلاء إسماعيل على الحكم، وهو أخٌ غير شقيق للغني بالله، وكذلك سياحته بين الزوايا والطرق الصوفية في المغرب، وهربه خارج شبه الجزيرة الأيبيرية، بعد أن نجح تلميذه ابن زمرك -وهو قائد الجناح المعارض له- في استمالة الأمير وتأليبه عليه.

ثم إنها جعلت الكاميرا تتعامل مع الأحداث بحرية، فتُحل الممثل عمرو واكد بدلا من الشخصية الحقيقية، ولا يتعلق الأمر بفيلم “الحمراء وابن الخطيب” فحسب، فقد بحثت “إليزابيت برويس” في مدى قدرة الأفلام على تجسيد السيرة الذاتية، وانتهت إلى أن السينما “تفتقر إلى تلك القدرة على الملاحظة الذاتية والتحليل الذاتي”.
وخلصت إلى أن السيرة السينمائية تنتهك مبدأ الهوي الذي تقوم عليه السيرة الذاتية، إذ يقتضي العرض السينمائي أن تكون وجهة النظر خارج الإطار متخفية ما أمكن، ويظل المتفرج دائما خارج الإطار، فثمة حاجز بين الذات المدرِكة والذات المدرَكة لا يمكن تجاوزه.
“إن روح حضارتنا هي الكلمات”
يكتسب الفيلم قيمته المضاعفة من اختزاله لمسار الوجود العربي في الأندلس، فإسهام لسان الدين بن الخطيب في بناء قصر الحمراء إنما هو الجزء الذي يدلّ على الكل، فيعكس العبقرية الأندلسية بمنطق تعريف البلاغة للمجاز المرسل، وليست شخصيته إلاّ ذلك الكائن الذي يحل في الفضاء ويتحرك فيه، فيكون العنصر النّاظم الذي يجمع شتاته ويجعله ضاجّا بالحياة ويمنحه المعنى.

وبقدر ما اشتغل الفيلم بقانون المجاز المرسل، سرت في أعطافه استعارة نسقية مدارها على أن البناء المادي في قصر الحمراء تجسيد بصري للبناء الفكري والحضاري في الأندلس.
لذلك كان ابن الخطيب يكرر: “إن روح حضارتنا هي الكلمات”، أو “ستسكن كلماتنا الجدران”، وكان الفيلم سيرة لحضارة بأسرها أكثر مما هو سيرة لشخصية أو لقصر أو دولة، ومن ثم كان يستدعي التاريخ الأندلسي، ليتأمل الإنسان وهو يواجه صروف الدهر.
بناء الحمراء.. تجليات غريزة البقاء في صحف التاريخ
يقدر الفيلسوف الفرنسي “بول ريكور” في الجزء الأول من أثره الثلاثي “الزمان والسرد” أن الزمن بما هو مقولة مجردة لا يوجد في ذاته، فنحن لا نستطيع أن نمسك به لنتأمله، وإنما ندركه حين نعزله عن الأشياء والوقائع التي يتحقّق فيها.
وبهذا المعنى، لم يكن الوزير والشاعر لسان الدين “الحمراء وابن الخطيب” إلا مطية توسلت بها المخرجة، للتفكير في هذا الإنسان في لحظة من الزّمن، بحثا عن الكوني القار، فقلبت صورها على أكثر من مستوى.

فانطلاقا من بناء القصر كانت تتأمل الوجود، فقد كان ابن الخطيب ملازما للقصر مواكبا لأعمال البناء، في ظل وجودٍ عربي يحاصَر وحكمٍ ينهار. ومنه كان الفيلم يفهم الاندفاع لبناء الحمراء على أنه تجلّ من تجليات غريزة البقاء، وصرخة في وجه الزّمن بأن إسبانيا كانت يوما عربية.
فيورد في مشهد تمثيلي السلطان أبا الحجاج يوسف الأول، وهو يخبر ابنه الغني بالله محمد الخامس بأنه يبنى القصر حتى لا يُنسى ذكرُ دولته.
“لقد خسرنا كل شيء”.. قبسات من التاريخ تضيء الحاضر
تجعل المخرجة المستوى السياسي موضوع تأمل، انطلاقا من العلاقة المركبة بين ابن الخطيب ومحمد الخامس، فما بين الرجلين من حب وتعلّق ينتهي عند الاختلاف في وجهات النّظر إلى كراهية ورغبة في تدمير الآخر.
وفي هذه الصلة -وفق محلّلي الفيلم- صورة نمطية للعلاقة بين الحاكم ومستشاره، حين يكون المستشار أكثر ذكاء وحكمة، وأخرى نمطيّة للعلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة، وهي تنتهي غالبا بحتف المثقف لأنه يواجه القوة الفظّة، والحال أنه لا يملك غير القوة الناعمة.

وانطلاقا من أقوال الجدة فاطمة بنت محمد بن الأحمر، يوم جاءها حفيدها منكسرا إثر معركة طريف وتحالف الصليبيين على ملك غرناطة وملك المغرب قائلا: “لقد خسرنا كل شيء”، كانت المخرجة تتأمل الزّمن في بعده الحضاري، لتدين الحنين الذي ينبثق في النّفوس العربية كلّما برقت ذكرى الأندلس.
فأنطقت الجدة قائلة: “لنتوقف عن النّظر إلى الماضي، ولنلتفت إلى المستقبل”، فكأنها كانت تجادل عرب اليوم على لسانها، وتدعوهم ضمنا إلى إعادة الحياة إلى حضارتهم، حتى تجد مكانها اللائق بين الحضارات الفاعلة، بدل الغرق في الحنين الاكتئابي.
تجسيد الصورة المشرقة للحضارة العربية بالأندلس
توجز زاهدة محمد طه المزري في كتاب “صورة الشرق بين الفلسفة والاستشراق” دوافع الاستشراق، بقولها إن ظهور الإسلام قد عمّق لدى الغرب تقسيم العالم على المستوى العقائدي إلى قطبين، متسائلة عن مدى توصّل الدراسات الغربية إلى معرفة علمية حول الشرق، ومقدّره أنّ حاصل هذه الدراسات صورة صنعها المخيال الغربي، فجاءت محكومة بمعتقداته وتمثلاته الخاصّة للعالم وتجاربه ومصالحه، أكثر مما كانت تجسّد حقيقة الشرق الحضارية والثقافية والدينية.
وفي اتجاه معاكس لمسار الاستشراق الكلاسيكي على مستوى الدراسات النقدية أو الأعمال الإبداعية، عمِل الفيلم على الارتقاء بمعالجته الفيلمية، ليجعل سيرة ابن الخطيب تجسيدا للصورة المشرقة للحضارة العربية بالأندلس في القرون الوسطى.

وكثيرا ما كانت هذه المعالجة تصل حدّ التقاطع بين كاميرا المخرجة وصوت لسان الدين بن الخطيب في النفس الفخري الملحمي، فقوله “جمعنا بين علوم وفنون الغابرين وتلك التي أنشأناها، كي نضيء مشكاة لن يبقى حمى في الشرق أو الغرب، إلا وقد أصابه قبس من نورها”.
هذا النفَس تجسّده طريقة التصوير التي تعكس الافتتان بهذه الحضارة وما تورده من شهادات المؤرخين التي يخلص جميعها إلى أنّ المسيحيين والآسيويين وعلماء شمال أفريقيا قد كانوا يجعلون غرناطة وجهتهم، فلم تنظر إلى العربي الأندلسي باعتباره “آخر”، بل كانت تجده امتدادا لها.
ولكن نهاية ابن الخطيب ومملكة غرناطة المأساوية، أخذت الأحداث إلى نسق معاكس تماما، وحوّلت هذا البعد الملحمي إلى نفس تراجيدي.